02/10/2016 - 18:48

الجيش والسياسة: إشكالية عربية

في ما يلي النص الكامل لمحاضرة مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدكتور عزمي بشارة، في مستهل مؤتمر "الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي"، وفيها يطرح إشكاليات نظرية ومقاربات عملية للمؤسسات العسكرية.

الجيش والسياسة: إشكالية عربية

في ما يلي النص الكامل لمحاضرة مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدكتور عزمي بشارة، في مستهل مؤتمر 'الجيش والسياسة في مرحلة التحول الديمقراطي في الوطن العربي'، وفيها يطرح إشكاليات نظرية ومقاربات عملية للمؤسسات العسكرية العربية بصفتها أعلى من حزب أو حركة:


ليست هذه مقدمة لدراسة مجال الجيش والسياسة بشكل عام، بل محاولة في تحديد الموضوع واستنتاج بعض المقولات النظرية بناءً على تحليل عيني لبعض جوانب تدخل الجيوش العربية المباشر في الحكم. فمن الصعب، إن لم يكن المستحيل، إطلاق تعميماتٍ عابرة للزمان والمكان حول الجيش والسياسة، أي خارج السياق التاريخي بما فيه التاريخ المحلي، والثقافة، والبنية الاجتماعية وغيرها.

تروم المحاولة النقد، من دون الانزلاق إلى تعداد المساوئ بوصفها مقدمة للوعظ الأخلاقي. فرجلا النقد لا تقفان على ما يجب أن يكون، بل على ما هو قائم من علاقة بين الجيش والسياسة، ليس بوصفها خطأً، أو عارضا من عوارض الابتلاء العربي، بل نتاجا لمراحل تاريخية، وطبيعة الدولة العربية وصيرورة نشوئها وبنيتها، والبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافة. فتحليل الظواهر انطلاقا من تاريخيتها وإعادة إنتاجها نظريا، ودحض ما ينتشر من أساطير وأفكار مسبقة هو النقد الذي نقصد، أما الإجراء النقدي الذي يتلوه، فيُتَّخَذُ من خلال تبيين التوتر بين نتائج التحليل وضرورات التحول الديمقراطي عربيًا.

وتوخيا للوضوح، سنقوم بدايةً ببعض التحديدات لحصر الموضوع، ولو كان نظريا:

1. نعني بالجيش هنا ما يجمع الجيوش الوطنية الحديثة، أي القوات المسلحة المنظمة في فرق وأسلحة وفيالق وكتائب أو غيرها من التشكيلات المدربة على الطاعة بموجب تراتبية واضحة في تسلسل الأوامر من الجندي وحتى قيادة الجيش، والتي تقوم لغرض الدفاع عن دولة، وقد تتدخَّل أيضا للحفاظ على استقرارها الداخلي. ولا نقصد القوى غير النظامية المسلحة في خدمة عقيدة أو طبقة أو قضية أو حزب. كما لا نقصد أيضا فيالق فرسان يلبون الدعوة للخدمة العسكرية، ومعهم جنودهم، وينضمون لحملة عسكرية بناء على طلب الملك أو الإمبراطور، ويديرون إقطاعية في حياتهم العادية، أو يجبون الضرائب للسلطان، مع أن هذه الأخيرة سميت جيوشًا في الماضي. المقصود في هذه الدراسة هو الجيش النظامي التابع لدولة، والذي غالبا ما يرتبط به في عصرنا جيش احتياط. وحتى إذا تعزّز في الحروب وحالات الطوارئ بقوات تعبئة شعبية وغيرها، تبقى نواته الأساسية قوات نظامية دائمة مؤلفة من ضباط وجنود محترفين خاضعين لقيادة.

وربما كان الجيش النظامي الأول في التاريخ هو الجيش الانكشاري العثماني. وليس صدفة أنه بُنِيَ من أسرى وصبية مخطوفين، منتزعين من قراهم وعائلاتهم في الواقع. وأسكنوا في معسكرات خاصة خضعوا فيها لتدريب رياضي وعسكري، وتثقيف على الولاء للسلطان، ودرّب بعضهم للعمل في ديوان السلطان، ومرافقه المختلفة. ومن زاوية نظر موضوعنا، كانت هذه الأساليب هي ما يلزم فعله لتجاوز العلاقات الاجتماعية والولاءات والعصبيات التي تفصل الأفراد (الرعية) عن الحكام، وذلك لبناء ولاء مباشر للسلطان. فلم تقم دولة بعد، ولم يقم لها جيش يجمعه الولاء للوطن. والطريق الوحيد لإنتاج مثل هذا الولاء المباشر في ذلك العصر هو التبعية الشخصية للسلطان، أي ملكية السلطان لهم. وإذا نظرنا إلى تدريبهم وعيشهم المشترك في القرون الأولى للسلطنة لوجدناها الأقرب إلى تصور أفلاطون لطبقة 'حراس المدينة' في كتابه الجمهورية.

لقد تحوّلت ملكية السلطان للانكشارية إلى ملكية الإنكشارية للسلطان؛ ويحتاج تتبع هذه الصيرورة في التاريخ العثماني إلى دراسة خاصة، تتقاطع مباشرة مع موضوعنا، الجيش والسياسة. وعلى كل حال فإن جذور تدخل الجيش بمعنى القوة النظامية المحترفة في السياسة تضرب بعيدًا في التاريخ العثماني، إذ أنشأت السلطنة جيشًا محترفًا مرتبطًا بالسلطان يمكن اعتباره أول جيش مدرب محترف ومنظم في أوروبا. غير أنه ما إن بدأت بوادر الأزمات الاقتصادية والسياسية، وتجذر الانكشارية في حياة المدينة العثمانية حتى أصبح هذا الجيش عبئا على الباب العالي وقيدا من قيود أخرى تكبل يديه؛ إذ أجج تذمر السكان في الأزمات، وقاد تحركات احتجاجية في العاصمة، أو شارك فيها، وتدخل بشكل مباشر في عزل الصدور العظام، وقتل السلاطين أو خلعهم، وصولًا إلى رفض الجيش الانكشاري في العقد الأول من القرن التاسع عشر عملية تحديثه، أو حتى بناء جيش حديث بالإضافة إليه؛ وخلال ممانعته التحديث والإصلاح جرى عزل سلطانين من منصبهما، وقتل أحدهما.

لقد ازداد تدخل الانكشارية قوةً مسلحةً في شؤون الأستانة كلما تراجعت نجاعتها القتالية وعجزت عن قتال الأعداء في الثغور والذود عن السلطنة، وكلما زاد جشع قياداتها ومطالبتهم بحصص من الثروة. وتطوّر تداخل مصالح بينهم وبين فئة التجار في إسطنبول. ولاحقا أصبحت تسميةُ انكشارية صفةً تُطلَق للتدليل على التخلف والفوضى وعدم النجاعة، مع أنها كانت في الماضي تستدعي صور الامتياز والشجاعة والتفوق.

ولو أقمنا قليلا عند نص أفلاطون لمتابعة الفكرة أعلاه لوجدناه محذِّرًا من خلط قطاع المال والأعمال بالحراس لنقرأ الحوار التالي: '-ليس أضر ولا أبعث على الخجل بالنسبة إلى الراعي من أن يربي ويغذي من أجل حماية قطعانه كلابا تدفعهم شراستهم وجوعهم، أو أي عادة سيئة أخرى تعوّدوها، إلى التعرض بالأذى للماشية، فيتحولون من كلاب إلى ما يشبه الذئاب.

- وإذن فمن الواجب اتخاذ كل التدابير التي تحول دون سلوك حراسنا على هذا النحو إزاء مواطنيهم، بحيث يسيئون استخدام قدرتهم ويغدون سادة شرسين بدلا من أن يكونوا حماة يقظين'.

تمكن السلطان محمود الثاني (1808-1839) من تصفية القادة الانكشاريين، وبدءِ إعادة بناء الجيش على أساس عصري حديث، غربي في الواقع، على النموذج الفرنسي ولاحقا الألماني البروسي. وأصبح السلطان محمود أول سلطان عثماني مطلق الصلاحيات، فالجيش يتبع له بموجب نظام طاعة حديث، ولا يتدخل في قراراته. لقد أصبح الجيش مرة أخرى تابعا للسلطان مباشرة ولكن ليس بوصفه فئة اجتماعية تابعة له، بل جيشا حديث. ولم يعد يشكل حدًا من أي نوع صلاحيات السلطان، إضافة لقيود المؤسسات التقليدية الأخرى.

ومع تغريب الجيش وتعرضه لقيم ثقافية جديدة ازداد تسييسُه وتطلّعُه لدور إصلاحي في الدولة، سيما وأنه الأكثر تعرضًا لنتائج الفشل الاقتصادي والاجتماعي، عبر الهزائم التي لحقت به. ليبرز دوره الأكبر في الانقلاب الدستوري العثماني في العام 1908-1909 بإرغام السلطان عبد الحميد الثاني على إعادة العمل بدستور 1876، ومن ثم خلعه في العام 1809.

تطوّرت بنية المؤسسة العسكرية العثمانية الجديدة بشكل خاص في مرحلة التنظيمات العثمانية ولا سيما مرحلة التنظيمات الثانية، ووجهت عملية إعادة هيكلة المدارس على أساس حديث لمقتضيات بناء هذا الجيش، كما بدأ التعليم الحديث عمليا في الكليات الحربية، في البحرية وسلاح المدفعية والهندسة. وشهدت مرحلة التنظيمات تبلور التنظيمات السياسية الحزبية السرية في الجيش العثماني. وتدين عودة الدستور في العام 1908 إلى أهمها، وهي جمعية الاتحاد والترقي التي ستدشن مرحلة سيطرة الضباط العثمانيين' التنظيماتيين' على السياسة والدولة حتى انهيار الدولة العثمانية بنتيجة الحرب العالمية الأولى.

لقد خرجت العسكريات الجديدة التركية والعربية الأولى في المشرق من رحم هذه المؤسسة العسكرية التنظيماتية، وفي حين برز دور العسكرية التركية في تحطيم معاهدة سيفر(1920)، وتحرير الأراضي التركية العثمانية السابقة من الجيوش الفرنسية والانكليزية واليونانية وصولًا إلى الاعتراف الدولي بوحدة تركيا واستقلالها في معاهدة لوزان (1923)، فإن دور العسكرية العربية التي نشأت في رحم المؤسسة العسكرية العثمانية التنظيماتية (الاتحادية) برز بدايةً بالارتباط مع الحركة العربية، وبرز هذا الدور في تجربة المملكة السورية العربية (1918-1920) ببناء جيش وطني سوري-شامي حطمه الفرنسيون بعد احتلال دمشق(1920)، بينما اعتمد الملك فيصل في تأسيس الجيش العراقي في العام 1921 ركيزةً للدولة العراقية الحديثة على أولئك الضباط العرب السابقين في المؤسسة العسكرية العثمانية 'الاتحادية'. وتجدر الإشارة إلى أن جيش المملكة العربية السورية بدمشق كان جيشا شاميا بكل معنى الكلمة إذ لم يبق فيه من القادة الحجازيين إلا النزر اليسير. فكان أول جيش شامي على الطريقة النظامية الحديثة، وكان كثير من ضباطه ينحدرون من أصول تركمانية وكردية لكنهم كانوا متعربين حضاريًا ولغويًا ويرون في العروبة هوية جامعة.

كان الجيش التركي نتاج إصلاحات ذاتية وتحديث في مرحلة التنظيمات التي استمرت حوالي القرن في جهد جبار لمواجهة تحديات تطور الجيوش الغربية، أما الجيوش العربية فقد بنيت في ظل مراحل الاستعمار القصيرة نفسها. وتحكّمت في بنيتها مقاربات الدول الانتدابية وفهمها لبنية المجتمعات العربية. يستثنى من ذلك إلى حد بعيد الجيش العراقي والجيش الجزائري. فقد استقل العراق مبكرا، ونشأ تواصل فعلي بين ضباطه وضباط الجيش العربي، أما الجيش الجزائري فقد ظل حتى حكم الشاذلي بن جديد استمرارا لجيش التحرير.

وقد اتخذ بناء الجيش المصري مسار تطور مشابه للجيش التركي منذ قضاء محمد علي على آخر المماليك. ووقعت مذبحة القلعة قبل مذبحة الانكشارية، كما تأثر الجيش المصري بالتقنية العسكرية الفرنسية قبل الجيش العثماني، وذلك في العقود الأولى من القرن التاسع عشر. وتجلى هذا في نجاح الجيش المصري في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر في مرحلة محمد علي باشا في احتلال سورية. وكان هذا بالإضافة إلى النكسات المتواصلة في الصراع مع روسيا من عوامل تسريع تطوير الجيش العثماني. أما الجيش المصري فكبح تطوره، إذ بقي منذ ثورة عرابي وحتى عام 1952 مقيّدًا في ظل الانتداب البريطاني حتى انقطعت صلته بجيش محمد علي.

2. لا يوجد جيش بعيد عن السياسة بحكم تعريفه. فالجيش يتعامل يوميًا مع شؤون الحرب والدفاع، وقضايا أخرى يطلق عليها تسمية 'الأمن' و'الأمن القومي'، وتتراوح بين شؤون عسكرية محض، ومسائل متعلقة بالاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالم والإقليم والدولة. فحتى بمعناه الضيق ليس الأمنُ مفصولًا عن هذه القضايا. ولذلك فموضوع الجيش والسياسة واسعٌ. وهو قائم في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية. ولكن حالة محددة تعنينا هنا هي تطلع الجيش إلى السياسة بمعناها الضيق، أي ممارسة الحكم، والاستيلاء عليه، أو المشاركة فيه، أو اتخاذ القرار بشأنه.

ومعلوم أن قيادة الجيش في الدول الديمقراطية غالبا ما تكون مطلعة على قضايا السياسة الخارجية والداخلية، وقادرة على إجراء تقييمات وتوقعات، وقد يُطلب رأيُها المتخصص في هذه القضايا، ولكن الجيشَ يأتمِر بأوامر مؤسسات منتخبة، تمثّل هي سيادة الدولة. والفرق بينه وبين الحكومة أنه يخدم سيادة الدولة بغض النظر عمن انتخب للحكم. أي أن الحكومة بالنسبة له لا تتغير بتغير الحزب الحاكم.

عرف القرن العشرين جيوشا مسيّسة للغاية، بل مؤدلجة، في دول غير ديمقراطية، من دون أن تكون تلك الجيوش حاكمةً؛ إذ كانت منقادة في خدمة حزب حاكم تعتنق عقيدته تحديدا، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي ودول المعسكر الاشتراكي. فليست كلُّ ديكتاتوريةٍ عسكريةً. صحيحٌ أن الجيش في هذه الحالة كان مسيّسًا، وحتى عقائديًا كما يقال في بلادنا، ولكن الهدف من أدلجته ليس الحكم، بل الاقتناع بدوره في خدمة نظام حزب واحدٍ يحملُ عقيدتَه. وكان المفوضون الحزبيون وسيلةَ أدلجتِه من وحداته الدنيا وحتى قياداته العليا (وذلك، بموجب نظام القوميسار الحزبي السوفييتي في مؤسسات الجيش ووحداته من الأعلى إلى الأسفل). ويفترضُ أن يضمنَ هؤلاء تثقيفَه، و'نقاءَه' الأيديولوجي والتزامه العقيدي. وقامت محاولات في تقليد هذا النموذج في كوبا وغيرها من دول العالم الثالث. والحالة السورية (منذ صلاح جديد)، والعراقية (في مرحلة حكم صدام حسين) هي من الحالات التي نجح فيها النظام في العقود الأخيرة بتسييس الجيش، وقلد وظيفة القوميسار السوفياتية بإحداث وظيفة ضابط التوجيه السياسي الذي يتبع إلى الإدارة السياسية في الجيش بمعنى تطويعه تماما للنظام الحاكم عبر المنظمات الحزبية في الجيش، والمخابرات العسكرية التي تحولت وظيفتها من التجسس على العدو، إلى التجسس على الجيش نفسه وضباطه في وحداته كافة.

ففي بلاد الانقلابات العسكرية النموذجية العراق وسورية لم يحكم الجيش الدولة في العقود الأخيرة. والضباط الذي قاموا بالانقلاب الأخير (1968 في العراق،1970 في سورية)، جعلوا نصب أعينهم أن يكون آخر الانقلابات، وذلك ببناء جيش مستقر ذي تراتبية هرمية واضحة وموالٍ للنظام، ويخضع لرقابة أجهزة مخابرات حديثة ومتطورة، وتتغلغل فيه منظمات الحزب الحاكم. ويشرك النظامُ ضباطَ الجيش الكبار في بعض المشاورات، ويمنح بعضَهم مناصب سياسية بعد انهاء الخدمة، أو خلال خدمتهم كما في عضوية اللجنة المركزية والقيادة القطرية لحزب البعث في سورية، والأهم من ذلك أنه يشركُهم بحصة من الثروة والنفوذ، ويمنحهم امتيازات كثيرة تضمن ولاءهم، كما يفسح المجال للرتب الأدنى (يصح هذا في حالة سورية) للاستفادة من شبكة الفساد، والتهريب وغيره.

وفي الجزائر شكل الجيش قاعدة الرئيس هواري بومدين الأساسية في حكم البلاد، ولكن الجيش لم يحكم، بل حكم الرئيس بمساعدة مدنيين وعسكرين، وذلك بعد أن أعاد تشكيل جيش التحرير عمليا ليصبح جيش الحدود عموده الفقري بقيادة جماعة وَجْدة من الضباط الموالين. ومع وفاة الرئيس كان الجيش المؤسسة الوحيدة القادرة على فرض مرشحها الرئاسي الشاذلي بن جديد (الأعلى رتبة والأكبر سنًا). وهذا الأخير بنى مؤسسة الجيش، وعين هيئة أركان ومنح رتبة لواء، وقام بتسليح الجيش كما في الدول الحديثة. وأعاد الاعتبار لدور جبهة التحرير باعتبارها حزبا حاكما. وما لبث الجيش أن حكم مباشرة بعد انقلابه على الانفتاح السياسي، الذي بدأ يفلت من قبضة النظام، وأجبر الرئيس على الاستقالة، وتولى الجيش الحكم عمليا للتعامل مع آثار العملية السياسية وحالة عدم الاستقرار الاجتماعي التي تبعتها وصولا إلى ما يشبه الحرب الأهلية في الصراع مع الإسلاميين. وحكم الجيش البلاد منتقلا من مجلس رئاسي بقيادة شكلية لشخصيات من مرحلة النضال الوطني، إلى رئاسة عسكري ولكن منتخب، وهو اليمين زروال. وقد أطلق الأخير عملية الحوار الوطني، ونشأت بعدها الحاجة لاستدعاء قيادة مدنية (بوتفليفة) وإجراء انتخابات، وعملت هذه القيادة المدنية التي تحظى بشرعية حركة التحرر (والتي فرضها الجيش في الانتخابات) على إعادة بناء الجيش بحيث يتبع لها.

أما في مصر فقد حكم ضباط الجيش مباشرة بعد ثورة يوليو. ومع محاولة صياغة مؤسسة الرئاسة فوق بقية مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش، وقع صراع مع قيادة الجيش من الضباط الأحرار، أي عبد الحكيم عامر. ولم يُحسم لصالح الرئاسة ومعها الضباط بالثياب المدنية، إلا بعد هزيمة عام 1967، التي حُمِّلت مسؤوليتُها لعامر ومجموعتِه في الجيش والمخابرات. وبعد وفاة عبد الناصر، قام أنور السادات بمتابعة تعزيز مكانة مؤسسة الرئاسة وصلاحياتها على حساب الجيش فغير قياداتِه بتواترٍ لم تعرفه مصر من قبل. ولكن النظام عاد واحتاج إلى الجيش في ضبط المعارضة بعد اتفاقيات كامب ديفيد، أو ما سُمِّي ناصريا 'بالجبهة الداخلية' (وهي تسمية دالة تشي بأن البلاد في حالة حرب في الداخل والخارج، وبالتالي فالتحشيد هو القاعدة، ولا متسع للمعارضة وتعددية الآراء). ولكن المقصود هذه المرة كان تمرد الأمن المركزي في عهد حسني مبارك. وحصل الجيش منذ تولي المشير عبدالحليم أبو غزالة وزارة الدفاع (في نهاية عهد السادات وخلال عهد مبارك) على امتيازات كثيرة، بما في ذلك حقة في حساب بنكي غير حساب الحكومة، والقيام بنشاطات اقتصادية وخدماتية من طبابة وتعليم وإسكان وغيره، وذلك بحجة ضرورة تلبية حاجاته وحاجات ضباطه بعيدا عن أزمات الاقتصاد المصري، ما رفعه فوق المجتمع المصري وقضاياه؛ وتضاعفت هذه الامتيازات في مرحلة مبارك ووزير دفاعه طنطاوي، حتى تحولت إلى نوع من إدارة ذاتية اقتصادية وعسكرية للقوات المسلحة، بحيث تأسس مجتمع عسكري أو جمهورية ضباط ذات اقتصاد مواز، وشبكة خدمات خاصة. وهي ظاهرة مصرية بالغة الخصوصية.

لم يكن النظام في العراق وسورية ومصر نظامًا عسكريًا، بمعنى حكم العسكر، مع أن سورية والعراق مرتا بعملية عسكرة للنظام، وهذا مختلف عن حكم العسكر. إنه نظام طغمة يقف على رأسها حاكم فرد، ديكتاتور، مطلق الصلاحيات عمليا، وتنصاع لأوامرِه مؤسسات الدولة كلها، رغم القيود الدستورية النظرية، وبعض التوازنات الداخلية التي لا بد أن يأخذها بعين الاعتبار عند اتخاذ القرار؛ ولكنه في النهاية قراره، أو قرار من ينتدبه بمنحه سلطة وصلاحيات. فالقائد هو 'سيد البلاد'، ومصدر السلطات، حتى انتقلنا من سيادة الدولة إلى سيادة الرئيس، في مرحلة تماهي الأمرين معا. وتتألف الطغمة من المقربين والموالين له من الحزب وقادة أجهزة الأمن والجيش، ويتقاطع القرب والولاء في حالات كثيرة مع القرابة العائلية والانتماء العشائري والجهوي. وفي الحلقة الأوسع نجد رجال أعمال، وكبار بيروقراطيي الدولة والحزب، ومحاسيب مستفيدين (ومفيدين ربما!) من أصناف مختلفة.

ثمة فرق بين حكم ضباط الجيش واستبدالهم الرئيس بعد الآخر من جهة، وبين أسرة حاكمة في نظام طغيان يتبع لها الجيش ويفعل كل ما تأمره به كما في حالة سورية من جهة أخرى. لقد عزل الجيش الشاذلي بن جديد، واغتيل محمد بوضياف، وذهب على كافي وجاء اليمين رزوال ثم جيء ببوتفليقة الذي أطلق (حين أحس بقوته وبالدعم الشعبي للتغيير) عملية تغيير العلاقة بين الجيش والرئاسة. لا يمكن مقارنة هذه المرونة التي تمكن من تغيير الواجهات، والمخاطرة بتغييرات حقيقية وعمليات إصلاح، بسيادة رئيس لا يتغير ولو دمرت البلاد وهجر العباد أو قتلوا. لدينا في الحالة السورية نظام مستعد للذهاب بعيدا إلى درجة تغيير الشعب بدل تغيير الرئيس.

النموذج الأول أكثر مرونة وانفتاحا للإصلاح بواسطة تغيير القادة المدنيين والتمكين من الانتخاب لتنفيس الغضب الشعبي من النظام. فخلافا لحكم الجيش في مرحلة معينة من تاريخ الجزائر فإن نظام الطغيان السائد في سورية يستخدم الجيش أداة القمع الرئيسية ولكن ليس الوحيدة، إذ تعمل إلى جانبه وباستقلال عنه أجهزة أمنية عديدة يراقب أحدها الآخر وتخضع للحاكم الطاغي الذي لا يترك متنفسا للناس، يتمثل في تغيير الحاكم مثلا.

على كل حال ثار سؤال كبير حول توقّف الانقلابات في العقود الأخيرة في دول اعتبرت بلدان الانقلابات، أي سورية والعراق. ثم، وحين تفجرت ثورة شعبية تحديدا في سورية، لم يقع انقلاب وبقي الجيش مواليا للنظام، مستنزفا بانشقاقات فردية كثيرة، ولكن بدون شرخ عمودي من أي نوع في الجيش نفسه. خرج المواطنون السوريون بعد ان استجمعوا شجاعتهم على إثر نافذة الأمل التي فتحت في تونس ومصر وبداية الثورة في ليبيا، وفتحوا صدورهم للجيش، فأطلق حماة الديار النار عليهم. وثبت أن 'الجبهة الداخلية' بلغة هذه الأنظمة هي الجبهة الوحيدة التي استعدوا لها. لقد دخل الجيش في حالة حرب مع قسم كبير من الشعب، فتحول بذلك إلى ما يشبه الميليشيا في حرب أهلية، وظل مواليا للنظام. ولا بد أن يُسأل هنا السؤال البسيط: لماذا؟

لقد استقرت الأنظمة حتى بدا منذ سبعينيات القرن الماضي وكأن السودان هي الدولة العربية الوحيدة ذات القابلية للانقلاب العسكري البسيط (انقلاب البشير)، كذلك موريتانيا. ويتوافق هذا مع حقيقة أن عهد الانقلابات ودبابات الفجر قد ولّى في سورية والعراق والمغرب ومصر والأردن وغيرها، ويصح في اليمن منذ تولي علي عبد الله صالح السلطة. ويصدق اليوم على الدول كافة، فكيف لم يصدق على مصر؟ فبالذات في البلد التي شهدت في عصري حسني مبارك والسادات إقصاءً للجيش عن السياسة والحكم، وقع انقلاب عسكري. ولذلك يُسأل مرة أخرى السؤال البسيط: لماذا؟ وهذا هو السؤال الثاني.

وفي الحقيقة يصدق التعميم أعلاه على مصر أيضا. فانقلاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة عبد الفتاح السيسي مختلف عما عرفناه سابقا من عبد الكريم قاسم وحتى معمر القذافي وجعفر النميري مرورا بانقلابات سورية. إنه ليس انقلاب ضباط من داخل الجيش على النظام الحاكم، أو على زملائهم في حالات أخرى، بل انقلاب الجيش نفسه، أي قياداته العليا على العملية الديمقراطية، لتمسك الحكم بنفسها، وذلك في إطار النظام القائم. لم يكن انقلاب المجلس الأعلى للقوات المسلحة بقيادة عبد الفتاح السيسي، وكذلك تحرك الجيش الجزائري بقيادة خالد نزار في يناير 1992، من نوع الانقلابات التي عرفناها سابقا وتقودها تنظيمات عسكرية إيديولوجية تفرض هيمنتها على قيادة الجيش أو تستولي عليها. إنه تحرك تقوم به قيادة الجيش نفسها لوقف العملية السياسية. وذلك لحماية أسس النظام السياسي القائم من نتائجها، وأيضا لحماية امتيازات الجيش نفسه المكتسبة في ظله. إنه ليس انقلابا على النظام، بل على العملية السياسية التي أطلقها النظام نفسه مضطرا، بعد أزمات وحراك اجتماعي واسع في الجزائر عام 1988، وبعد ثورة 25 يناير في حالة في مصر. في حالة مصر شكل تحرك الجيش في 3 تموز/يوليو 2013 انقلابا على الرئيس المنتخب، وعلى الديمقراطية؛ أما في الجزائر فجرى التحرك بالتنسيق مع الرئيس الشاذلي بن جديد الذي استقال أو اضطر إلى الاستقالة بعد تبين نتائج الدورة الأولى من الانتخابات البرلمانية في ديسمبر 1991. لم يودع الرئيس الشاذلي السجن بعد اضطراره للاستقالة، وهو الذي عين خالد نزار رئيسا للأركان ووزيرا للدفاع. فلم يكن الانقلاب في الحقيقة عليه، بل على العملية السياسية التي لم يتحكَّم بنتائجها، وأسفرت عن احتمال شبه مؤكد لصعود غالبية تشريعية بقيادة جبهة الإنقاذ الإسلامي بعد تبين نتائج الجولة الأولى للانتخابات.

وقدم الانقلاب المصري للباحثين 'مفاجأة' أخرى وهي خدمة المثقفين الذين يرطنون بالديموقراطية والليبرالية لهذا الانقلاب، وذلك ليس على سبيل الخوف والتقية، بل على سبيل التسويق والتبرير في ما يمكن وصفه بخيانة المثقفين للديموقراطية، وهي من أكبر وأوضح خيانات المثقفين العرب الجماعية في القرن العشرين، وأشدها أثرًا (وربما حل الخوف والتقية مؤخرا محل التسويق والتبرير، فبعد أن أدرك بعضهم طبيعة النظام الانقلابي كان قد طغى وتجبّر). وحدث في الجزائر مثل ذلك قبل ما يقارب الثلاثة عقود حين بارك المثقفون الحداثيون إجهاض العملية الانتخابية. والقضية ذاتها تتكرر باستمرار، ألا وهي خوف النخب الحاكمة والمعارضة من صعود قوى جديدة بخطاب سياسي وثقافي جديد، قد لا تغير الحاكمين فحسب، بل أيضا أسس النظام ونمط الحياة كله.

ولا شك أن انتهاء الانتخابات العربية الحرة كلها بانقلابات عسكرية منذ السودان عام 1989، والجزائر عام 1991-1992، وإشكالية الإسلاميين كقوة رئيسية سياسية ثقافية في المجتمعات العربية، وعلاقتهم الملتبسة بالديمقراطية، والسلبية بمبادئها، تشكّلان سوية معضلتين رئيسيتين يفترض أن تشغلانا عند بحث التحول الديمقراطي في منطقتنا. وأضيف إلى ذلك معضلة ثالثة هي انقسام النخب السياسية العربية، وحتى المجتمعات، وعدم تمكن مؤسسات الدولة القائمة من احتوائها في حالة التحرر المرحلي من الاستبداد والحكم السلطوي. خذ مثلا 3 فترات تعددية ديمقراطية نسبيا في السودان من الاستقلال، لم تستقر على صيغة ائتلافية أو غيرها لحكم البلاد. فقد تبع كل منها انقلاب عسكري مدعوم من حزب سياسي أو أكثر، وحكم عسكري (تخللته هو ذاته محاولات انقلابية). وفي رأيي لم تتفق النخب السياسية المدنية في السودان منذ الاستقلال على طبيعة النظام وهويته، كما سادت فيه صراعات متعلقة بحدوده وتركيبته الإثنية الجهوية (جنوب السودان، دارفور، وغيرها). في هذه الحالة بدا الجيش القوة القادرة على فرض الوحدة بالقوة، الوحدة القسرية من أعلى، وليس الاتحاد والاندماج القائم على شرعية الدولة ومؤسساتها.

يبدو حكم العسكر في هذه الحالة وكأنه قدرة الجيش على فرض العام على الخاص، والوطني على الفئوي، والدولة على الفئات المتنازعة. لكن الجيش السوداني نفسه كان مسيسًا ومخترقا من الأحزاب الحديثة مثل الأحزاب الشيوعية والإسلامية والقومية، أو الأحزاب ذات العمق الطائفي بالمعنى السوداني كما بينت الانقلابات المتكررة، كما أنه لم يتمكن من فرض نظام حكم شرعي يحظى باتفاق السودانيين.

بالتطرق إلى انقلاب 3 يوليو 2013 في مصر قمنا بالتمييز الأخير بين انقلاب قيادة الجيش، أي النظام في الواقع، على عملية التغيير وإجهاضها من جهة، وانقلاب ضباط متوسطي الرتب غالبا من داخل الجيش نفسه على النظام، بما فيه قيادة الجيش العليا نفسها، من جهة أخرى. ولأن الحديث سوف يدور حول الانقلابات العسكرية من الأهمية أن نعرّف الانقلاب، وهو ما يحتم علينا المرور بتمييزه عن الثورة.

والحقيقة أنه أصبح دارجا بالعربية إطلاق تسمية انقلاب على الانقلابات العسكرية. مع أن التسمية نفسها تطلق بالفارسية والتركية على التحركات الشعبية الكبرى لتغيير نظام الحكم التي تسمى عادة ثورة بالعربية. فخلافا للفارسية والتركية تستخدم العربية مفردة ثورة، وليس انقلاب، كترجمة لـrevolution. ولكن كلمة انقلاب قد تعني أمرا قريبا من التجديد الثوري، أو التحول الثوري بالعربية أيضا، فيقال انقلاب فكري وسياسي وثقافي... الخ.

وبعيدا عن التعريفات العلمية استخدمت أيضا كلمة ثورة في وصف أي تمرد أو عصيان شعبي من خارج النظام ضد حاكم، كمرادف لانتفاضة أو قَوْمة أو غيرها. ولكنها في الاستخدام المصطلحي تعني غالبا تحرك شعبي واسع لإسقاط نظام الحكم. ونحن غالبا ما لا نكتفي بحصول التحرك نفسه، بل نعتبر التغيير الفعلي للنظام هو اكتمال الثورة أو نجاحها. ولذلك يدور دائما نقاش هل يستحق تحرك شعبي واسع لتغيير النظام تسمية ثورة، إذا فشل أو قمع ولم ينته بتغيير النظام؟ وهذا مصدر التباس كبير، فالبعض لا يسمي الانتفاضات الشعبية من خارج النظام بهدف تغييره ثورة إلا إذا نجحت في ذلك. والبعض الآخر لا يسميها ثورة إلا إذا سيطرت عليها قيادة ذات أيديولوجية وفرضت تصورا محددا لطبيعة النظام بعد الثورة.

أما الانقلاب العسكري فيأتي من داخل النظام وغالبا من الفئة الاجتماعية الأعلى تنظيمًا وهي فئة القوات المسلحة، وغالبا ما ينتهي بتغيير الحاكم مع الحفاظ على النظام، وقد يكون هدفه الحفاظ على النظام أصلا. ولكن ثمة حالات أطلق فيها الانقلاب صيرورة تغيير تحالفت فيها السلطة الانقلابية مع قطاعات اجتماعية متضررة لتغيير النظام، وجرى تغييره فعلا.

وقد تموهت انقلابات كثيرة بلقب الثورة سواء أقادت إلى مثل هذا التغيير أم لا. ففي العقود الخمس أو الستة الأخيرة اكتسب مصطلح ثورة عموما بعدا معياريا إيجابيا في مقابل البعد السلبي للفظ الانقلاب.

ومن المهم التأكيد هنا، أنه من ناحية الديمقراطية والتحول الديمقراطي لم يثبت ان الثورة الشعبية أكثر كفاءة للوصول بمجتمع ما نحو الديمقراطية، من الإصلاحات من أعلى سواء أقامت بها قيادة عسكرية بعد انقلاب أو قيادة سياسية، أو كلاهما سوية. فالثورات ممن زاوية نظر الديمقراطية مخاطرة كبرى قد تقود إلى فوضى أو أنظمة شمولية، وحتى إذا انتهى بها المطاف إلى الديمقراطية فهذه لا تتولد عن الثورة مباشرة، بل بعد سلسلة إصلاحات دستورية وقانونية وحوارات ومساومات سياسية تتلوها. الثورة تغير النظام، والإصلاح يبني الديمقراطية بعد تسلم السلطة. وهذه الجدلية ليست دائما واضحة للثوريين. ويفترض أن يمتلك الثوريون الديمقراطيون تصورا ليس فقط للثورة بل أيضا لعملية الإصلاح السياسي بعدها.

ولهذا فنحن لا نقصد المدح أو الذم عند التمييز بين الانقلاب العسكري والثورة الشعبية. وما يهمنا في هذه الورقة هو التمييز بين الانقلاب لتغيير قيادة والحفاظ على النظام، والانقلاب الذي يأتي ضمن عملية تغيير اجتماعي سياسي.

الانقلابات الأولى

منذ أن اعتُبِر الحكم الأول للعسكر في الحداثة وهو تحرك أوليفر كرومويل (1599-1658)(الذي أصدر قرارا بإعدام الملك تشارلز الأول عام 1649، وحل برلمانه نفسه، وأصبح 'ديكتاتورا عسكريا' على حد تعبير ونستون تشرتشل)، مرورا بالانقلاب العسكري الأهم في أوروبا الذي قام به نابوليون على سلطة الإدارة، وحتى مصطفى كمال أتاتورك (الذي نظم حركة مقاومة عسكرية ضد قوات الحلفاء المحتلة، والقوات اليونانية الغازية والتي أنزلت في إزمير وتوجهت إلى الداخل، واصطدم أيضا مع قوات السلطان الذي خضع لهم قبل معاهدة سيفر وبعدها)،لعبت الجيوش دورا في تأسيس الدولة الحديثة، وتسريع عمليات الانتقال من مرحلة إلى أخرى. وهذا تحديدا دور نابوليون بعد الثورة الفرنسية، ودور أتاتورك بعد إخفاق الأيديولوجيا البرنامجية الطورانية للقوميين الأتراكPAN TURKISME، وهزيمة حكومة الاتحاد والترقي في الحرب العالمية الأولى وخسارة الامبراطورية. فورث مصطفى كمال حداثية ومركزية التنظيمات لكن مع قلب جذري لأيديولوجيتها الطورانية القومية الشاملة في مرحلة حكم الاتحاد والترقي(1908-1918)، بالتحول إلى بناء دولة قومية تركية. وبرز دور التنظيمات في صلابة قوة العسكرية التركية، وفي أثر المركزية الإدارية للدولة العثمانية في الأناضول، بأعلى مما كانت عليه في بلاد الشام العثمانية مثلًا، أما التجربة العسكرية العربية القصيرة خلال حكم المملكة السورية العربية فلم تكن تمتلك هذه التقاليد الدولتية.

وقد تدخل الجيش عموما لقيادة عملية التغيير في مراحل الحرب الاهلية وعدم الاستقرار السياسي. ومع أن انقلابه جاء في بعض الحالات أشبه بانتصارٍ في حرب أهلية، وفي حالات أخرى تدخل بحجة منع حرب أهلية، إلا أن الدافع الأخير هو العالق في الأذهان حتى عصرنا. وقد بين سامويلفاينر حالات التدخل بسبب الفراغ الناتج عن ضعف المؤسسات وعجز السياسيين، ووجود ظرف كهذا وميل فكري سياسي لدى الجيش للتدخل، وذلك في كتابه المعروف 'الرجل على صهوة الحصان'.

ويخلق الميل للتدخل في رأينا منذ تأسيس الجيوش الحديثة وارتباطها بفكرة الدولة، إذ بدت وكأنها تمثل الدولة في مقابل الجماعات والفئات، والواحد في مقابل التعدد، والنظام مقابل التشتت والصالح العام في مقابل المصالح الجزئية للقوى الاجتماعية والسياسية. وهي فوق كل هذا تمتلك القوة. والحقيقة أن هذا قد يكون صحيحا إذا كانت مهمة الجيش مؤقتة لتحقيق السلم الأهلي بحيث يضع نفسه في خدمة الدولة بعد تنفيذها. ومن دون ذلك يفصل خيط رفيع بين ادعاء الجيش أنه يمثل الصالح العام وأن يصبح هو الصالح العام؛ وبين ادعائه أنه يجسد الدولة وأن يكون هو جسد الدولة، وبين تمثيل الوحدة الوطنية في مقابل التعددية، أو أن يصبح هو 'الواحد الأحد'.

الجيش قوة منظمة مسلحة مرتبطة بالدولة، ويصح القول إن الطبيعي هو ليس عزوف الجيوش عن الحكم، بل تدخلها فيه، ولذلك فإن ما يحتاج إلى ترتيبات ممأسسة هو عدم تدخلها. وموضوع إخضاع الجيش للمؤسسات المنتخبة يشغل الديمقراطيات، نظريةً وممارسةً، سواء لناحية تثقيف الجيش والمجتمع، أم لناحية وضع الترتيبات الدستورية المؤسسية والقانونية التي تضمن عدم تدخل الجيش في الصراعات والخلافات السياسية القائمة في المجتمع والدولة، وتضمن ولاءه للحكومة المنتخبة وتنفيذه قراراتها.

هذا الدافع للفصل قديم قدم الفلسفة. ربما كان هذا أيضا دافع أفلاطون لتخصيص الكتاب الخامس من الجمهورية لمهمة تدريب حراس المدينة لتحويلهم من مقاتلين إلى جنود. إنه إذا التمييز بين مقاتلين وجنود. والمقصود هو تحويلهم إلى جنود في خدمة الدولة يأتمرون بإمرة الحكام وليس حكاما. فمن يحكم هو من لديه رؤية شاملة للعدل والخير العام (يسميه أفلاطون فيلسوف).

تقوم ممارسة الجيش أساسا على براديغم القوة، أو ما سماه العرب بالشوكة: استخدام القوة والردع، والطاعة والتراتبية، والتمييز بين العدو والوطن، والدفاع والهجوم، والاستعداد لقتل الخصم قبل أن يقوم هو بالقتل. وثمة نقاش جوهري في مدى صلاحية هذا البراديغم لـتأسيس مقاربة في إدارة الدولة والمجتمع. وهو ليس مجرد نقاش عملي حول إمكانية ذلك، بل أيضا نقاش قيمي وأخلاقي متعلق بالموقف من الإنسان والمجتمع البشري.

وفي حالات وهن مؤسسات الدولة وهشاشتها وانعدام الاستقرار وقصور الثقافة المدنية، واهتزاز شرعية المؤسسات المدنية والأحزاب في مقابل الجيش يتذوّت الجيش فعلا مهمة الحفاظ على الوحدة إلى درجة فهمه أنه بما أنه يمثل الصالح العام ويعمل لمصلحة المواطنين، فما الحاجة للحوار والنقاش والآراء والأحزاب والمؤسسات. يمكن قراءة وصف كهذا في وصف خالد نزار للهواري بومدين من منطلق التحزب له: 'كان يفكر من دون أن يقول ذلك صراحة، بأنه إذا كان كل شيء يجري من أجل سعادة الشعب فما الذي يبقى للنقاش. هل نستطيع اختيار الأسلوب والنهج؟ إن اللعبة البرلمانية القائمة في الديمقراطيات الغربية لهي انعكاس لحالة التقدم التي تمر بها مجتمعاتها.. وليس في صورة المجتمع الجزائري ما يصلح للمقارنة.. أما أقصر الطرق لتحقيق النجاح فإنه يمكن في حصر السلطة التي جرى الاستيلاء عليها بثمن باهظ بين أيدي فريق عمل كفؤ ومتفان تجاه المصلحة العامة'. ونجد عند برنارد لويس كلاما شبيها في وصف توجهات أتاتورك، مع الفرق أن الأخير لم يكن ضابطا متمردا راديكاليا، بل جزءا من النخبة العثمانية الإصلاحية التنظيماتية في القرن التاسع عشر حاملًا لإرثها. فلا وجه للمقارنة بين المجتمع الجزائري بعد الاستقلال والمجتمع التركي الذي لم يستعمَر أبدا، ونخبهما.

المشكلة التي تبرز عربيا، ولا بد لأي بحث في الجيش والسياسة من معالجتها، أن الجيوش في بعض الحالات تعكس وحدة قائمة على تمييز بين مكونات وعناصر اجتماعية، لأنها سلسلة القيادة فيها قد تقوم على ولاءات تنتج عصبيات. في هذه الحالة يصبح فرض الوحدة الوطنية من قبل الجيش على المجتمع، فرضا لحكم عصبية بعينها، بحيث تعني الوحدة الخضوع لها. وثمة أمثلة مهمة على ذلك في جيوش عربية كثيرة من العراق وسورية واليمن وحتى موريتانيا.

ارتبط الانقلاب الأول في تاريخ العسكرية العربية الجديدة بعد انهيار الدولة العثمانية، ونشوء نظام الدول المستقلة (سياسياً بموجب معاهدات) أو الواقعة تحت الحماية والانتداب في المنطقة، بالعسكرية العراقية. إنه انقلاب الفريق بكر صدقي (1936) الذي تلقى دعم جماعة إنتلجنسوية عراقية يسارية فابية هي جماعة (الأهالي)، ودعمته حتى صحيفة الانقلاب التي رئِس تحريرها الشاعر محمد مهدي الجواهري وهيمن عليها الشيوعيون. وسبق أن جرى تسييس الجيش تحت قيادة بكر صدقي الذي قام بقمع الثّورات العشائريّة في منطقة الفرات الأوسط في أوائل الثلاثينات، و سحق انتفاضة الآشوريين عام 1933، ما أدى إلى بداية التوطن الحديث للآشوريين في الجزيرة السورية إثر ذلك بموجب اتفاقات بريطانية- فرنسية. صحيح أنّ النظام الملكي لم يستوعب التنوع الإثني والثقافي للعراق في حينه كما يبدو، وهو أمر ليس سهلا على كل حال، ولكنّ الحقيقة أن الصراع بين الدولة والبداوة في العراق مستمر منذ عقود، بل قرون. والأمر لا يتعلق بالقوميين العرب وحدهم، بصيغهم الملكية والجمهورية اليمينية واليسارية، وعدم تقبلهم تعددية الولاءات، بل بعلاقة الدولة والمجتمع عموما. وأقصد أي دولة حديثة في مجتمع ما زالت فيه العشائر قوية وتولد ولاءات طاردة عن المركز، بما في ذلك معارضة الخدمة العسكرية في جيش نظامي. كان هذا في مرحلة حابت فيها السياسة البريطانيّة زعماء العشائر وسمحت لهم بالاحتفاظ بأسلحتهم، ما أتاح لهم منع الدولة من تجنيد أبناء العشائر للجيش، وتكريس تحويل أبناء العشائر إلى فلاحين يعملون عند زعماء العشائر الذين تحولوا إلى إقطاعيين في الواقع. وكان الجيش عاجزًا عن مواجهة هجمات قوات الإخوان الوهابيّة التي كانت تنطلق من نجد لمهاجمة جنوب العراق في الأعوام 1922 و1924 و1927 – 1928.

وكون بكر صدقي قائد الانقلاب والرجل القوي في العراق من أصول كردية هو من أدلّة الاندماج الذي كان سائدًا في تلك المرحلة على مستوى جهاز الدولة وثقافة النخب السياسية والعسكرية. ولكن كيان الدولة ذاته لم يستقر بعد، وذلك لناحية شرعيتها التاريخية، وعلاقتها بالمجتمع، بل المجتمعات التي تتألف منها، والتي لا ترتبط برابطة الدولة الوطنية. يصح هذا بالنسبة للعراق ودول المشرق العربي عموما، وليبيا والجزائر والسودان وغيرها. ولذلك احتاج العراق إلى التوحد حول شرعية تاريخية من خارجه (الأسرة الهاشمية)، أو الجيش بوصفه كيان الدولة المتجسد خارج المجتمع. وهو ما حصل في غالية الدول المذكورة أعلاه.

ولا شكّ أنّ الصدام مع انتفاضة الآشوريين الذين رفضوا ضمهم للعراق (لعدم تضمن استقلال العراق واعتراف عصبة الأمم به في العام 1932 للوعود البريطانية السابقة لهم، وتجندوا قبل انضمام العراق إلى عصبة الأمم في الجيش الانكليزي، وحظوا بوحدات خاصة شكلت قواما أساسيا في ما عرف بالليفي أو وحدات الشرق، وكان لهاشبيه في القوات الفرنسية بسورية ولبنان تحت اسم اللوفانlEVANT) قد أثّر كثيرًا على بنية الدولة العراقيّة وتوجهاتها. واستخدم البريطانيون وحدة كبيرة من وجدات الشرق، 'مجندي العراق'، لحماية منشآتهم العسكريّة ولقمع الأكراد. ومهّد قمع بكر صدقي للأشوريين الطريق له لأوّل انقلاب عسكري في العالم العربي في نوفمبر 1936. وكان من أخطاء الحركة القومية العربية خلال حقبة الثلاثينيات، وهي حقبة عصبة العمل القومي ثم الحركة السرية القومية العربية، مباركتها سحق الآشوريين، مع أنها لم تشارك فيها.

اتبعت حكومة حكمت سليمان، الذي دعم الانقلاب، مواقف مناقضة لمواقف الحكومة السابقة برئاسة ياسين الهاشمي. أمّا جماعة الأهالي اليساريّة فقد خاب أملها لأنّ حكومة الانقلاب لم تحقق الإصلاحات الاجتماعيّة اللازمة، ولم تنظم انتخابات ديمقراطية كما وعدت. وتكررت الخيبة لاحقًا بعد توقعات الحزب الشيوعي من انقلاب 14 تموز، على الرغم من وقوفه معه حتى النهاية. وفي عام 1958 لم يكرّر كامل الجادرجي خطأ الانضمام إلى حكومة الانقلاب 1936، اذ اشترط حزبه الوطني الديمقراطي الانضمام إلى عبد الكريم قاسم بإجراء انتخابات، وقد عجز الأخير عن تلبية هذا الشرط.

نجد في هذا الانقلاب بعض نويات ما أصبح لاحقا أنماطا مكررة في الانقلابات العربية، ومن ضمنها الانقلاب بحجة فشل النظام في الحفاظ على الاستقرار، ومكافحة فساد الأحزاب والسياسيين، والوعد بانتخابات حرة وحكومة مدنية ثم إقامة نظام عسكري قمعي.

ثم ستظهر العلاقة بين العسكرية العراقية ذات المضامين القومية العربية خلال حركة رشيد عالي الكيلاني المدعومة من الحركة العربية السرية التي تألفت من نخب قومية عربية تعمل بشكل متشابك. واعتمدت على ضباط في الجيش، العقداء الأربعة الذين أطلق عليهم 'المربع الذهبي'. وحدثت هذه الحركة بفعل تداعيات الحرب العالمية الثانية، ونشوء إمكانية الدخول في تحالف دولي ضد بريطانيا.

في هذه المرحلة طُمِس الحدُّ بين الانقلاب والثورة في الثقافة السياسية للفئات الوسطى عمومًا وللمثقفين المسيّسين أو المنخرطين في أحزاب أو قريبين منها ولحركات الشباب والطلاب. أصبحت الثقافة السياسية النقدية انقلابية شعبوية أكثر منها ديموقراطية، وانجرَّ إليها اليسارُ لاحقا. واستغلّ التفكيرُ الانقلابي عيوب النسق الليبيرالي الهش لإسقاط النظم وليس لتطبيق الديمقراطية أو العمل من أجلها. أخذت هذه الاتجاهات بالتبلور منذ ثلاثينيات القرن الماضي، والتي كانت مرحلة جَزْر عام لجغرافيا الديموقراطية في العالم، وذلك بتأثير صعود النزعات الوطنية والقومية الاشتراكية الفاشية والنازية. وفي المنطقة العربية انتشرت حركات الشباب ذات القمصان الملونة وتأثرت في ذلك حتى الأحزاب الليبرالية الكبيرة مثل الوفد (القمصان الزرق) والكتلة الوطنية في سورية (القمصان الحديدية)، ولم يكون الإخوان المسلمون ببعيدين عن تأثير هذه الأجواء فشكلوا فرق الجوالة. ومنها أيضا عصبة العمل القومي، السوري القومي الاجتماعي، مصر الفتاة (الحزب الاشتراكي). ولاستيعاب النزعة العسكرية للشباب ادخلت الحكومات في برامجها التعليمية في المدارس مادة الفتوة ونظامها وهي مادة شبه عسكرية.

وجرى لاحقا المزج بين الانقلابية والثورية أو تفسير الانقلابية كثورية. وأصبح ينظر إلى الانقلاب بوصفه مقدمة لعملية تغيير اجتماعية- اقتصادية (ثورة). جرى ذلك مع انقلاب يوليو في مصر أولًا ثم مع انقلابات البعث في سورية والعراق وإلى حد كبير في انقلاب 14 تموز، الذي سمى نفسه ثورة منذ البداية.

ولا يمكن فهم العلاقة بين العسكرية الجديدة بعد النكبة والانقلابات بمعزل عن فهم العيوب البنيوية في النسق الليبرالي النخبوي العربي الهش، الذي أخذ ينفتح نسبيا أمام ممثلي القوى الاجتماعية الجديدة. لكن عوامل أخرى حسمت مصيره في النهاية. ومنها سيطرة أبناء الارستقراطية عليه، والتضارب بين واجبات أعضاء البرلمانات ومصالحهم الاقتصادية- الاجتماعية ولاسيما كبار الملاك منهم، وتزوير الانتخابات والتلاعب بنتائجها، بما في ذلك سابقة تعديل الدستور للسماح لشكري القوتلي بولاية ثانية زورت فيها الانتخابات النيابية بشكل فاضح (يستثنى نسبيا انتخابات العام 1954 في حالة سورية)، والأخطر منها، عجز البرلمانات والنسق الليبرالي عن حل المشكلة الاجتماعية الموضوعية والحقيقية، وهي مشكلة الفلاحين مع حضور المشكلة بشكل ثقيل على جدول أعمالها كلها بما فيه برلمان مصر ما قبل يوليو، وأخيرا العجز في مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين.

ما عجزت النخب الليبرالية عن حله على مستوى مشكلة الفلاحين حله الضباط بقرارات' ثورية' فورية، وحدث التحول التاريخي في إدماج الفلاحين والعامة في حركة التاريخ والتحولات الاجتماعية الكبرى في مجتمعات يشكل الفلاحون معظم سكانها، كما تشكل الزراعة مصدر دخلها الأساسي. ومع تدفق أبناء الفلاحين والطبقات الوسطى إلى الجيش حصل تغيير كبير في توازن القوى الاجتماعي، وتغيرت بالتدريج طبيعة القوى الحاكمة.

تعاطفت الأحزاب الليبرالية مع حركات الجيش ضد النظامين الملكيين في مصر والعراق، وتأملت منها خيرا في البداية، ثم تبدّدت آمالها بسرعة. وفي سورية تورطت جميع القوى السياسية بما فيها الليبرالية، والمحافل الماسونية الشامية بالانقلابات، واستخدمت الانقلاب مركبة لها. ومن ذلك نموذج حزب الشعب والانقلاب الثاني في سورية أي انقلاب اللواء سامي الحناوي. وكان قادة المحافل الماسونية فاعلين في انقلاب حسني الزعيم 1949. وزير خارجيته (عادل أرسلان) كان منهم. وعرف انقلاب الحناوي فاعلية أكبر للماسونية. هذا غير مدروس في التاريخ السوري الحديث (وبينته دراسات زميلنا في المركز باروت في ضوء تحليل المؤشرات الوثائقية والتاريخية للمحافل السورية وللشخصيات التي حاولت توطيد الانقلاب الثاني، وتسويقه سياسيا في وسط النخب والمجتمع). لقد توقعت القوى الليبرالية والتنويرية والحديثة المتأثرة بالثقافة الغربية أن يلعب الجيش دورا تحديثيا سريعا يحرق المراحل في التغلب على قوى التخلف والرجعية. لكنه فعل ذلك بطريقته، وانقلب على القوى التي عولت على دوره.

وأعتقد أن نموذج أتاتورك كان ماثلا لناحية الثقة بقدرة الجيش على قيادة مجتمع متخلف تسود فيه ثقافة تقليدية، وتؤدي فيه الحرية بدون تقاليد حديثة إلى الفوضى. فالجيش في نظر هذه القوى قادر على تسريع عملية انتقال المجتمع نحو الحداثة من دون الدخول في حالة من الفوضى قد تحدثها الديمقراطية المبكرة. ونلاحظ عودة إلى هذا النمط من التفكير بعد الثورات العربية عام 2011. وبعد ثورات 2011 برز أمر أخر هو خوف الطبقات الوسطى ليس من عدم الاستقرار، بل خوفها على نمط حياتها من سيطرة الإسلاميين. وهذا الخوف بحد ذاته دفعها للمراهنة على النظام القديم والجيش، مع أنها الطبقة التي يفترض أن يراهن عليها كقاعدة لعملية الانتقال الديمقراطي.

وارتبطت انقلابات الضباط الصغار الراديكاليين المتأثرين بالأيديولوجيات التي افتتحتها ثورة 23 يوليو 1952 بأزمة المرحلة الليبرالية وهشاشتها، وعدم تمكّن النظام التعددي الحزبي من الاتفاق على السقف الوطني المتعلق بطبيعة البلد ونظام الحكم، لكي تدار التعددية في إطار الاتفاق الدستوري، والعجز عن حل المسألة الزراعية وقضية الفلاحين، والفشل في مواجهة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، والذي تجلى في هزيمة عام 1948. المشكلة أنه حتى في حالة الإخلاص فعلا لقضية بناء الدولة الوطنية والتحديث كما في حالتي عبد الناصر وهواري بومدين، يصعب جسر الفرق بين الطموح والواقع، وبين حجم الأهداف غير المحدود، ومستوى القائد وكفاءته والقدرات المحدودة لأي إنسان، بين تمثيله للعموم وضيقه بأي منافس، بين الواحدية المزعومة والنزوات والنزعات الفردية مثل الميل للشعبوية وحب الظهور وتقديس الشخصية في حالة عبد الناصر وصدام حسين والقذافي (بشكل يكاد يكون مرضيا عند الأخير)، والانكفاء في حالة هوراي بومدين، والتريب والشك برفاق الدرب، وحفظ الضغينة لفترات طويلة عندهم جميعا.

يصعب التوصل إلى نظرية وقانون يضبط علاقة الجيش بالحكم وتصرفه فيه. فالجيوش تختلف باختلاف المراحل التاريخية، ودرجة تطور المجتمعات، والعقائد السائدة، وبنية الجيش الاجتماعية وغيرها. وعلى الرغم من إعجاب أمثال بكر صدقي وحسني الزعيم وحتى عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، وقبله وإن كان بدرجة أقل أديب الشيشكلي، بنموذج أتاتورك وتقليده في بعض الأمور، إلا أن الفرق شاسع بين قيادات جيش تقود حملة عسكرية ضد الاحتلال وتؤسس جمهورية حديثة قوامها نخب حديثة صاعدة داخل النظام نفسه كما في حالة أتاتورك، وأخرى مؤلفة من ضباطٍ راديكاليين من الرتب الوسطى والدنيا في انقلابها على النظام الملكي، ثم في سلسلة منازعاتهم وتنافسهم على القيادة والرئاسة.

ولكن ثمة سمات مشتركة لا أعتقد أنها تصل إلى درجة القانون، أو النظرية الكاملة الأركان سوف نتطرق إليها فيما يلي:

1. الجيش بوصفه وسيلة للترقي الاجتماعي الاقتصادي في مجتمعات فلاحية

الجيش مؤسسة حديثة لناحية تأسيسها لغرض، وعقلانية العلاقة بين الوسيلة والهدف، وإدارة منظومات معقدة، ووضع الاستراتيجيات والتسلح، والالتزام بالانضباط والتراتبية وغيرها. كما أنها تقوم رسميا بدور يفترض أنه وطني بحكم تعريفه، وهو الدفاع عن الوطن. وفي ظروف دول العالم الثالث، أو في مراحل ما بعد الاستعمار غالبا ما يبرز الجيش بصفته جهاز الدولة الأكبر والأقوى والأكثر انضباطا من بين جميع مؤسسات الدولة والمجتمع، وهو أيضا الأحدث لناحية علاقته بمفهومي الوطن والدولة. وسبق أن استخدمت عبارة 'تجسيد الدولة من خارج المجتمع'. كما أنه في حالة الدول المتشكّلة هويةً يحظى بمكانة لأنه يخاطب المشاعر الوطنية، فهو يمثل السيادة، وبزيه الرسمي وطقوسه يمثل عزة الوطن وكبريائه. وتتفاوت مصادره التاريخية بين بقايا جيش الانتداب في حالة سورية، وبقايا الجيش العثماني وجيش الانتداب وضباط الثورة العربية في حالتي العراق والأردن، وبين أدوار وطنية في حالات التمرد على الإملاءات الانكليزية في حالة مصر، وجيش تحرير تحول إلى جيش وطني في حالة الجزائر. فيبدو وكأنه عمليا الذي أقام الدولة، خلافا للبلدان أعلاه التي أقامت فيها الدولة جيشا. وفي الحالات كافة كان الجيش المؤسسة الأكثر قدرة على التحرك المنظم في حالات الصراعات الاجتماعية والأزمات وحتى الكوارث الطبيعية.

وبالإضافة إلى ذلك، أصبحت العسكرية في الدول النامية والمستقلة حديثا المسار الرئيسي لتقدم أبناء الفلاحين وأصحاب المهن صعودًا على السلم الاجتماعي، وذلك بعد أن كانت البنى التقليدية وثقافتها تحدد مسار حياتهم، وتقرر مصائرهم سلفا، وتمنعهم من تغيير مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية. كما أن فاعلية بنى الدولة الحديثة اقتصرت عمليا على المدينة، وسيطرت عليها الطبقات القديمة أبناء الأعيان وأبناء البرجوازية التجارية والطبقات الوسطى الجديدة، التي قلما تسرب إليها أبناء الفلاحين بواسطة التعليم أو غيره. فالتعليم لم يكن متاحا. وقد انفتح مجال الخدمة العسكرية وصولا إلى سلك الضباط في مرحلة الاستعمار، أو الانتداب، فأصبح أداة الترقي الاجتماعي التي يمكن لأبناء الفقراء، والطبقات المتوسطة، استخدامها بالانضمام إليه، والترقي فيه، ولا سيما بعدما فتحت الأكاديميات العسكرية الوطنية أبوابها لاستيعاب أبناء هذه الفئات. فمثلا في عام 1936، استخدم النحاس باشا الالتزامات العسكرية التي فُرضت على مصر، بموجب المعاهدة المصرية - البريطانية، كمبرر لفتح أبواب الكلية العسكرية للضباط الصغار من مواطني الطبقة الوسطى، في حين كانت الدراسة تقتصر فيها على أبناء أصحاب الأملاك وارستقراطية مصر الزراعية، إذ كان سلك الضباط محصورا فيهم. ومنها تخرج عبد الناصر وأبناء جيله الذي تنظموا لاحقا في تنظيم سري هو الضباط الأحرار لغرض القيام بانقلابهم الذي سمي في حينه ب'حركة الجيش'. ومع تطور بنية الدولة ومعها جهاز الموظفين في المدن الكبرى والمتوسطة وتطور جهاز الخدمات والتعليم، توسعت الطبقة الوسطى. وارتفع عدد العناصر الشباب من أبناء الطبقة الوسطى الذي التحق بالكلية الحربية في مصر، فازدادت نسبتهم بين الضباط. وحصل ذلك في غالبية الدول العربية في أزمنة متفاوتة.

وبعد أن عيّن أديب الشيشكلي أكرم الحوراني وزيرا للدفاع، الاشتراكي الشعبوي المنحاز للفلاحين، وتميز حزبه بحمل قضيتهم قام الأخير بفتح أبواب الكلية العسكرية لأبناء الفلاحين بشكل خاص. ومنها تخرّج ضباط مثل حافظ الأسد. بل يمكن القول إن الضباط السوريين الانقلابيين عمومًا للمرحلة التي تبدأ بمنتصف الخمسينيات كانوا من خريجي دورات 1950-1952. هذا هو الجيل من أبناء الطبقات الوسطى والفقيرة المتأثرين بالأيديولوجيات القومية أو اليسارية، أو الإسلامية الذين قاموا بالانقلابات العسكرية في الخمسينيات والستينيات وحتى العام 1970. والحقيقة أنهم نتائج مرحلة الغليان السياسي والاجتماعي والأيديولوجي تلك. وهي ظواهر توقفت في ظل حكمهم فلم ينشأ في ظل حكمهم جيل يشبههم. ويمكن القول بأن بعضهم كان مثقفا أو نوعا من إنتلجنسيا بثوب الضباط مثل نمط الضابط الانقلابي الأشهر في تاريخ العسكرية السورية الجديدة منذ العام 1949 وحتى العام 1969 محمد عمران قائد اللجنة العسكرية البعثية فيما بعد.

ربما ما زال العديد من الشباب، حتى زمننا هذا، يدخلون الجيوش العربية لأغراض الترقي الاجتماعي الاقتصادي، ولكن عدد المجالات غير العسكرية المفتوحة ازداد. أما الدوافع الأيديولوجية فخفتت إلى حد بعيد، إضافة إلى أن الدول كافة أصبحت تحرص على انتقاء عناصر منحازة للنظام، أو على الأقل غير مسيسة، لسلك الضباط.

في سورية لم ينشأ جيش سورية المستقلة من فراغ، بل ورثت الدولة الوطنية بعد الجلاء (17 نيسان/أبريل 1946) جيش الشرق المؤلف من الجنود والضباط والرتباء السوريين في الجيش الفرنسي في سورية ولبنان. وبلغت حصة سورية من الوحدات المسلّحة نحو 17 ألف رجل، بينما كانت حصة لبنان سبعة آلاف رجل. غير أن وزارة الدفاع السورية قلّصت عدد الجيش في منتصف عام 1948 إلى ما يُقارِب سبعة آلاف رجل فحسب، بدعوى تفكيك «التكتلات العنصرية» فيه. وأدّت عملية وراثة الدولة الوطنية جيش الشرق إلى ظهور تمييز بين ضباط الجيش السوري وضباط الجيش الفرنسي (والمقصود هو الضباط السوريون الذين كانوا أصلًا في الجيش الذي تسلّمته الحكومة السورية من الفرنسيين). وبدأ تخريج ضباط الجيش السوري مع الدورة الأولى لخريجي مدرسة حمص العسكرية في عام 1945 الذين انتشرت في أوساطهم الأفكار السياسية والأيديولوجيات الجديدة مثل اليسار والقومية العربية. وازدادت قابليتهم للأدلجة مع تجربة معظمهم المُحبطة في حرب فلسطين، وولادة أولى حركة الانقلابات العسكرية. ولم يكن 'ضباط الجيش الفرنسي' كتلة متجانسة، بل كان بعضهم قريبًا من الضباط الجدد، وكان أبرزهم أديب الشيشكلي المتحالف حتى عام 1952 مع أكرم الحوراني، زعيم حزب الشباب وأحد القادة الثلاثة التاريخيين لحزب البعث العربي الاشتراكي. وولد في مرحلة التحالف أول تنظيم عسكري عقائدي سري في داخل الجيش، وهو بهذا المعنى سلف اللجنة العسكرية البعثية التي قامت في فترة الوحدة السورية – المصرية، والتي يتحدر بعض أعضائها من تنظيم الشيشكلي- الحوراني السابق. وحاول الشيشكلي (الكردي الأصل) تسنين الجيش وتعريبه وتفكيك النفوذ الكردي فيه، غير أن إجراءاته الفعلية كانت جزئية وطاولت المسيحيين أكثر من غيرهم. كما تعارضت مع نزعة أكرم الحوراني ابن حماة لفتح الجيش لأبناء الفلاحين ومنهم الكثير من العلويين. وبسبب قصر فترة حكم الشيشكلي لم يستطع مواصلة هذه السياسة. ودخل الجيش السوري مع الانقلاب الأول في مرحلة التسييس والخروج من الثكنات من دون العودة إليها.

وفي العراق كان الضباط الأربعة عشرة الذين قاموا بثورة 14 تموز 1958 برتبة عقيد أو مقدّم باستثناء محمد السبع، الذي كان رائدًا في سلاح الجو، وكان أعلاهم رتبة عبد الكريم قاسم الذي كان برتبة زعيم. جميع الضباط الأحرار باستثناء ناجي طالب انتموا إلى عائلات فقيرة، أي أنّ الوحيد من بينهم الذي كان ابن مالك للأرض وعضو المجلس النيابي هو تحديدًا ناجي طالب الشيعي. وجميعهم تلقوا تعليمهم في المدرسة الثانويّة أو مدرسة عسكريّة داخل العراق أو خارجه. وكان العديد من الضباط في المنظمات الفرعيّة للضباط الأحرار والمشاركين في خلاياها من المنتمين إلى المذهب الشيعي،وقد انتموا أيضًا بدوافع وطنيّة. تأثّر الضباط الأحرار بحدثين كبيرين هما نكبة 1948 وما رواه ضباط الجيش العراقي عن مجريات الحرب وفشل الأنظمة العربيّة، والثّورة المصريّة عام 1952 التي قام بها ضباط مثلهم. ومن المفيد النظر فيوصف المؤرخ مجيد خدوري لتجربة عبد الكريم قاسم في الكليّة العسكريّة لأنّه يُصوّر العسكريّة كشكل من أشكال التقدّم الاجتماعي لأبناء الفئات الفقيرة. فقد كانت الشجاعة والانضباط معيار الانضباط والتقدير وليس المنزلة الاجتماعيّة، أو أصل الطالب وفصله. ففيها تحرّر قاسم من الاتكال على أب فقير يعيله، لأن الكلية العسكريّة تقدم للطلبة ما يحتاجون إليه من مأكل وملبس. 'وكان معظم طلاب الكلية من العائلات الفقيرة نسبيًّا، لأنّ أبناء العائلات الميسورة يؤثرون طلب العلم في الخارج، أو الالتحاق بكليّة الحقوق أو كليّة الطب في بغداد'. ويمكن متابعة هذه السيرة وصولا إلى تجربته في حرب عام 1948، وأثرها على تكوينه السياسي وموقفه من النظام القائم، وينطبق ذلك على عبد الناصر وغيره.

إن الوعي السياسي للضباط الذين قاموا بالانقلابات العسكرية الأولى هو نتاج سنوات الغليان السياسي والفكري والوطني تلك، في مرحلة سادت فيها تعددية نسبية في ظل الانتداب وتصدّر نخب ليبرالية محافظة أو محافظة من أبناء الأعيان للمشهد السياسي؛ وكذلك التعرض لتأثير هزيمة الدول العربية في الحرب عام 1948 في مثل هذه الأجواء. فتشخيص هؤلاء الضباط لأسباب هذه الهزيمة ورد فعلهم عليها تقاطعت مع موقفهم من الوضع السياسي-الاجتماعي القائم. وقلّما صدرت مذكرات أو سِيَر ضباط هذا الجيل الناقمين المتمردين على الأوضاع العربية في حينه دون ذكر تأثير صدمة 1948 عليهم سواء أشاركوا في ساحات القتال نفسها في فلسطين، أم لم يشاركوا.

وارتبط التطور اللاحق بعوامل كثيرة منها قدرات من برز من هذا الجيل وانعقدت له الرئاسة أو الزعامة، على طرح مشروع سياسي حقيقي، وتمكِنِّه من حسم الصراع على النفوذ من زملائه من الضباط، فالذي سيطر وحسم الأمر في النهاية أقام نظامًا معاديًا للتعددية، ومقيّدا لحرية التعبير والتنظيم وغيرها. فخُنِقت الحياة السياسية التي أنتجت جيلهم من السياسيين والمثقفين والعسكريين.

إن خنق الحياة السياسية العامة التي توقفت عن إنجاب الضباط المؤدلجين والمسيسين هو من أهم أسباب عدم وقوع انقلابات من نوع انقلابات ما قبل السبعينات. هذا من بين أسباب كثيرة أخرى منها استقرار بنية النظام بعد حسم الصراع على السلطة، وبناء الجيش النظامي الكبير نسبيا، وتأسيس المخابرات العسكرية التي تتجسس على الضباط ووحدات الجيش، وإقامة الجيوش الخاصة (مثل الحرس الجمهوري، وسرايا الدفاع) وغيرها من العوامل، ومنها دور ثورة أسعار النفط في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي في تحقيق الاستقرار في الجمهوريات. وهكذا توقفت ظاهرة الانقلابات العسكرية منذ بداية السبعينيات.

2. أخوية رفاق السلاح الرجولية

تنشأ بين الضباط عموما، ولا سيما في الوحدات القتالية، وبين خريجي الكليات العسكرية من الدفعة ذاتها، رابطة رفاقية تشبه أخويات الطلبة في الكليات الجامعية في الماضي أو رابطة الخشداشية في الجيش المملوكي. وتتحول هذه إلى نوع من الولاء الشخصي للجماعة أو رفاق السلاح فيما هو جماعة أبناء الدورة. ويسهل ذلك تجنيدهم في التخطيط لتحرك أو انقلاب. تسود هذه العلاقات في المليشيات المسلحة والحركات السرية والكليات العسكرية، وتضعف لاحقا في الجيوش النظامية، حيث من المفترض أن تتجاوزها الهيكلية التنظيمية وتفكّكها التراتبية. لكنها تبقى قائمة، ولا سيما في الوحدات القتالية، حيث يمر الجنود والضباط بتجارب مكثفة مشتركة، من نوع التدريب الشاق والمناورات، وحتى المعارك ذاتها. في مثل هذه الأجواء يجري اختصار أسماء الضباط وإطلاق الألقاب الحميمة عليهم.

لهذه الروابط أثر كبير على دوافع المقاتلين، لأن الانتماء يعزز الاستعداد للتضحية، فالجندي غالبا ليس مستعدا للموت دون مفهوم مجرد للوطن، بل دون رفيقه الجالس إلى جانبه في العربة العسكرية أو الطائرة، أو الراقد بالقرب منه في الخندق. كما تهمه صورته التي ترتسم في أذهان رفاقه، ورأيهم به. ولكن هذه الرابطة نفسها غالبا ما تدفع العسكريين للتستر على جرائم يرتكبها أفراد منهم أو تشارك مجموعة في ارتكابها. وهذه قد تتكتم على مجازر وأعمال قتل واغتصاب حتى عند التحقيق فيها، فتبقى مجهولة إلى أن يستيقظ ضمير أحدهم.

وخلال الانقلابات نفسها وفي التحضير لها تتشكّل أيضا أخوية، أو زمرة، أو 'شلّة' بالتعبير الدارج. فالانقلاب العسكري تجربة دراماتيكية مشتركة حقيقية تنكشف فيها نقاط الضعف والقوة لكل شخص. وسرعان ما تتحول إلى منغص حقيقي بالنسبة لأي قيادة لأن الجماعة الحميمية تؤسس لشعور من الزمالة والولاء، وتمكّن من حرية التعبير بصراحة داخلها، وتدفع لرفض فكرة الزعيم المطلق. فالأول فيها هو الأول بين متساوين. ولذا كانت المجالس العسكرية هي المجالس الثورية التنظيمية الوحيدة التي يحترم فيها التصويت، لكن حالما تقوم تراتبية ما بعد الانقلاب، تنخر في الجماعة مشاعر غيرة وتحاسد تصل حد الكراهية والشكوك المتبادلة. فالاحتمال وارد أن يطمح كل منهم للزعامة.

ويكاد لا يخلو نظام واحد حكمه الضباط الانقلابيون ذوو الرتب المتوسطة أو الدنيا من صراع شخصي على النفوذ، أو مرارات وحزازات ناجمة عن عدم تولي المنصب أو عدم نيل الاحترام الذي يشعر الشخص أنه من حقه. وغالبا ما فُسِّرَت هذه كصراعات يسار ويمين، وقومي وإسلامي وغيرها. ولم تخلُ الساحة من هذه الأخيرة. ولكن الصراعات دارت في الغالب على السلطة والرئاسة، والنفوذ، والجاه والمنصب، وأحيانا على النهج وأسلوب العمل، وإن غلفت بادعاءات إيديولوجية من أعرضها اليمينية واليسارية. كما غالبا ما أدت بضباط إلى التحالف مع دول جارة خصم، مثل مصر وليبيا في حالة السودان، والعراق وسورية في حالات صراعات الضباط في البلدين. كان هذا الصراع بين الطموحين من الضباط الانقلابيين شاغلا أساسيا لأنظمة الحكم العسكرية. خذ مثلا صراع عبد الكريم قاسم، وعبدالوهاب الشواف، وعبدالسلام عارف؛ وصراع جمال عبد الناصر وعبدالحكيم عامر وحسين وصلاح سالم وأنور السادات وعلي صبري، وحافظ الأسد وصلاح جديد ومحمد عمران. بل وصراعات اللجنة العسكرية البعثية طيلة سنوات 1963-1970. وخذ أيضا شكوك بومدين وريبتيه وإبعاد زملائه الضباط عن الحكم، واعتماده بشكل خاص على ما سمي ضباط الجيش الفرنسي، والمقصود هم الذين غادروا الجيش الفرنسي وضمهم إلى جيش الحدود غرب الجزائر، بعد أن رفضت ألوية الثورة الأخرى استقبالهم.

هذه الصراعات من أهم عوامل عدم الاستقرار، وقد تنتهي بإبعاد أو تعيين الخصم سفيرا خارج البلاد، أو التهميش في وظيفة حكومية، كما قد تنتهي بالسجن المؤبد والإعدام. وفي حالات كثيرة دفعت هذه الصراعات المتأذي إلى تحالفات غير وطنية مع قوى أجنبية لأغراض الانتقام. لقد لعبت هذه الصراعات داخل زمرة الضباط، وعدم القدرة على مأسستها، باستمرارها غير الرسمي على الرغم من قيام المؤسسات، دورا رئيسيا في حالة عدم الاستقرار التي رافقت المراحل الأولى من الانقلابات العسكرية.

3. الصراعات الحزبية والأيديولوجية

في مراحل تسييس المجتمعات العربية، ولا سيما المرحلة الليبرالية الأولى بعد الاستعمار التي عجّت بالأحزاب الأيديولوجية والتيارات السياسية المحلية وتلك المـتأثرة بالأفكار التي راجت عالميا وصراعاتها: الشيوعية، القومية، الفاشية وغيره، نجد أن الضباط توزعوا بين هذه التيارات، مثلما انقسمت النخب عموما. ولكن انقساماتهم تفاوتت في الدرجة، ففي سورية والعراق كانت الصراعات أكثر حدة من مصر. فبعد تخلص عبد الناصر من اليسار (يوسف صديق أولا، ثم خالد محيي الدين)، وحسم الصراع مع التيار الإسلامي، بقي الضباط غير الملتزمين بأيديولوجية محددة، سوى الوطنية المصرية التي اتخذت أيديولوجيا طابعا قوميا عربيا واشتراكيا وعالم-ثالثيا في إطار تصور الوحدات الثلاث في فلسفة الثورة يدعم تدخل الدولة في الاقتصاد. ويمكن القول إنه ما عدا في حالة البعث، همش الضباط حتى انقلابات السبعينات الأيديولوجيات الحزبية، وحتى الأحزاب التي دعمتهم (الحزب الشيوعي في حالتي عبد الكريم قاسم وجعفر النميري، واليسار والإسلاميون في حالة عبد الناصر، الإسلاميون في حالة عمر البشير) وتبنوا موقفا وطنيا ببعد قومي عربي ونزعة تحديثية تعتمد على تدخل الدولة في الاقتصاد اعتبرت اشتراكية.

ولكن البراغماتية الموجهة للحفاظ على الحكم في ظل التوازنات الاجتماعية الداخلية والإقليمية والدولية هي التي سادت فعلا. وفي حالات نادرة فقط لم يبد الضباط الذين حكموا فترة طويلة مرونة كافية للتكيف مع التغيرات الإقليمية والدولية. وتكفي مراجعة التغيرات في سياسات صدام حسين بعد غزو الكويت، والتغيرات في مواقف وتوجهات حافظ الأسد، والقذافي وعمر البشير ليتضح أن العامل الرئيسي كان الحفاظ على الحكم. وإن السلوكيات التي بدت متشددة وغير مرنة وغير قابلة للتكيف مع العصر لم تكن نابعة من تشدد أيديولوجي، بل من صفات القائد الشخصية، أو من تقديراته الواقعية والبراغماتية أن سياسته هذ التي تبدو متصلبة هي الطريق الأفضل للحفاظ على النظام، وأن المرونة وما يبدو كإصلاحات في الخارج سوف تبدأ تفاعلات من شأنها أن تقود إلى خسارة السلطة. ليس هذا موقفا نابعا من أيديولوجية مختلفة، بل من تشخيص مختلف لطبيعة النظام والمجتمع وحسابات براغماتية مختلفة.

في حالة ضباط انقلاب 1958 في العراق، يمكن القول إنهم جميعًا اتفقوا بدرجات متفاوتة على الدعوة للقوميّة العربيّة. وكان عبد السلام عارف أكثرهم حماسًا للوحدة، أمّا عبد الكريم قاسم ومحيي الدين حامد فكانوا يدعون إلى قوميّة أكثر ليبراليّة. وكانت قوميّة عبد الوهاب الشواف مشوبة بصبغة ماركسيّة حسب مجيد خدوري. وكان الضباط الأربعة عشرة من السنّة باستثناء ناجي طالب ومحسن حسين الحبيب الشيعيين، وكانت أم عبد الكريم قاسم شيعيّة، 'إلا أنّه لم تبدر منه أي بادرة في حياته العامّة تشير إلى تحيّزه للشيعة'. فلم يلعب العامل الطائفي دورا في مواقفه، مع أن تحالفه مع الحزب الشيوعي في الحكم أسس له قاعدة اجتماعية شيعية، كما أن القومية العربية ذات الصبغة الإسلامية عند عبد السلام عارف لعبت دورا في تصوير الأمر بشكل مختلف لاحقا. وقد بدأت عملية بعثنة الجيش بعد انقلاب البعث على حكم عبد الرحمن عارف عام 1968. ويبدو من مذكرات عبد الوهاب الأمين تحديدًا أنّ مجموعة 14 تموز كانت تؤمن فعلًا بحكم ديمقراطي برلماني، وبالحاجة إلى الانتقال إليه بعد القضاء على النظام الملكي وإقامة حكومة مدنيّة مؤقتة. كما أيّدوا سياسة عدم الانحياز خارجيًّا، وفي الواقع تشابهوا إلى حدٍّ ما مع الضباط الأحرار في مصر سواء في إيمانهم (أو للدقة ادعائهم الإيمان) بالديمقراطيّة، أم في تنكرهم لها لاحقًا. لم يكن للضباط أيديولوجيا محدّدة فبعضهم كان متأثرًا بفكر الحزب الوطني الديمقراطي اللبرالي التوجهات، كما في حالة عبد الكريم قاسم ومحيي الدين حامد، وبعضهم بالفكر القومي العربي مثل عبد السلام عارف ورفعت الحاج سري، وكان وصفي طاهر وإسماعيل علي شيوعيين، أمّا صالح مهدي عمّاش فكان متأثرًا بفكر البعث. وكما في حالة الضباط الأحرار المصريين كان الصراع الرئيسي بينهم صراعًا على الزعامة، كما بين عبد الكريم قاسم وعبد الوهاب الشواف، وبين الأوّل وعبد السلام عارف.

أما في سورية، ففي المرحلة الممتدة منذ انقلاب أديب الشيشكلي وحتى مرحلة بعثنة الجيش نجد أن الضباط الذين شكلوا تحالف الشيشكلي – الحوراني انقسموا إلى كتلتين كبيرتين: الكتلة التحريرية (نسبة إلى حركة التحرير العربي التي أسّسها الشيشكلي) والكتلة الاشتراكية (التي كان الحوراني أبرز الفاعلين فيها)، يضاف إليهما الجناح العسكري للحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة العقيد غسان جديد، ومجموعة الضباط اليساريين المتأثرين بالحزب الشيوعي السوري. وانبثقت في سياق هذا الاستقطاب كتلة ثالثة كبيرة أقرب إلى المهنية العسكرية من غيرها هي كتلة 'الضباط الشوام' التي التفّت حول العقيد عدنان المالكي، واستقطبت بعض الضباط المستقلين والمحافظين. وتعرّضت الكتلة السورية القومية الاجتماعية (غسان جديد) إلى عملية اجتثاث بعد اغتيال العقيد عدنان المالكي (نيسان/أبريل 1955)، وبعد العدوان الثلاثي على مصر. واعتبر أن الشقّ السوري لهذا العدوان يتمثل بما سُمّي يومئذ المؤامرة العراقية على سورية. وبعدما فقد 'الضباط الشوام' المحافظون ركنهم الأبرز، أي العقيد عدنان المالكي، حصل الاستقطاب باتجاه الكتلتين الكبريين: الاشتراكية والتحريرية (ضباط الشيشكلي). وهدد احتدام الصراع في أواسط الخمسينيات بين هاتين الكتلتين الجيش السوري بالانشطار الداخلي المكشوف في سياق تفكّك النخب السياسية والاجتماعية السورية. في تلك المرحلة ساد أيضا صراع بين النخب المؤيدة لمصر والسعودية وتلك المؤيدة للعراق.

وشكّلت الوحدة بين سورية ومصر في عام 1958 المخرج من هذا التفكك. وقبلت هذه الكتل مبدأ عبد الناصر في عزل الجيش عن الحزبية والعمل السياسي. لكن هذا القبول كان مؤقتًا؛ فما إن شرع عبد الناصر بتفكيك تلك الكتل وإحالة رموزها إلى مواقع مدنية، أو إلى مواقع أخرى في الجيش الثاني في مصر، حتى تكتّلت من جديد ضده. وكان أبرز المتكتّلين تنظيم البعث الذي شكّل بعضُ ضبّاطه في مصر 'اللجنة العسكرية' السرية التي تحدَّر معظم مؤسسيها من الطائفتين العلوية والإسماعيلية. ونشير إلى هذه الحقيقة مع أنه في هذه الفترة لم يكن للعوامل الطائفية أي شأن فاعل ملموس في قيام هذه الكتل، بل كان الانقسام يجـري على قضايا السلطة والسياسة في مرحلـة الحرب البـاردة. ولكن سيكون لهذا الأمر شأن مع بدأ الاعتماد على الولاءات الجهوية في التجنيد خدمة للصراعات على النفود داخل الجيش، وليس لدوافع طائفية خاصة. فالتنافس دفع الضباط إلى تحشيد الولاء الشخصي لهم بأي طريقة.

نجت كتلة «الضباط الشوام» من التفكيك بسبب مهنيتها وبُعدِها عن التحزّب بالمعنى العقائدي أو التورّط في المؤامرات والاصطفافات الانقلابية في الخمسينيات، فاعتمد عليها عبد الناصر. لكن من هذه الكتلة بالضبط خرجت مجموعة الضباط التي قامت بحركة الانفصال في 28 أيلول/سبتمبر 1961، وتشكّل منها ما عُرف بضباط 'ثورة الثامن والعشرين من أيلول'. وحاولت هذه الكتلة تفكيك من تبقى من الضباط البعثيين، لكن، كانت لهؤلاء شبكتهم التنظيمية والسياسية القوية العاملة في الجيش، وتيارها الفكري الواسع في المجتمع. وتحالفت 'اللجنة العسكرية' البعثية مع تنظيمات عسكرية سرية أخرى اتسمت بالوحدوية أو الناصرية ونادت بالعودة الفورية إلى الجمهورية العربية المتحدة. وهي الكتل نفسها التي تحلّقت حول العقيد جاسم علوان. لكن هذا التحالف كان هشًّا بسبب محاولة كل طرف خداع شريكه والتسابق معه على الاستيلاء على السلطة. وتفجر ذلك في انقلابات 28 آذار/مارس - 1 نيسان/أبريل 1962، إذ وقع انقلاب 'الضباط الشوام' (ضباط حركة 28 أيلول/سبتمبر) على الحكم المدني الذي قام في البداية برعايتهم؛ وانقلاب الكتلة الوحدوية بقيادة جاسم علوان؛ وانقلاب الكتلة البعثية (اللجنة العسكرية). وتمخض عنه قيادة جديدة للجيش انبثقت من مؤتمر عسكري عُرف بِـ 'مؤتمر حمص'. وحتى تلك اللحظة كانت الانقسامات الجهوية والسياسية ومحاولات مجموعات الضباط التنافس في السيطرة على السلطة هي المهيمنة على سائر المستويات الأخرى. لكن لاعبين جديدين فاعلين قياسًا على اللاعب البعثي السابق الذي يعود بروزه إلى الخمسينيات، ظهرا وهما اللاعب الوحدوي الناصري واللاعب الشامي.

بعد الحرب العالمية الأولى، ولاسيما في مرحلة احتدام الحرب الباردة في خمسينات القرن الماضي، غدت الجيوش مسيّسة، فخرجت من ثكناتها بدعوى تحرير فلسطين والتغيير، مع الوعد بالعودة إليها بعد إرساء 'ديموقراطية سليمة'؛ لكنها لم تعد إلى الثكنات بل أعادت صراعات المؤسسات العسكرية السياسية إنتاج انقلاباتها الداخلية، اتهمت السياسيين التقليديين بالمسؤولية عن النكبة وعن الفساد السياسي والاجتماعي الداخلي. وكان للأحزاب كافة تنظيمات عسكرية في الجيش بعد رواج نموذج الضباط الأحرار ونجاحه وتحولاته بما فيها الأحزاب الشيوعية، البعث، وقبله العربي الاشتراكي، الإخوان المسلمون في مصر، حركة الشباب القومي العربي (حركة القوميين العرب لاحقا)، السوري القومي الاجتماعي ومن لم يكن عنده تنظيمات عسكرية كان له ضباط مقربون مثل حزب الشعب والحزب الوطني في سورية، والاستقلال في العراق، والحزب الوطني الديموقراطي، ثم نوع من علاقة لكن ليست عضوية بين بعض ضباط الانفصال وبين الإخوان.

وتأسست أجنحة عسكرية للأحزاب الأيديولوجية تعمل داخل الجيش ومن أهمها تنظيم البعث بعد انقلاب 14 تموز 1958 بشكل خاص؛ أما اللجنة العسكرية للبعث السوري فأقيمت عام 1960 من قبل عسكريين سوريين أوفدوا للخدمة في الإقليم الجنوبي (مصر، وفي سيناء تحديدًا). وعرفت داخليا بتنظيم سيناء وأصبحت هذه اللجنة القوة الاستراتيجية في تقرير مستقبل سورية السياسي.

عمت تنظيمات الضباط الأحرار الوطنية التركيب الجيوش العربية في المشرق العربي ووصلت إلى اليمن، وحملت سمات إيديولوجية سيطوّرها البعثيون والشيوعيون إلى سمات عقائدية. بالنسبة إلى البعث طوّر منظروه وتحديدا ياسين الحافظ بعد حركة/ انقلاب 8 آذار 1963 مفهوم الانقلابية إلى الثورية، والانقلاب العسكري إلى ثورة، والجيش المحترف التقليدي إلى جيش عقائدي. وضع الحافظ النويات التي عبر عنها الشيشكلي في أوائل الخمسينيات: ضباط عقائديون انقلابيون يحاولون التحالف مع حركات العمال والفلاحين والمثقفين. وتتلخص صيغة الحافظ المنظومية بالجيش العقائدي وقوى العمال والفلاحين وصغار الكسبة (تفاديا لاستخدام مصطلح البورجوازية الصغيرة الذي كان الحافظ يهجوه بفعل تمركسه) والمثقفون الثوريون. واعتنق حزب البعث رسميا أفكار الحافظ من خلال تبني نص 'بعض المنطلقات النظرية'. جاءت تحولات العلاقة بين العسكرية الجديدة المنحدرة من أبناء الفلاحين والفئات الوسطى ومخرجات نظام التعليم المتوسع وبين الفكر السياسي من خلال إعادة تعريف مفهوم الأمة، وتبني نظرية التلازم العضوي بين النضال القومي (الوحدوي) والنضال الطبقي الاشتراكي.

ولا شك أن هذه التوجهات أثرت على جميع الأحزاب ذات المنحى القومي واليساري. وحصل تنافس فيما بينها على إقامة تنظيمات داخل الجيوش العربية، إدراكا منها لأهمية الجيش وقدرته على إحداث التغيير السياسي وتسريع التحول.

ولا يجوز الخلط بين هذه التوجهات وموقف الجيل الأول من القوميين العرب، الذين تعاونوا مع أنظمة ملكية، ولكنهم رحبوا ايضا بحماسة الضباط الانقلابيين، وتعاونوا مع اي نظام يمكن أن يخدم الفكرة القومية والاتحاد العربي، أو التأثير عليه بهذا الاتجاه. هذا هو سلوك قسطنطين زريق الذي كان مستعدا أن يكون سفيرا لسورية في واشنطن، وقبل تعيين حسني الزعيم له رئيسًا لجامعة دمشق. وهو موقف القوميين العرب من الحكم الفيصلي وغيره. كما هو نسبيا موقف محمد كرد علي الذي كان من أبرز من هلل للانقلاب الأول في سورية بقيادة الزعيم نكاية بالكتلة الوطنية السابقة. من المفضل التمييز بين القومية العربية الحزبية البعثية والناصرية ومنظريها، والجيل الأول غير الحزبي من القوميين العرب الذي إذا تحدث عن انقلاب قصد به انقلابا فكريا يحول الشعوب إلى أمة وتحديثيًا يهيئ المجتمعات والدول العربية لاستيعاب العلوم الحديثة في الاقتصاد والعقلانية في إدارة الدولة، وعلمانيًا بعيدا عن الطائفية. ولكن هؤلاء أنفسهم رحبوا بحماس الضباط الذين قاموا بانقلابات. وكان يلزم جيل ثالث من القوميين العرب لكي يتجاوز هذا وذاك.

4. الرهانات الدولية على الجيش في السياسة

مع تمدّد الاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية والانتصار على النازية، وجاذبية نموذجه التنموي، وبعد الثورة الصينية، ساد في الدوائر الغربية، ولا سيما الأميركية خوفٌ من التمدد الشيوعي في العالم الثالث والدول النامية والمستقلة حديثا. في هذه المرحلة تحديدًا ضعفت القوى التقليدية التي تعتمد عليها فرنسا وبريطانيا في العالم الثالث، وفي الوطن العربي، ونشأت في الدول المستقلة حديثًا قوى جدية راهنت عليها السياسة الأميركية. وبرزت من بينها الجيوش كقوة منظمة في الوقت ذاته. وهذه يمكنها أن تمسك بالحكم، كما يمكن استغلال ثقافات المجتمعات المحلية في التعبئة ضد الشيوعية. والضباط في أفضل الحالات مأهّلون لحل المسألة الزراعية، ما يجهض احتمالات أن تتوسع الشيوعية باسم مظالم الفلاحين، أو الانزلاق إلى الثورات الاجتماعية وقيام تحالفات مع القوى الشيوعية بسبب التخلف والفقر وعدم حل المسألة الزراعية.

وكانت الإدارة الأميركية في تلك المرحلة تميل إلى تأييد إصلاح زراعي. وطمحت إلى قيام أنظمة تحديثية معادية للشيوعية، ولا بأس أن تكون مستقلة أيضا عن الانكليز والفرنسيين. وظل العائق المركزي لتحالف أنظمة الضباط من الشيشكلي وحتى عبد الناصر مع الولايات المتحدة هو تحالفاتها الأخرى إبان الحرب الباردة ضد السوفييت (نموذج حلف بغداد)، وموقف إسرائيل السلبي من دعم أنظمة مثل نظام عبد الناصر في جهوده التحديثية وأيضا في تسلّحه، وموقف الولايات المتحدة والدول الغربية من القضية الفلسطينية في تلك المرحلة.

كانت الولايات المتحدة مهتمة بتحديث مصر في مواجهة خطر نشوء الشيوعية في الشرق، بسبب تخلف العلاقات الزراعية فيها ونقمة الفلاحين، كما جرى في الصين وبلدان آسيوية أخرى. وآمنت بقدرة الجيش على القيام بدور يجهض تكرار ما جرى في الصين. لذلك، اهتمت الإدارة الأميركية بمسألة الإصلاح الزراعي اهتمامًا أكيدًا، وأعدت مسوّدات مخططات لهذا الإصلاح الزراعي، منها كراس صدر عن الخارجية الأميركية في شباط/فبراير 1952 بعنوان الإصلاح الزراعي: تحد عالمي. (كان الشيشكلي أول من حاول ان يطبق برنامجاً للإصلاح الزراعي في اوائل العام 1952 قبل عبد الناصر). ويبدو أن خبراء وزارة الخارجية درسوا أيضا التجربة التركية حيث جرى إصلاح زراعي مبكر عام 1945 من دون خطوات باتجاه الشيوعية. وفي آب/أغسطس 1952، أرسلت وزارة الخارجية برقية إلى السفارة في القاهرة تُعلم القيادة الجديدة أن أميركا مستعدة لدعم الإصلاح الزراعي. ووجد باحثون شواهدًا على موقف أميركي ضد دعوة محمد نجيب للديمقراطية التعددية لأنها تتضمن مخاطر غير محسوبة، فالتعامل مع مجموعة منظمة من الضباط أسهل من التعامل مع برلمانات منتخبة.

وكانت قد نشأت علاقات بين بعض الضباط وكيرمت روزفلت، مبعوث الاستخبارات الأميركية إلى المنطقة العربية، ومنها إيران وسورية ومصر. وبدأ روزفلت عقد لقاءات بالضباط الأحرار قبل حدوث الانقلاب، ووضع برنامجًا لتدريب خمسين ضابطًا مصريًا، شارك ستة منهم في تدبير الانقلاب. أما مسألة عِلم السفارة الأميركية بموعد الانقلاب فقد نشر حوله ما يكفي.

وفي خضم الحرب البادرة أصبح السوفييت الرافضون في تراثهم الأيديولوجي للانقلابات العسكرية يؤيدونها إذا جاءت بأنظمة تتحالف معهم. وأصبحت هذه الأنظمة تسمى تقدمية أو سائرة في طريق التطور اللارأسمالي بمجرد تبني دورٍ رئيس للدولة في الاقتصاد والتحالف مع المعسكر الاشتراكي. وبعد نجاح انقلاب الضباط الأحرار 1952 في تغيير النظام في مصر، ولو بتضاد مع الشيوعيين، أصبح هؤلاء يؤيدون النهج الانقلابي، وأيّدوا انقلاب 14 تموز في العراق، وبمعنى ما شكلوا حزبه السياسي. وقد استخدموه أيضا في إدارة صراعهم مع القوميين داخل العراق وإقليميا ضد النفوذ الناصري.

5. لا يقوم الضباط بانقلاب من أجل أن يحكم آخرون

وقعت قوى سياسية واجتماعية في البلدان العربية عدة مرات ضحية الوهم أن الضباط يقومون بانقلاب في خدمتها. وقد اتضح أن الضباط لا يقومون بالتخلي عن الحكم لصالح حزب سياسي إلا نادرا.

وما يجري غالبا هو خلع الضباط الزي العسكري وارتداء ثياب مدنية، بحيث يتقلدون مناصب حكومية كمدنيين. هذا ما فعله أتاتورك، إذ حرص أن لا يبدو تحركه تمردا عسكريا على أوامر السلطة، فبعد أن طلب منه وزير الحرب أن يعود إلى استنبول عام 1919 إذ تبيّن أنه يقوم بعكس تكليفه عند تعيينه مفتشا عاما للجيش التاسع، فبدل حل ميليشيات المقاومة المسلحة قام بتنظيمها. خلع مصطفى كمال الزي العسكري خلال التحرك لكي لا يعصى الأوامر بصفته عسكريا، وطلب من زملائه فعل ذلك، ثم قام ببناء جيش جديد. وهذا أمر مختلف تماما عما فعله حافظ الأسد ورفاقه، وجمال عبد الناصر ورفاقه ذلك بعد الوصول إلى الحكم. مع أن النتيجة تبدو واحدة، وهي اللباس المدني لعسكريين.

لا تحوِّل الثياب المدنية الحكم إلى مدني فعلا. فهو يحكم غالبا بلغة الأوامر التي تصبح قوانينَ، كما لا يقبل بوجود أي معارضة، إذ يعتبر أي اعتراض عليه موقفا من الوطن والدولة. وهذا أصل تخوين المعارضات لهذا النوع من الأنظمة. فهي بموجب العقلية العسكرية ليست معارضة حزب خارج السلطة لحزب آخر في السلطة، فالعسكر ليسوا حزبًا من الأحزاب، ولذلك فمعارضتهم تعتبر موقفا عدائيا ضد الدولة والوطن. هذا إدراك العسكر الذاتي حتى بعد أن يرتدي لباسا مدنيا.

تتكرر هذه الإشكالية في حالة القوى التي لا تحكم بوصفها أحزابا تملك برامج نابعة عن فكر معين، في مقابل أحزاب أخرى لها برامج أخرى. فمن يحكم باسم حركات التحرر حتى بعد أن انتهى دورها في تحرير البلاد من المستعمر، ومن يحكم باسم الجيش، او باسم الدين غالبا ما يميل إلى نشر فهم لأي اختلاف معه كأنه موقف يتجاوز الاختلاف مع سياسته ومواقفه إلى خصومةٍ مع الوطن أو الدين. وفي هذا يلتقي التخوين والتكفير.

وغالبا ما لا يؤدي خلع الحكام الثياب العسكرية عند تولي الحكم إلى تمدين العسكر، بل إلى عسكرة السياسة. إذا أخذنا مثلا حالة قام فيها الحزب بانقلاب عسكري كما في حالة البعث السوري، نجد أن الحزب نفسه تعسكر تدريجيا. وجرى ذلك في البداية عبر 'الحرس القومي'، ثم عبر إخضاع الترفيع في مراتب العضوية من نصير إلى عضو عامل لشرط الخضوع لدورة عسكرية سُمِّيت دورات العمل الفدائي، ثم دورة ممارسة قتالية على الجبهة. وتوقفت هذه العسكرة خلال السبعينيات، ثم عادت في عام 1980 من خلال تشكيل الفصائل المُسلّحة في المنظمات الشعبية والحزب، وعسكرة منظمة الشبيبة وفق منهج فاشي. وأدى ذلك إلى تحكّم نخب اجتماعية سياسية تعتبر الجيش وسيلتها الرئيسة للحراك الاجتماعي، بمعنى الصعود في السلم الاجتماعي. وكانت هذه حال الأطراف المهمشة والفقيرة والأقليات الدينية، وكان الجيش هو المسار الذي يمكن أن يسلكه شاب من أسرة في هوامش البلاد لتوفير وظيفة وللتقدم اجتماعيًا من حيث المنزلة. وكان الجيش في مرحلة الانتداب فتح أبوابه لهذه الفئات. وينبغي ألا ننسى أن التمثيل النسبي المرتفع للمتحدّرين من هذه الفئات لم يُغيّر حقيقة أن الجيش هو التنظيم الأقوى والأكثر حداثة في دولة ما بعد الاستقلال. لكن استئثار حزب البعث بالحكم وتقييد الحريات، بما في ذلك حرية التعبير والتنظيم السياسي وغيرها، أدّيا في النهاية إلى اعتماد الحزب على الأمن وبيئته الاجتماعية التي توفر له القوى البشرية، وتقليص قدرة الفئات الاجتماعية والسياسية الأخرى على التأثير سياسيًا. وأسهم ذلك في زيادة قوة الولاءات الاجتماعية التي يعتمد عليها الأمن، ومنها الروابط الطائفة العلوية في حالة سورية. لكن الأثر الأهم كان سيطرة الضباط على حزب البعث، ثم على السلطة بشكل عام بعد معارك مفصلية حُسمَت في داخل الجيش وفي داخل الحزب.

ثمة حالات استثنائية لتخلي الضباط عن السلطة لصالح قوى مدنية بعد انقلاب. ومنها انقلاب البرتغال 25 أبريل 1974 ضد نظام إستادور نوفو الفاشي وديكتاتورية سيليزار، التي باشرت في عهد كريتنو إصلاحات سياسية منذ العام 1969 تخلت عنها عام 1973. وترافق الانقلاب العسكري الذي قامت به 'حركة القوات المسلحة' بثورة شعبية. ومن الجدير بالذكر أن قيادة الجيش تحركت بفعل ضغط حركة صغار الضباط الثوريين. وشهدت صراعات بين اليمين واليسار، وداخل اليسار بين شيوعيين واشتراكيين، حتى انتهى الأمر إلى انتخابات حسب دستور جديد وتسليم السلطة لنظام ديمقراطي منتخب عام 1976. ولم يحقق الضباط الذين خاضوا الانتخابات نتائج مرضية في الانتخابات.

كان العامل الحاسم في هذه الحالة تطلّع المجتمع المدني والسياسي في البرتغال والأحزاب والنقابات، وقسم كبير من الجيش إلى نظام ديمقراطي في بيئة البرتغال الأوروبية. ولدينا من المنطقة العربية انقلاب الفريق عبد الرحمن سوار الذهب بعد انتفاضة أبريل 1985. وتبين أن انقلابه جرى بالتنسيق مع قادة الانتفاضة والأحزاب. كما سبقه أيضا ضغط من ضباط أكثر تسييسا برتب أدنى تفاعلوا مع الاحتجاج في الشعبي. وتخلى عن الحكم لصالح السياسيين المنتخبين رئيس الوزراء الصادق المهدي، وأحمد الميرغني رئيس مجلس السيادة، وذلك بعد أن رقى نفسه إلى رتبة مشير. واحتفي به في الرأي العام العربي لهذا السبب. ما لبث أن انقلب التيار الإسلامي على العملية الديمقراطية، مستعينا بضباط من الجيش، معتقدا أنهم ينقلبون لصالحه حتى تبين له أن الجيش لن يتخلى عن السلطة لأحد، وأن عمر البشير سوف يحكم بزي عسكري أو من دونه. ودفع التيار الإسلامي ثمن هذا الأمر. هذا الانقلاب الأخير هو القاعدة، أي أنه بعد تجاوز استثناء سوار الذهب كأنه زلة عابرة من زلات التاريخ، عاد الانقلاب إلى قاعدته سالما.

ومؤخرا في العام 2011، بدا تحرك وزير الدفاع المشير طنطاوي ورئيس أركانه عنان والمجلس الأعلى للقوات المسلحة وضغطهم علىمبارك للاستقالة انقلابا من هذا النوع. فقد مكث المجلس العسكري في الحكم إلى حين تسليمه لسلطة منتخبة. فهل كان من نفس نمط انقلاب البرتغال؟ من الواضح أنه في البرتغال بدأ الجيش الثورة وتبعه الشعب، أما في مصر فقد خرج الشعب إلى الشارع، وتحرك الجيش بأمر من رئيس الجمهورية. وثمة تقديرات مختلفة لدوافع تحييده لنفسه في مرحلة ما (بعد ما سمي 'موقعة الجمل') بين النظام والشعب. وبلا شك مرت لحظات أدرك فيها الجيش قوة المطلب الديمقراطي، ولاحت له فكرة التخلص من مبارك وعملية التوريث لابنه. ولكن حتى في هذه اللحظات كان جل ما أراده انقاذ امتيازاته التي رسختها الصفقة التاريخية في عهد مبارك. ولكن قدرة الجيش على فرض إرادته كانت متعلقة بحركة الشارع مصدر الشرعية في تلك الأيام، اي بالمجتمع المدني المصري ومدى إصراره على البرنامج الديمقراطي، وذلك بالتوحّد على أسسِه الديمقراطية، والاختلاف على غيرها تحت سقفها.

وحين سنحت الفرصة عاد الجيش واستغل عدم قدرة القوى السياسية على الاختلاف تحت سقف مؤسسات منتخبة ديمقراطيا، ومحاولات عدد منها كسبه لصفّها ضد أخرى. وفي الحقيقة استغلها جميعا ليغدو المؤسسة المجمَع عليها من القوى السياسية غير المتفقة على أي شيء آخر. في تلك الأيام العصيبة التي مرت بها مصر بعد انتخاب رئيسٍ للجمهورية عام 2012 بدا الجيش الثابتَ الوحيد بين قوى سياسية، متغيرة وغير قادرة على الاتفاق، وجميعها تلجأ إليه ليكون إلى جانبها. وقام بخطوته بعد أن حرّك الجماهير كي تطالبُه بذلك.

وفي رأيي فإن الانقلاب المصري من يوليو يونيو 2013 والذي شكل نقطة تحول في تاريخ الثورة العربية من أجل الديمقراطية، يشبه انقلاب أوغستو بينوشيه، أي انقلاب جيش النظام على العملية السياسية، أكثر مما يشبه الانقلابات الراديكالية. جاء انقلاب بينوشيه على زعيم منتخب هو سلفادور أييندي بعد أن عينه الأخير عام 1973 قائدا عاما للقوات المسلحة بعد أن كان رئيسا للأركان منذ 1972. وقد عينه يوم 23 أغسطس وانقلب عليه يوم 11 سبتمبر. في السابقة السورية وقع الأمر نفسه، إذا عين شكري القوتلي حسني الزعيم قائدا للجيش بعد أن كان مديرا للشرطة لينقلب عليه الزعيم بعد عدة شهور. ومن الواضح أن الانقلاب على حكومة الاتحاد الاشتراكي الشعبي ما كان لينجح لولا دعم الإدارة الأميركية ومخابراتها، ولم يكن ليصمد في الحكم من دون هذا الدعم. وقد نفذ بينوشيه سياسات نيولبرالية، ورفع الحماية عن الإنتاج المحلي، ومنع النقابات وأوقف الدعم على السلع، وخفض مصروفات الحكومة بخصخصة الخدمات الاجتماعية. وخلال التسعينيات كانت تشيلي حسب البنك الدولي وصندوق النقد أفضلَ اقتصاد في أميركا اللاتينية، أو ما عُرِف بمعجزة تشيلي، (ونحن لا نرى أنه ثمة وجه للشبه بين الاقتصاد المصري ومشاكله البنيوية واقتصاد تشيلي ولا نتوقع معجزة اقتصادية من عبد الفتاح السيسي).

إنه انقلاب النظام القديم على العملية السياسية التي تتجه نحو تغييره، في محاولة للحفاظ على امتيازاته من جهة وعلى النظام الحاكم الذي صمد بعد أن قُطِعَ رأسُه. ليس هذا تحركَ ضباطٍ صغارٍ يسعون إلى الحكم ويجرون تجارب على نظام الحكم الأفضل، وينتقلون من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار وينفذون إصلاحا زراعيا ويعممون التعليم، بل هو انقلاب قيادات الجيش العليا ومؤسسة الجيش. إنه انقلاب بالمعنى الضيق، انقلاب من داخل النظام للحفاظ على النظام ممن يعتبره الجيش تهديدا له، وليس من نوع الانقلابات التي تتحول إلى إقامة نظام جديد، فتطلق على نفسها غالبا تسمية ثورة: ثورة 23 يوليو، ثورة14 تموز، الثورة التصحيحية الخ.

هذا النوع من الانقلابات يتميز بالاستقرار للأسف. فلا مجموعة أو شلة، أو أخوية ضباط هنا، بل الجيش النظامي ذاته؛ ولا تدور بعد الانقلاب صراعات الضباط، فالهرمية التراتبية واضحة تماما، وقائد الجيش يصبح رئيسًا. وجلُّ ما يمكنه أن يحققه إجراءات اقتصادية اجتماعية لا تجرؤ حكومة منتخبة القيام بها وعيناها على الرأي العام ونتائج الاستفتاءات والشعبية. ولذلك حققت تشيلي في مرحلة بينوشيه استقرارا ملحوظا، ونموا اقتصاديا، واستمر الحكم لفترة زمنية طويلة نسبيا وانتهى بانفتاح تدريجي وإتاحة المجال للأحزاب والنقابات للعمل، واستفتاءات قادت إلى تحول ديمقراطي.

الجيش مؤسسة تعمل وفق مصالحها، وهي تميل إلى تصوير مصالحها في مراحل الانتقال كأنها مصالح وطنية عامة، كما لا تعمل هذه المؤسسة بموجب نظام أفكار. إنها مؤسسة منظمة أعلى من حزب أو حركة او خزان أفكار فهل يجب في مرحلة التحول الديموقراطي اعتبارها قوة داخلية أم سيبقى النظر إليها كمؤسسة تدافع عن حدود الوطن؟ على دروس الانتقال الديموقراطي أن تتعظ بالانقلاب العسكري الأخير في مصر.

من ناحية أخرى ثبت في تركيا كما في مصر أن الانقلاب يحتاج إلى التحالف مع قوى مدنية وسياسية لكي يتمكن من فرض نفسه على المجتمع. فهو يفشل من دونها، وهذا ما وقع في تركيا على عكس مصر، سيما وأن انقساما وقع بين مؤيدي الديمقراطية ومؤيدي الانقلاب. أما حين انقسم المجتمع بين مؤيدي حزب سياسي بعينه (مثل الإخوان المسلمين) ومعارضيهم، (وليس بين الديمقراطية ومؤيديها) فسوف ينجح العسكر، فبموجب هذا الفرز يجد الانقلابيون حلفاء كثيرين يساندونهم من منطلقات ودوافع مختلفة، ضد الإخوان أو أي حركة سياسية أخرى.


>> المحاضرة ألقيت في معهد الدوحة في الأول من تشرين الأول/أكتوبر الحالي

اقرأ/ي أيضًا لـ د. عزمي بشارة

التعليقات