27/10/2016 - 14:00

قتل على خلفية غياب الفرد

قتلت سيدتان من مدينة يافا في الأسبوع الأخير، الأولى هويدة شوا التي قتلت قرب نابلس ولا تزال خلفية الجريمة غير واضحة تماما؛ والثانية هدى كحيل، التي قتلت طعنا والمشتبه بتنفيذ الجريمة هو شقيقها.

قتل على خلفية غياب الفرد

قتلت سيدتان من مدينة يافا في الأسبوع الأخير، الأولى هويدة شوا التي قتلت قرب نابلس ولا تزال خلفية الجريمة غير واضحة تماما؛ والثانية هدى كحيل، التي قتلت طعنا والمشتبه بتنفيذ الجريمة هو شقيقها.

الجريمتان ليستا خارج إطار  العنف الأسري، على الرغم من أن الخلفية غير محددة حتى الآن بشكل نهائي، لكنها تنضاف إلى ٢٥ جريمة قتل نساء في العشرين شهرا الماضيين.

من بين كل الأحزاب، فقط التجمع الوطني الديمقراطي أصدر بيانا أمس بهذا الشأن، واعتقد أنه الوحيد بين المؤسسات الأهلية. واستذكر ذلك ليس فقط على سبيل الإشادة وإنما أيضًا بهدف الإشارة إلى ما جاء في مقدمته: حذّر التجمع الوطني الديمقراطي في بيانه، اليوم الأربعاء، من استفحال واستسهال جرائم قتل النساء في مجتمعنا، واصفا هذه الظاهرة وظاهرة الجريمة بشكل عام، بأنّها مؤشر لضعف مرجعياتنا القيمية، ولحالة ترد مجتمعي عام.

تحدث التجمع عن ضعف مرجعياتنا القيمية وترد مجتمعي عام. لا شك في التشخيص لكنه غير كاف ويستدعي أن ننبش أكثر في جذور هذه الجرائم. رؤية المجتمع على أنه عمومي وشامل كتلة واحدة لا يساعدنا في كشف هذه الجذور، لأن المجتمع شرائح وطبقات وطوائف ومواقع وجغرافيا، ولأنه مركب من أغنياء وفقراء، أفراد وجماعات.

ليس المجتمع كتلة واحدة متماهية في بعضها البعض، بل هناك مجتمعات وجماعات داخل المجتمع الكبير، ولهذه المجتمعات مرجعيات قيمية مختلفة، مرجعية قيمية للفقراء ومرجعية قيمية للأغنياء، مرجعية قيمية في المدينة تختلف عن مرجعية قيمية في الريف. لا فضل لهذه على تلك، وإنما هذا تشخيص سوسيولوجي. هذا التشخيص أو التوصيف ليس أعمق ما يكون، ولكنه يلامس الجذور، هو إزميل، لن يكشف الجذور وحده، بل عصف ذهني لتحديد مكامن المشكلة ومواجهتها على المدى البعيد.

فرق علماء الاجتماع مفهوميا بين نوعين بالأساس من المجتمعات، المجتمع أو ذاك المتشكل من أفراد بالمعنى الحديث  أو المديني (gesellschaft)؛ ومجتمع آخر هو الجماعة القبلية العضوية (gemeinschaft). الأول أقرب إلى المجتمعات الحديثة 'الغنية' التي تتشكل من طبقة وسطى واسعة ومرجعيتها القيمية هي مرجعية فردية لا تحكمها المرجعية الجماعية بالأساس ومبنية على المصالحة بين المصالح المختلفة للأفراد، والثاني أقرب إلى مجتمعات الفقر أو القبيلة أو المجتمعات الصغيرة المبنية على الولاء الأعمى بدل تحالف المصالح الفردية، إذ لا حيز للفرد أو لمرجعية قيمية فردية وإنما الجماعة هي صاحبة القول الفصل، هي الطاغية، التي لا يختار الفرد فيها أن يكون فيها بل 'يرثها' أبا عن جد. في المجموعة الأولى الفرد يقبل عن وعي تشارك المرجعية القيمية مع الآخرين دون أن تتعارض مع مرجعيته هو. في الأول بمقدور الفرد أن يتميز عن المجموعة ويبقى مقبولا فيها وعليها. في الثانية رفض المرجعية الجماعية يعني الخروج منها والنفي والإقصاء، أي يصبح الفرد منبوذا وخائنا أو شاذا. لا مكان للفرد في الثانية. في الأولى الفرد يتصرف في مرجعية حرة، وفي الثانية تفرض عليه المرجعية القيمية، هو ليس حرا.

إذا ما أردنا أن نعكس كل ذلك على واقعنا، فلا بأس من القول إن جرائم قتل النساء في العامين الأخيرين مثل سابقاتها جاءت بفعل ليس ضعف المرجعية القيمية فقط، بل تخلفها وانعدام قيمة الفرد فيها، أي طغيان الجماعة ومرجعيتها؛ هذه المرجعية لا حيز للفرد ليخلق مرجعيته القيمية الذاتية ولا قيمة للفرد أساسا، وإنما هو يتصرف وفق مرجعية جماعية تحكمها عادات تستند إلى قيم متخيلة بأنها قائمة بذاتها وأن لها علاقة بالأخلاق، مثل 'العيب' و'الحرام' (بالمعنى الاجتماعي) و'الشرف' (بمعنى ما ملاءمة الفرد وأسرته للمرجعية القيمية الجماعية). هنا يسيطر "العيب" و"الشرف" بدلا من الأخلاق.

هذا هو مجتمع الفقراء والمستضعفين، لأن الفقير لا وسائل وإمكانية لديه للخروج من هذا الواقع البائس، وتحديدا في مجتمعنا الذي يعيش في ظل حالة استعمارية دمرت الحيز المديني. وفي حال قرر هذا الفرد الخروج من هذه المجموعة يصبح منبوذا يعيش على هامش الحرية الذي توفره المدينة اليهودية. يصبح في حالة اغتراب مزدوج. اغتراب عن مجتمعه واغتراب عن المجتمع الذي انتقل للعيش فيه. هذه حالة مأساوية يحاول أن يواجهها الفرد إما بالبحث عن مستضعفين مثله في المجتمع الآخر ويلتحق بهم، وإما 'التمرد' على الواقع بالانقطاع عنه عمليا، والضياع في هامش المدينة اليهودية، و'ينظر' عن تخلف المجموعة التي غادرها، لكنه عمليا يصبح فرد بلا جماعة حقيقية، لا هنا ولا هناك، أي الضياع. هي حالات يمكن رصدها يوميا في يافا وتل أبيب وحيفا.

أما إذا قرر الفرد التمرد على الواقع البائس من داخل الجماعة فيقتل، بداية معنويا من خلال تشويهه، ولاحقا بقتله ماديا، أي موته، عادة بفعل شخص قريب منه. التمرد على الواقع البائس من داخل المجموعة يكون مثلا بقرار سيدة الانفصال عن زوجها لأنها لم تعد تحتمل القهر اليومي ولا تريد أن تعيش بناتها وأبنائها الواقع المأساوي ذاته. يعتبر الزوج أو الشقيق أن هذا 'عيبا' أو تمرد شاذ على العادات والتقاليد. هو بالحقيقة لا يؤمن بذلك عن تفكير ووعي ذاتي فردي، هو لقن ذلك بتأثير المجتمع والمرجعية القيمية الجماعية. هو ليس ضحية لأنه قبل بهذا الواقع البائس لأنه يحظى بامتيازات فيه و'العيب' و"الشرف" لا يسري عليه، مثلا في حال قرر هو الانفصال عن زوجته أو الارتباط بسيدة أخرى بموازاة علاقته الرسمية. هذه هي امتيازات الفقير في الواقع البائس.

في المقابل، يستطيع المتمكن اقتصاديا وثقافيا أو 'أبناء الطبقة الوسطى' رفض هذه المرجعية الجماعية من خلال 'التحالف' مع أفراد، وهنا التشديد على أفراد، وتشكيل طبقة جديدة تعيش حياة منفصلة عن مجتمع القبيلة، ومرجعيتها القيمية هي فردية نابعة عن وعي ذاتي وممارسة فردية. في هذه الحالة مثلا، تنتهي عملية انفصال زوجين في مكتب محام بلا علاقة بـ'العيب' و'الحلال' و'الحرام' و'المتبع والدارج' و"الشرف". ليس بالضرورة أن تكون هذه الحالات أكثر ليبرالية وأخلاقية، لكنها أقل مأساوية. يصون الفرد حق الفرد الآخر من أجله هو، ومن أجل الحفاظ على العقد العام أو النظام العام.

الحديث هنا ليس عن أخلاق عبد واخلاق سيد، ولا عن تخلف الفقراء وتقدم الأغنياء، الحديث هنا هو عن تقدير الفرد ومنحه الحيز لتشكيل مرجعيته القيمية الفردية، التي تكون عقلانية واعية غالبا، مقابل تغييب الفرد وإخضاعه لمرجعية جماعية تكون لا عقلانية غالبا وإنما متوارثة.

بالحالة الأولى الفرد قادر ومتمكن ويستوعب الآخر؛ في الحالة الثانية هو معدوم وعاجز ويمارس عجزه على من هو أضعف منه.

وعودة إلى بيان التجمع الذي يستحق الإشادة، فقد أكد 'عدم قدرة المجتمع ومؤسساته على حماية الفرد فيه، تؤدي إلى إضعاف ذاتنا الجماعية، وإلى لجوء الفرد لدوائر انتماء ضيقة، وتحول الأمن إلى هاجسنا الأكبر، على حساب حاجتنا في التطور والتقدم'. هذه فرصة أن ننظر إلى حالنا الجمعية في هذه المناسبة وأن نتساءل، كيف لنا أن نخرج من هذا الواقع المأساوي وبين ظهرانينا أحزاب وحركات ومؤسسات ترى بالفرد وسيلة لا أكثر، وتدعم أنظمة تبيد الأفراد باسم وحدة وطنهم وسيادته. إنها أمور متشابكة ومركبة والإجابة عليها تطول، لكن هذه المؤسسات لديها سلطة أخلاقية وقدرة توعوية على رفع مكانة الفرد، على الأقل في خطابها. 

اقرأ/ي أيضًا| عن تحديات الحركة الإسلامية

المعادلة هي حرية الفرد أمام ديكتاتورية الجماعة. الأخلاق مقابل 'العيب'، والضمير مقابل 'الشرف'.  لنعيد الفرد إلى مكانه الصحيح ونصونه، إذ إن مناعة المرجعية الجماعية من مناعة المرجعية الفردية.

التعليقات