22/07/2016 - 17:08

الموت المكرر يوميا: معنى متجلٍ في احتجاز جثامين الشهداء

ثمة قضايا "سياسيّة" تصّفر عندك المفاهيم، لتعيدها إلى مربّعها الأوّل ومنطلقها الأساسيّ، فيحرّرها من روتين " الرّوشيتات" الجاهزة مسبقًا في جعبتنا للنضال من أجلها، إنّها قضايا تعيدنا الى السّؤال الأوّل وجوهر الإنسان وجدليّة دائرة الحياة

 الموت المكرر يوميا: معنى متجلٍ في احتجاز جثامين الشهداء

ثمة قضايا 'سياسيّة' تصّفر عندك المفاهيم، لتعيدها إلى مربّعها الأوّل ومنطلقها الأساسيّ، فيحرّرها من روتين ' الرّوشيتات' الجاهزة مسبقًا في جعبتنا للنضال من أجلها، إنّها قضايا تعيدنا الى السّؤال الأوّل وجوهر الإنسان وجدليّة دائرة الحياة والموت، فماذا يعني المطالبة بنيل الحقّ في ممارسة طقوس الموت بعد أن سلبت الحياة، إن لم يكن كذلك.

ولا يضيرنا الاعتراف أوّلًا أنّ العمل السّياسيّ أو الانشغال الدّائم بشأنه يحمل ما يحمل من سيّئات ومخاطر عديدة، ما لم يُستند ويُخضع دوما لقيمة حريّة البشر، فيكاد يحوّل العديد من المسائل والقضايا إلى مجرّد 'تفاصيل' و' قضايا' بصنميّة جامدة.  هذا  دون إغفالٍ أو مسّ بأهميّته  وضرورته التّاريخيّة في دفع عمليّة التّغيير على كلّ الأصعدة، طبعًا ما دام قوامه البوصلة الصّلبة المستندة لقيم العدالة والحريّة وبتوفّر مصداقيّة حاملي المشروع، وإخضاعه للنقد المستمرّ.

إلّا أنّ أسوأ ما يحمله هذا الانكباب الدّائم على السّياسة ( أو 'ممارستها') وربّما أخطره، إلى جانب العصبيّة الفئويّة التي قد تنتج، هو خطر التّمركّز في الّتفاصيل العامّة والكبيرة، والذي قد يتطوّر لخطر أن تفقد جزء من الحسّ الإنسانيّ-الشّخصيّ، الذي قد يصل حدّ 'الإفساد الإنسانيّ' إزاء القضايا التي تشكّل من جهة جزءًا من الوعي الجمعيّ والرّأي العامّ الوطنيّ، ولكنّها تشكّل أيضًا، وبالأساس، مأساة عائلة وشخص على المستوى الإنسانيّ الأوّليّ، وفي الغالب يطغى الأوّل على الثّاني، كقضيّة إعادة جثامين أكثر من مئتيّ شهيد محتجزة لدى سلطات الاحتلال.

لوعة الفراق والفقدان هي من أشدّ ما يعتصر القلب إيلامًا على الإطلاق، هي لوعة لا تضاهيها لوعة خاصّة إذا كان الحديث عن أقرب النّاس إليك، فما بالك حين تكون هذه اللوعة لأسباب بشريّة مباشرة، أي أنّ أحدًا ما ، محتلّ ومغتصب، قرّر لك أن تحيى هذه اللوعة بقتل من تحبّ وسلب حياته-وحياتك، وما بالك أكثر حين يمنعك هذا المحتلّ من أن تحزن عليه وترثيه وتقبله القبلة الأخيرة الأبديّة، وتفصح له سرًّا بعدها كم أنت مشتاق لمحيّاه.

ليس أسوأ وأكثر إيلامًا من لوعة الفراق، إلّا منعك من ممارستها، فللحزن في هذه الحالة وظيفة وجودية بشريّة، فما بالك إزاء من يصادر على البشر حتى حقّهم في الحزن والبكاء ودفن محبّيهم، إنّها مصادرة لحاجة وجوديّة لن يشعر بها إلّا من يمارسها حقًّا، أو من انتزع حقّه في ممارستها.

إنّ عمليّة الموت، أو لنقل، استيعاب معنى ووظيفة وجوهر الموت، هي من أقسى وأكثر القضايا تركيبًا وتعقيدًا، فأنت تبحث عن جوهر ما لا جوهر له، بمعانٍ ومصطلحات هي أصلًا غير قائمة عنده، كالمكان والزّمان والوجود، هو أمر فوق هذا كلّه ولا يقاس أو يحلّل بأدواتها. لكن ثمّة طقوس معيّنة، شئنا أم أبينا، من شأنها أن تساعدك في استيعاب الأمر أو محاولة استيعاب الأمر، كطقوس ممارسة الحزن، وليس أسوأ أو أقسى من منعك لممارسة هذه الطقوس، منعك من أن تودّع من تحب باكيًا أمام سكوته الأبديّ، أن تودّعه بقبلة أبديّة ونهائيّة على وجنتيه وبين عينيه، محدّثًا إيّاه عن فجيعتك بفقده إلى الأبد، أن تشارك في حمله على كتفك، إلى مثواه الأخير، أن تلامس نعشه طيلة الدّرب المؤلم، أن تكون آخر ناظر له ومقبّل له قبل أن يدخل في عالمه الآخر. تخيّل أن تحرم من كلّ هذا وأكثر.

في سيرورة الفقدان، تمرّ عليك لحظات في غاية الألم، قبل، إبان، أثناء، وبعد الطّقوس، إلّا أنّ أكثر هذه اللحظات إيلامًا هي ما بعد الموت وما قبل الدّفن، لا شكّ أنّها أكثر الليالي والأيام والسّاعات واللحظات عبوسًا وحلكة وسوادًا على المرء، في هذه المرحلة، يطغى على المخيّلة، سؤال الجسد والتّفكير بالجسد الذي تأكّدت من وفاته للتوّ، أين يرقد؟ ماذا يحلّ به؟ ماذا يشعر؟ وتأتي مرحلة دفن الجسد فتدفن معها هذا الألم، مرحليًّا، وينتقل مركز التّفكير إلى الرّوح ومعناها وجوهرها وخلودها، ربّما كانت هذه إحدى الوظائف الاجتماعيّة الوجوديّة لطقس دفن الجثمان، لا أدري، لكن ممّا لا شكّ فيه، شئنا أم أبينا، أنّ ثمّة طمأنينة، ربّما غير منطقيّة، تحلّ وتسكن في معمان الفاجعة بعد طقس الدّفن، ربّما كانت هي مسألة إغلاق دائرة ضروريّة أو نتيجة لتنشئة اجتماعيّة، أيًّا كانت الأسباب والمسبّبات فتلك هي نتائجها.

إنّ حرمان العائلات من الانتقال إلى هذه المرحلة والمراوحة بين موت الجسد وعدم إتمام طقوس تشييعه، لهي فاجعة تضاف للفاجعة الأساسيّة، إنّها عمليّة موت يوميّ مكرّر ومأساة يوميّة مكرّرة، ومصادرة حتّى الحقّ في ممارسة الحزن، بوصفه حالة ووظيفة وجوديّة في هذه الحالة، فحقًّا، ما الإنسان دونه؟!

ولا معنى، أو معنى حقيقيًّا، للنضال والتّضامن مع العائلات الثّكلى في سبيل تحرير الجثامين المحتجزة ما لم تقرأ من هذا المنظور أو غفلته.

التعليقات