06/09/2016 - 10:55

غياب السياسة واستمرار الصراع في العالم العربي

إذا حكم العسكر غابت السياسة واختفى رجالها. حقيقة تؤكدها الخبرة التاريخية لمجتمعات عربية رزحت عقوداً تحت وطاة الحكم العسكري، فأصبحت مستباحةً من حفنةٍ من العسكريين

غياب السياسة واستمرار الصراع في العالم العربي

إذا حكم العسكر غابت السياسة واختفى رجالها. حقيقة تؤكدها الخبرة التاريخية لمجتمعات عربية رزحت عقوداً تحت وطاة الحكم العسكري، فأصبحت مستباحةً من حفنةٍ من العسكريين، يتحكّمون في مفاصلها، من دون أدنى خبرة أو دراية في إدارة الشأن المدني، خصوصاً في شقه السياسي. في سورية، كما هي الحال في مصر والجزائر، اختفت السياسة، وتراجع معها دور الطبقة السياسية المدنية إلى درجةٍ باتت فيها مقاومة هذه المجتمعات الحكم العسكري ضعيفةً، فكانت النتيجة صراعاً أهلياً كما الحال في سورية، أو إنهاك الدولة والمجتمع كما الحال في مصر والجزائر.

غابت السياسة. ولكن، استمر الصراع الذي انتقل من المستوى السياسي إلى المجتمع وفئاته وطوائفه، فلم يعد بإمكان السلطة التحكّم فيه، أو تجييره لصالحها. ويظن العسكريون خطأً بأن من شأن إغلاق المجال العام، وقمع المعارضة، وتكميم الأفواه، إيقاف السياسة ومحو القدرة على الاشتباك مع سياساتهم وقراراتهم. ولكنهم في الواقع يرحلون المسألة وقتاً، يظنونه لن يأتي، فيُفاجأون بانفجارٍ كبيرٍ يفقدهم السيطرة على السلطة والدولة والمجتمع.

في سورية، وبعد انقلاب حافظ الأسد على رفيقه، صلاح جديد، قمع المعارضة السياسية، خصوصاً بعد حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وحصوله على نوع من التأييد الجماهيري وبداية ثورته التصحيحية، كما أمّم المجال العام، وقام بتصفية معارضيه، خصوصاً داخل صفوف الجيش وحزب البعث. وتحولت سورية، منذ بداية الثمانينيات، إلى مقبرة للسياسيين، دفعت كثيرين منهم إلى الهروب من البلاد، أو الصمت على ما يحدث خوفاً من البطش. وعلى الرغم من ذلك، استمر الصراع في سورية، وتحول إلى أشكال أخرى مع سياسة التطييف، التي اتبعها الأسد، خصوصاً في الجيش والمناصب العليا في الدولة، والاعتماد على أهل الثقة، حتى وصلنا إلى مرحلةٍ لم يعد فيها في الساحة السياسية سوى مجموعة من الموالين للنظام. وعندما جاء بشار الأسد إلى السلطة، واستبشر بعضهم بإمكانية حدوث تغيير في الموقف العام للنظام من السياسة والساسة، عبرت عنه تجربة 'ربيع دمشق' أوائل العقد الفائت من الألفية الجديدة، إلا أن ذلك لم يكن سوى عمليةٍ تجميليةٍ ترقيعيةٍ لثوب العقلية السلطوية، التي وضع أسسها حافظ الأسد. لذا عندما قامت الثورة السورية، افتقدت نخبة سياسية راسخة، خصوصاً داخل البلاد، يمكنها قيادة الحراك الشعبي، والتفاوض مع النظام. وظل الاعتماد على معارضة الخارج ملمحاً بارزاً للثورة السورية. وقد نجح حافظ الأسد وابنه بشار في قتل السياسة، فكانت النتيجة ما نراه من دمار واحتراب أهلي ومأساة إنسانية لم تعرفها البشرية، منذ الحرب العالمية الثانية.

في الجزائر، وبعد انقلابه على رفيقه، أحمد بن بلة، في يونيو/ حزيران 1965، حل هواري بومدين كل المؤسسات الدستورية في البلاد تحت ادعاء 'التصحيح الثوري' (هل المشكلة في المسمّى؟!) ومارس كل أنواع الديكتاتورية والحكم الفردي، على الرغم من الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والزراعية التي قام بها طوال حكمه، الذي امتد حتى أواخر عام 1978. نجح بومدين في وأد السياسة، وتهميش القوى والرموز السياسية الأخرى، خصوصاً في جبهة التحرير، لكن الصراع بين النظام، وبالأحرى الدولة، والمجتمع لم ينته، إلى أن انفجرت الأوضاع في بداية خريف عام 1988 فيما عرفت وقتها بـ 'انتفاضة أكتوبر' التي دفعت بقدرٍ من الانفتاح السياسي أواخر الثمانينيات، ساهم في وصول الإسلاميين إلى السلطة، قبل أن يتم الانقلاب عليهم ووقف تقدمهم عام 1991، وهو ما أدى إلى دخول الجزائر في صراع أهلي مرير، راح ضحيته عشرات الآلاف من المواطنين فيما عُرف بالعشرية السوداء. ولم تخرج الجزائر من تلك الحقبة السوداء إلا بنوع من العفو والمصالحة الوطنية التي بادر إليها الرئيس الحالي، عبد العزيز بوتفليفة، مع بداية فترة عهدته الثانية في الجزائر عام 2004. ولا تزال الجزائر تعاني من غياب الطبقة السياسية التي يمكنها تقرير مصير البلاد، الذي يبدو في وضع غامضٍ، خصوصاً في ظل ما يُشاع حول مرض الرئيس بوتفليقة.

ويبدو الوضع في مصر أكثر وضوحاً، فقد كان انقلاب 1952 وما تلاه من صراع سياسي على السلطة بين العسكر بداية لإنهاء السياسة، وتجفيف منابعها في مصر، حيث تمكّن جمال عبد الناصر، بعد عدة سنوات من المناوشات مع نخبة العهد الملكي، من التخلص من القوى السياسية (الوفد، الشيوعيين، الإخوان المسلمين...إلخ) وكذلك الرموز السياسية، مثل عبد الرزاق السنهوري وفؤاد سراج الدين وغيرهم، وجرى تأميم المجال السياسي كلياً، تحت ادعاءات التركيز في معركة التنمية وتطهير البلاد من بقايا العهد الملكي. وقام عبد الناصر، طوال وجوده في السلطة، في إيجاد طبقته السياسية التي تدعم قراراته وسياساته من خلال 'الاتحاد الاشتراكي' و'هيئة الإرشاد القومي'. لذا، عندما جاء أنور السادات إلى السلطة، وقرّر فتح باب المشاركة السياسية المقيّدة، لم تكن هناك طبقة سياسية يمكنها منازعته السلطة، فكان أن بادر إلى فكرة المنابر السياسية (يمين ووسط ويسار) التي صُنعت على يديه. وعلى الرغم من ذلك، استمر الصراع في باطن المجتمع مع الدولة ونظامها السياسي، مما كلّف السادات حياته في أكتوبر/ تشرين الأول 1981. ولم يختلف عهد مبارك كثيراً عمن سبقوه، فبعد فترة قصيرة من الانفتاح الجزئي أوائل الثمانينيات، عاد مبارك إلى ممارسة كل أنواع التسلطية، من خلال تهميش المعارضة السياسية، والاستخفاف بنخبتها وطبقتها سراً وعلانية، مما أدى إلى الانفجار الكبير في 25 يناير/ كانون الثاني 2011.

اقرأ/ي أيضًا للكاتب: "ثورة مصر"... تحليلًا وتوثيقًا

ثلاث حالات عربية من دول مؤثرة، تؤكد أن محاولات العسكر وأد السياسة، والتخلص من المعارضة المدنية، كانت نتائجها كارثيةً على المجتمعات العربية، وأن تغييب الساسة لا يعني بحال أن الصراع قد انتهى، بل على العكس، تم دفعه إلى مستويات أكثر توتراً وحدةً، بشكل يهدّد بقاء الدولة والمجتمع معاً.

('العربي الجديد')

التعليقات