13/09/2016 - 09:09

سلخ الطبقة الوسطى

"تعمل عقارب وزارة العمل السعودية عكس عقارب السوق، فتخرج بنظامٍ جديد، لا يراعي حساسية المرحلة، ويتيح للشركات "التهرب" النظامي من توطين الوظائف"

سلخ الطبقة الوسطى

لم يخطر على بال السعوديين أن سرعة انحدار أسعار النفط سوف تقابلها سرعة ارتفاع تكلفة الخدمات والمعاملات الحكومية، وأن السوق لن يكون بمقدوره تحمل خفض المشاريع الحكومية، أو تأجيل بعضها، بحيث يصبح شبه عاجزٍ عن الصمود، في وجه عاصفة تراجع الضخ الحكومي. بالتالي، لن يكون باستطاعته، في المستقبل المنظور على الأقل، توليد وظائف جديدة، تُناسب حجم الباحثين عن عمل في المملكة التي يصل عدد الوافدين فيها قرابة 10 ملايين مقيم.

بين ليلةٍ وضحاها، وجد المواطن السعودي نفسه يدفع لشركة الكهرباء من جهة، وتكلفة وقود السيارة من جهة أخرى، ضعف ما كان يدفعه في الشهر الذي سبقه. ليس ذلك فقط، بل القادم أقسى، إذا ما أخذنا في الاعتبار القرارات التي يتم تداولها، من وضع تكلفةٍ على رفع النفايات، وتكلفةٍ على معالجة المصابين في الحوادث المرورية، والضريبة على الكماليات، وغيرها من خطط الخصخصة التي سوف ترهق كاهل الطبقات الوسطى والفقيرة. الأنكى أن مسار تراجع سوق العمل مسارٌ إجباري، فتراجع أسعار النفط في دولةٍ ريعيةٍ لم تحسب حساب هذا اليوم، لابد من أن يتبعه تراجعٌ في جحم الوظائف وحجم الدخول، بما سينعكس مباشرة على أداء الاقتصاد، وتالياً على قدرته على النجاة من محنة انهيار أسعار النفط.

على الرغم من كل هذه العاصفة الاقتصادية الهوجاء، وهذا التراجع المخطط له في حجم الإنفاق الحكومي الذي يطالب فيه المواطن بتحمل المسؤولية، وترك "الدلع"، سربت مجلة بلومبيرغ، الأسبوع الماضي، خبراً، يحوي تفاصيل خطة التقشف للسنة المقبلة، وقد قدّرت المجلة المبلغ الذي سوف يخفّض من موازنة العام المقبل، بـ 20 مليار دولار، سوف تشمل ليس فقط المشاريع الحكومية الجديدة، ولكن قد تصل إلى حد "دمج وزارات وإلغاء أخرى، وبيع بعض المباني الحكومية مثل بعض المدارس والمستشفيات"، كما جاء على لسان صاحب التقرير. في موقع آخر، لكن بمضمونٍ مناقضٍ لما قدمته رسالة بلومبيرغ، تناول تقرير لوكالة رويترز عرضاً قدمته إدارة أوباما الأميركية للمملكة، يشمل صفقات أسلحة بقيمة 115 مليار دولار، وهو عقد غير مسبوق خلال 71 سنة الماضية، وهذا يعطي صورةً زاهيةً عن التوجهات الجديدة التي سوف تضاعف من ميزانية التسلح على حساب التنمية والخدمات الاجتماعية.

ففي وقتٍ يعاني فيه السوق السعودي من شحٍّ في الفرص الوظيفية، تعمل عقارب وزارة العمل عكس عقارب السوق، فتخرج بنظامٍ جديد، لا يراعي حساسية المرحلة، ويتيح للشركات "التهرب" النظامي من توطين الوظائف، عن طريق الدفع المباشر للوزارة، كي تقوم هي بتحسين نسبة السعودة في الشركة. "نظامياً" طبعاً، مقابل مبلغ شهري حدّه الأدنى 3600 ريال، وحدّه الأعلى 9000 ريال، عن كل سعودي لا ترغب الشركة في توظيفه، لكنها تحتاجه لرفع نسبة السعودة وتحسين نطاقها لدى وزارة العمل. أي أن وزارة العمل قرّرت مساعدة الشركات، رسمياً هذه المرة، على التهرّب من توظيف السعوديين، عبر برنامج أطلقت عليه "السعودي الافتراضي"، وهي كلمة ملطّفة عن "السعودي الوهمي" الذي عملت الوزارة على محاربة من يمارسه طوال السنوات السابقة. ومن حيث المضمون، لا يختلف نظام "السعودي الافتراضي" أبداً عن السعودة الوهمية، تلك التي تمارسها بعض الشركات حالياً، للتهرّب من توظيف المواطنين.

ليس لدينا أدنى فكرة، إذا ما كانت القرارات الاقتصادية الأخيرة قد درست حال الطبقتين، الوسطى والفقيرة في المملكة، دراسة معمقة، قبل اتخاذ مثل هذه القرارات التي ستنهش جيب المواطن، أو مدى انعكاس هذا الارتفاع الجنوني المفاجئ في أسعار الخدمات، والذي يتزامن مع شحّ الوظائف وتراجع الأجور، على صافي دخل المواطن ومستوى معيشته. الواضح أن هذه الخطة لم تدرس بشكل كافٍ مستوى دخل المواطنين، ولا مقدرتهم على تحمل صدمةٍ من هذا النوع، تشبه، إلى حدٍّ كبير، الوصفات "العلاجية" للنيوليبرالي الأميركي، ميلتون فريدمان، لدول أميركا الجنوبية، والتي شاهدنا نتائجها الكارثية على تشيلي والأرجنتين.

في دولةٍ يشكل الرّيع عماد اقتصادها، وفي مجتمعٍ نشأت مخرجاته على سياساته (الرّيع)، لابد من أن نستوعب أن الوصفة النيولبرالية لا تناسبه (وهي لا تناسب أحداً باستثناء الاحتكاريين، بدليل أن صنّاعها تخلصوا منها مع أول أزمة مالية حصلت في دولهم) وأن الدولة لا يمكن أن تتحوّل شركة تجارية، هدفها تعظيم الربح، وأن التطلع إلى تقليل التكاليف وتعظيم الأرباح هو هدف مدراء الشركات وأصحاب رؤوس الأموال، لا رجالات السياسة.

غالباً ما قادت الأزمات الاقتصادية العالمية الدولة الرأسمالية للاستسلام، ورفع الراية البيضاء أمام دعاة التدخل في الاقتصاد، وليس العكس. إننا نترقب سنواتٍ عجافاً، سوف تتعرّض فيها الطبقة الوسطى للانكماش، والطبقة الفقيرة للسحق، خصوصاً، إذا استمرّت السياسيات النيوليبرالية في التمدّد.

(العربي الجديد)

التعليقات