10/11/2016 - 23:36

الكوفية والعقال رمز الثورة

على مر العصور اعتمر الفلاحون في القرى والبدو الكوفية والعقال. في عام 1917 دخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق ومعه المتطوعون العرب وهم يلبسون الكوفيات والعقلة. منذ القرن التاسع عشر لبس الأفندية والمثقفون من الطبقة العليا والمتوسطة الطربوش.

الكوفية والعقال رمز الثورة

على مر العصور اعتمر الفلاحون في القرى والبدو الكوفية والعقال. في عام 1917 دخل الأمير فيصل بن الحسين دمشق ومعه المتطوعون العرب وهم يلبسون الكوفيات والعقلة. منذ القرن التاسع عشر لبس الأفندية والمثقفون من الطبقة العليا والمتوسطة الطربوش الأحمر، وهو لباس أخذه الأتراك عن الفرس، فلا عجب أن انتشر الطربوش في المدن الفلسطينية. في سنة 1936 كان أبناء المدن هم  الأكثر فاعلية في الإضراب والمقاطعة والثورة، لكن سرعان ما خف نشاطهم وازداد عدد المجاهدين القرويين. في عام 1938 سيطر الثوار القرويون على سكان القرى والمدن على حد سواء، بينما وقف الإنكليز عاجزين عن فرض سيطرتهم على هؤلاء السكان1. في إطار هذا السجال فرض الثوار على سكان المدن نزع الطربوش ولبس الكوفية والعقال بدلاً منه. فما هي الأسباب، وما هي الدوافع التي وقفت وراء ذلك؟

يُشير صبحي ياسين في 'كتابه الثورة العربية الكبرى في فلسطين' إلى أن القيادة العامة للثورة أصدرت أمرًا في 27 آب/أغسطس 1938 يقضي'بأن يرتدي سائر أفراد الشعب الكوفية والعقال فاستجاب الشعب لذلك، وفي غضون أسبوع واحد لم يعد في جميع أنحاء فلسطين لباس للرأس سوى الكوفية والعقال. أما سبب إصدار ذلك الأمر فهو أن الفدائيين كانوا يرتدون الكوفية والعقال أثناء القيام بالعمليات الحربية المطلوبة منهم داخل المدن. وكان رجال البوليس يلاحقون كل من يرتدي الكوفية والعقال. ووجدت قيادة الثورة في ذلك قضاءً على أسباب حملة الاعتقالات'2. واضح أن صبحي ياسين يحاول تبسيط الأمور والتخفيف من حدة المجريات!.

وفي هذا السياق يقول أكرم زعيتر تحت عنوان(الكوفية والعقال رمز الثورة): 'المعروف أن الثوار في فلسطين يلبسون على رؤوسهم العقال والكوفية، وذلك أساسًا هو ما يلبس على الرأس في القرى، وحيث أن الثورة المباركة قد استطاعت أن تقضي على الجواسيس في معظم المناطق الفلسطينية، فلم تجد السلطة ما تميز به المجاهدين في المدن عن غيرهم إلا اعتبار كل لابس للعقال والكوفية ثائرًا فتلاحقه بالتحقيق أو الاضطهاد. وهنا فكّرت إحدى القيادات في الأمر فأذاعت بيانًا تحض على نزع الطربوش عن الرأس(وهو غطاء الراس لدى جميع سكان المدن) ولبس الكوفية والعقال، وبذلك يزول الفارق بين المجاهدين وغيرهم ويكون ذلك إعلانًا لتضامن سكان البلاد في الجهاد رمزًا لكون الناس جميعًا ثائرين. وما أن صدر البيان المذكور حتى بادر سكان البلاد إلى انتزاع الطربوش وإحلال (الكوفية) والعقال رمز الثورة محله، مما أدهش السلطات ودل على نفوذ الثورة وقوة سلطانها. ومن كان يتصور أن تنزع أمة بكاملها لباس رأسها الذي هو من تقاليدها الثابتة الموروثة'3. من الجدير بالذكر أن التقرير ظهر بتاريخ 30/8/1938). فمن هي إحدى القيادات التي يرمز إليها زعيتر؟ يبدو لنا أنه يقصد القائد يوسف سعيد أبو درة، لأن الوثائق والمصادر لا تشير إلى أن القائد عبد الرحيم الحاج محمد نشر بيانًا حول هذا الأمر، ولأن منشور عارف عبد الرازق بهذا الخصوص صدر فقط في 4 أيلول/سبتمبر 1948، أي بعد انتشار الظاهرة في جميع أنحاء فلسطين4.

تشير تقارير الهاغاناه إلى أنه في منتصف شهر آب 1938 ألصقت في شوارع يافا إعلانات تطالب سكان المدينة باستبدال لباس الرأس التقليدي الطربوش بالكوفية والعقال الملبوسة في القرى. في الأسبوع الرابع من ذالكم الشهر بدأت الفصائل الثورية تفرض طلبها بالقوة، إذ من تجرأ على المرور في شورع يافا وهو يلبس الطربوش ضُرِبَ ومُزّق طربوشه. في بداية شهر أيلول انتشرت الظاهرة بسرعة في جنين وحيفا وغزة والمجدل وباقي المدن الفلسطينية5.

ورد في صحيفة بلستاين بوست الصادرة في 2 أيلول 1938 أن ظاهرة لبس العقال والحطة ونزع الطربوش انتشرت كضوء البرق في حيفا ويافا وصفد ونابلس والناصرة ولدى جميع السكان العرب، وأن أحد التجار في القدس ربح مائة جنيه فلسطيني في أسبوع واحد من بيع الحطات والعقلة6.

كان ثمن الحطة والعقال خمسة قروش، ولكن شدة الطلب عليهما أدت إلى ارتفاع سعرهما، وإلى استيرد كميات كبيرة منها من دمشق واختفائهما من الأسواق7.

في 3 أيلول 1938 تلقى أكرم زعيتر تقريرًا عن مظاهر نفوذ الثورة في فلسطين وهو يقول:' كتب كبار الموظفين وقضاة المحاكم والقائمقامون إلى السلطة إنهم لا يستطيعون أن يخرجوا من بيوتهم إلى أعمالهم ما لم يلبسوا العقال والكوفية(رمز الثورة) فأذنت لهم بذلك فلبسوها وهكذا اختفى الطربوش. وقد شوهد موظف بريطاني كبير يلبس العقال اتقاء الاغتيال'8. وكذا فعل المحامون الذين لم يجرؤا على معارضة أوامر الثورة فالتمسوا من إدارة المحاكم السماح لهم بالظهور المحاكم وهم يعتمرون الكوفية والعقال9. يقول أوحنا يوفال أرنون إن إدارة المحاكم نشرت في 15 أيلول أمرًا يقضي بمنع المحامين من الظهور في المحكمة بالعقال والكوفية ما أدى إلى اعتراضهم على ذلك في 18 من الشهر نفسه، ثم سُمح لهم بلبسهما10.

في 4 ايلول/سبتمبر 1938 أصدر القائد عارف عبد الرازق بيانًا أشار فيه إلى أن الحاجة إلى نزع الطربوش واعتمار الكوفية والعقال نابعة من أن الطربوش إرث تركي، والأتراك اضطهدوا العرب على مدى قرون، وهم اليوم يثبتون ذلك في لواء الإسكندرون، حيث يسعون بكل وسيلة إلى السيطرة على أرض عربية واستعباد أهلها. بينما الكوفية هي غطاء رأس وطني أصيل وكان دائمًا اللباس الوطني الوحيد للعرب11. يقول فورات يهوشع إن الرأي السائد لدى العرب كان أن فرض لبس الكوفية والعقال على أهل المدن جاء لتشجيع الفلاح وجعله رمزًا للعروبة الحقة، لذا فُرِض على المدني لبس الكوفية والعقال مثله. كلا التفسيرين القومي والاجتماعي لا يتعارضان، حسب رأيه، وربما كان كلاهما صحيح، لكن تجدر الإشارة إلى أن الرأي الثاني كان أقرب إلى قلوب الثوار أكثر من قضية لواء الإسكندرون الواقع شمال غرب سوريا 12.

الرواية الصهيونية تؤكد على أن الأمر بنزع الطربوش ولبس الكوفية والعقال صدر ليس فقط بدافع حماية الثوار من السلطات، وإنما ينم عن وجود صراع طبقي بين أهل القرى وأهل المدن، أو ' بمثابة ثورة اجتماعية، ثورة الطبقات الدنيا، الفلاحين والفقراء، ضد سكان المدن المتعلمين الذين امتصوا خيراتهم أعوامًا عديدة، وبحسب إحدى الروايات، صدر الأمر بخصوص الكوفية والعقال 'لتشجيع الفلاح وإظهار أنه هو رمز العروبة الحقيقية، وقد تذمر سكان المدن بمرارة من العبيد الذين قاموا للتحكم فيهم' 13. وقد تبنى هذه الرواية اثنان من الباحثين العرب دون تمحيص14. من  الجدير بالذكر أن الدعوة إلى نزع الطربوش ولبس الكوفية والعقال بدأت في يافا معقل الحزب النشاشيبي المعارض، وانتشرت كالنار في الهشيم في كل أنحاء فلسطين ولم يعارضها إلا قلة من الأفندية المنتمية إلى تلك المعارضة. في حيفا قام طلاب المدارس بتشجيع من بعض معلميهم بخطف الطرابيش بعصا في آخرها صنارة من على رأس الأفندي عنوة، وكانوا يهتفون: حطة وعقال بخمس قروش، لأبو طربوش أحمر منقوش15. وفي الناصرة كان الصبية يهتفون: حطة حطة بعشر قروش، يلعن أبو اللي لبس طربوش، وفي صفد هتفوا: اِشلح اِشلح هالطربوش، وإِلبوس وإِلبوس الحطة، هيك علمتنا الثورة 16. وقد أشار بهجت أبو غربية في مذكراته إلى أنه لما  كان سكان المدن يلبسون الطرابيش وسكان القرى يرتدون الكوفية والعقال، وكان ذلك يكشف تنقل الثوار بين المدينة والقرية أمرت قيادة الثورة بأن يرتدي جميع أفراد الشعب الكوفية والعقال، ونُفّذ هذا الأمر وكانت له فوائد جمة 17.

قبل بضع سنين طرأ تحول على الرواية الصهيونية إذ علل هيلل كوهين أمر نزع الطربوش ولبس الكوفية بأن سكان المدن العرب الذين أيدوا الإضراب والمقاطعة في عام 1936 ، راحوا في سنة 1938 يتبادلون مع اليهود التجارة وإيجار الشقق ومنافع أخرى ما اقتضى ردعهم بمثل هذه الوسائل، وأن الثورة في تلك الفترة سيطرت على جميع مناحي الحياة في المدن والقرى على حد سواء 18.

منذ سنة 1938 أصبحت الكوفية أو الحطّة رمزًا للثورة الفلسطينية، ومنذ الستينيات من القرن الماضي اعتمرها ياسر عرفات واتخذها رمزًا للمقاومة، وكان يلبسها بطريقته الخاصة التي تبرز خارطة فلسطين التاريخية، وقد شاع استعمال الكوفية بين الفلسطينيين منذ الانتفاضة الأولى، وصارت رمزًا  للهوية الفلسطينية، وشعارًا يلتف حوله المتعاطفون معها في كل أنحاء العالم. عن رمزية الكوفية ودورها في النضال الفلسطيني على مر السنين راجع كتاب ذكريات الثورة لتيد سويدنبورغ بالإنكليزية19.

ضمن محاولة السطو على التراث الفلسطيني جاء دور الكوفية الفلسطينية. في هذا السياق نشرت جريدة القدس العربي الصادرة في لندن في 24 أكتوبر 2015 ما يلي:

'تواصل إسرائيل عمليات سرقة التراث الفلسطيني والتزين به وتجييره لمصالحها الإقتصادية والثقافية وتسويقه على أنه إسرائيلي. وتمثلت آخر ممارسات السطو على الملكية التراثية لفلسطين هذا الأسبوع عندما ظهرت عارضات أزياء إسرائيليات خلال «أسبوع تل أبيب للموضة» وهن يرتدين الكوفية الفلسطينية باللونين الأبيض والأحمر، وأخرى بالأسود والأبيض بحجة أنها «خطوة نحو التعايش» بين الفلسطينيين والإسرائيليين، حسبما جاء على لسان المصمم القائم على العمل يارون مينكوفسكي'.

من الجدير بالذكر أنه ظهرت في الآونة الأخيرة  كوفيات باللونين الأزرق والأبيض ونجمة داود في محاولة فظة للسطو على تراث الشعب الفلسطيني.!؟.

الثورة تحظر حمل بطاقات الهوية:

في الأول من شهر كانون الثاني 1938 أصدر الجيش البريطاني أمرًا يقضي بأن على كل مسافر في طرقات البلاد التزود ببطاقة هوية وبتصريح ملائم للسفر من طرف الجيش20. في شهر آب/أغسطس من ذلك العام كان الجيش البريطاني يضرب أطواقًا حول كل قرية من قرى قضاء جنين ويجري فيها تفتيشًا بحثًا عن الثوار، ويصدر بطاقات إثبات الهوية لأهالي القرية بحضور المختار وموظفين من الشرطة، لكن هذه البطاقات لم تكن تحتوي على صورة شخصية، أو بيانات دقيقة لذا كان من السهل التمويه على الجيش بحمل بطاقة شخص آخر لا علاقة له بالثورة، وهكذا كان بالإمكان التملص من الطوق بسهولة 21.

في 12/10/1938 أصدرت حكومة الانتداب أول بطاقة هوية رسمية مطبوعة ، تعطى مجانًا لكل مواطن فلسطيني ذكر يبلغ من العمر 16 عامًا أو أكثر . للحصول على مثل هذه البطاقة كان على الشخص التوجه إلى مكتب حاكم اللواء مع صورتين شخصيتين، وشهادة إثبات الهوية من المختار أو البلدية. هذه البطاقة كان من شأنها مساعدة حامليها عند الاتصال بسلطات الجيش أو الدوائر الحكومية 22. في هذه البطاقة ثبتت صورة شخصية، وفي أعلاها رقم التسلسل وفي داخلها سجلت بخط اليد تفاصيل دقيقة حول: الاسم الشخصي واسم العائلة، مكان إقامته، مكان عمله، مهنته أو صنعته، ديانته وأوصافه الجسدية: طوله، لون عينيه، لون شعره، حجم بنيته، وعلامات فارقة، وتوقيعه الشخصي، وختم ضابط اللواء وتوقيعه، وتاريخ إصدار البطاقة بحيث كان من السهل التمييز بين العربي واليهودي، والمسيحي والمسلم 23. في تلك الفترة فرضت حكومة الانتداب على الرجال العرب استصدار بطاقات هوية رسمية دون النساء، بينما لم تفرض ذلك في الوسط اليهودي وإنما قامت البلديات هناك بتشجيع الرجال والنساء، على حد سواء، على الحصول على مثل هذه البطاقات بأن أحضرت ضابط اللواء إلى البلدية لتسهيل تنفيذ هذه المهمة 24.

لم تمر سوى أيام معدودة حتى قام مجلس قيادة الثورة في فلسطين دون الرجوع إلى اللجنة المركزية للثورة في دمشق بإصدار أمر يحظر بموجبه استخراج بطاقة هوية أو حملها 25. في 18/10/1938 أصدر القائد يوسف سعيد أبو درة نداء موجهًا إلى أهالي حيفا العرب يدعوهم فيه إلى عدم استخراج بطاقات هوية لأن في ذلك تفريق بين الأمة العربية: بين الفلسطيني والسوري، وتفريق بين أبناء الوطن الواحد: بين المسلم والمسيحي26. يجب ألا ننسى أنه كان يعيش في حيفا عدد كبير من السوريين، وأن بعضهم انضم إلى صفوف الثورة 27. لقد رأى مجلس قيادة الثورة في بطاقات الهوية وسيلة لتضييق الخناق على الثوار في المدن والقرى على حد سواء، فكان لا بد من حظرها بكل الوسائل، وفيما يلي نداء يوسف سعيد أبو درة إلى أهالي حيفا العرب الوارد ذكره  أعلاه:

وثيقة صادرة عن سعيد يوسف أبو درة:

24 شعبان 1357ﮪ/ 18 تشرين الأول 1938

 بسم الله الرحمن الرحيم

 واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا

 نداء إلى إخواننا العرب في حيفا

نعلمكم بأنه وصلتنا أخبار عن أن الحكومة الإنكليزية طلبت من كل من يتواجد في المدينة أن يستخرج بطاقة هوية كي تعلم إن كان فلسطينيًا أم سوريًا. إن هذا العمل يجري فقط للتفريق بين الأمة العربية، فليس هناك فرق بين فلسطيني أو سوري، كلهم عرب مسلم أو مسيحي.

بهذا نعلمكم بأن كل من يحمل بطاقة هوية ليحمي بها نفسه سينال منا أشد العقاب.

والسلام على من اتبع الهدى

خادم وطنه ودينه

القائد سعيد يوسف أبو درة

وضعت سلطات الانتداب في سلم أولوياتها إخراج الثوار من المدن لقطع الإمدادات المالية عنهم، والحد من نفوذهم هناك: في يوم الجمعة 14/10/1938 قامت القوات البريطانية بعملية عسكرية كبيرة لاستعادة سيطرتها على القدس القديمة بعد أن سيطر الثوار عليها بالكامل ورفعوا العلم العربي على باب العمود. وقد فرضت منع التجوال وزجت بقوات كبيرة حتى نجحت في حصر الثوار في باحات المسجد الأقصى28. وسعت حكومة الانتداب من نطاق الحكم العسكري ليشمل كل أنحاء البلاد التي قُسّمت إلى أربعة ألوية عسكرية ، على رأس كل منها حاكم عسكري برتبة بريغادير. في يوم الاثنين 31/10/1938 أجرت قوات كبيرة من الجيش والشرطة تفتيشًا دقيقًا في يافا بحثًا عن الثوار، وخلال العمليات قتلت عشرة وجرحت آخرين واعتقلت العشرات الذين عرضوا على مخاتير الأحياء للتعرف على هوياتهم 29. في الأول والثاني من نوفمبر 1938)؛ وفي اليوم التالي أجريت عمليات مشابهة في حيفا حيث اعتقل هناك العشرات30.        

ابتداء من أول نوفمبر/تشرين الثاني 1938 اخضع الجيش حركة المرور على الطرقات للمراقبة. وأصبح كل مسافر بحاجة إلى بطاقة هوية شخصية وتصريح عسكري خاص. وقد حظرت اللجنة المركزية للثورة في دمشق على العرب الانصياع لهذا الأمر، وأعلن قادة الثورة في فلسطين أن كل من يحصل على تصريح بالسفر من سلطات الانتداب البريطاني سيعاقب ودمه مهدور. واحتار الناس بين إطاعة الثوار وبين شل الحياة الاقتصادية في البلاد. وبدأ موسم الحمضيات، وأصبح من المستحيل نقل الثمار من البيارات إلى الموانئ من دون تصاريح من الجيش. واحتج أصحاب البيارات بأنهم لا يستطيعون تنفيذ أوامر الثوار. فاتفق على إعفاء سيارات نقل الحمضيات من الخضوع للأمر الذي أصدره قادة الثورة نظير جباية رسم خاص على كل صندوق حمضيات وتقديمه للثوار. وتقدم سائقو سيارات الحمضيات بطلبات للحصول على تصاريح، لكن كانت في انتظارهم هذه المرة خيبة أمل، فقد أعلمتهم السلطات العسكرية بأنهم لن يحصلوا على تصاريح بالنقل إلا بعد أن يصدر عدد معين من التصاريح لسيارات أخرى. وانهارت المقاطعة 31.

في 23/11/1938 أصدر قائد لواء الجنوب إعلانًا يقول فيه إنه إذا لم يكف الثوار عن تهديداتهم لجميع وسائط النقل فلن يعطي تصاريح لسيارات النقل. من وراء هذا الإعلان وقف إنذار واضح: إما سفر حر لجميع وسائط النقل بما فيها القطارات وإما إغلاق ميناء يافا لمدة غير محددة 32. في 31/12/1938 قام القائد العسكري في لواء القدس بإلغاء مفعول جميع التصاريح التي صدرت لسيارات الأجرة(التاكسيات) لأنه أطلقت النار من سيارة عمومية على رجال الجيش. صحيفة دافار، 1/1/1939. إزاء الإجراءات الصارمة التي اتخذها الجيش أخذ الكثيرون من العرب بالتوجه إلى المكاتب المختصة للحصول على بطاقات هوية وتصاريح سفر. تقول صحيفة بلستاين بوست تحت عنوان 'العرب يطلبون بطاقات الهوية' إنه لكثرة الطلبات المقدمة من العرب في منطقة القدس تقرر فتح مكتب خاص في سينما ركس لاستخراج بطاقات هوية وتصاريح لزيارة بيت لحم. أما في حيفا فقد فرضت السلطات حظر التجوال في الأحياء الشرقية منها، وبالأمس أقبل المئات للحصول على بطاقات هوية وتصاريح للسفر إلى يافا، وأخذت التكسيات والوسائط الأخرى تسير كالمعتاد 33.

يقول أوحنا يوفال إن منع حمل بطاقات الهوية إنهار تمامًا إزاء ضغط السلطات العسكرية على السائقين والأهالي، ما حدا بالثوار إلى التوجه لاستخراج بطاقات هوية لأنفسهم34.

يبدو أن الإقبال على المكاتب المذكورة  كان ملموسًا فقد بلغ عدد حاملي بطاقات الهوية حتى 7/3/1939 كالتالي: 90.000 من العرب، 76.000 من اليهود، 4.000 من باقي السكان بينهم انجليز ومواطنو دول أجنبية 35.

في يوم الثلاثاء 22/11/1938 أعلن قائد القوات البريطانية في فلسطين عن قراره بفرض منع التجوال في جميع قرى البلاد ابتداء من الساعة السادسة مساء وحتى الساعة الخامسة صباحًا؛ أما ساعات منع التجوال في المدن والبلديات، فأن هذا الأمر يقرره القادة العسكريون في كل منطقة على حدة 36. من الواضح أن فرض استخراج بطاقات الهوية وفرض منع التجوال في القرى كان يهدف إلى الحد من حركة الثوار وتضييق الخناق عليهم، وبالتالي منعهم من الوصول إلى المدن التي أمدتهم بالأموال.

ورد في عدد من الصحف الفلسطينية أن عدد الأسرى العرب في عام 1938 زاد على 5000 شخص، وأفادت صحيفة دافار العبرية إلى أن هذا هو عدد المعتقلين للتحقيق في الأشهر الأخيرة، لكن عدد العرب المنفيين والمسجونين في المعسكرات والسجون لم يزد على 2100. أما الآن فإن عدد المسجونين، وفق قانون الطوارئ، وصل إلى 2045 شخصًا 37.

هوامش:

الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936-1938-الرواية الإسرائيلية الرسمية، ترجمة أحمد خليفة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، بيروت، 1989، ص 151-152؛ حاسكين جيلي، حوادث 1938-الثورة العربية الكبرى-المرحلة الثانية، 6.10.2013- http://www.gilihaskin.com   
ياسين صبحي، الثورة العربية الكبرى في فلسطين، ط2، القاهرة، 1967، ص 67. ثمة من يقول إن البيان صدر عن قيادة الثورة في دمشق في 26 آب 1938، انظر: Swedenburg Ted, memories of  Revolt ,London &Minnesota, 1995, p:32.
زعيتر أكرم، الحركة الوطنية الفلسطينية 1935-1939-يوميات أكرم زعيتر، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1980، ص440.
انظر ما كتبه الباحث كمال نصار على صفحته في الفيسبوك: الكوفية الفلسطينية رمز المقاومة الفلسطينية في 9/5/2014). عن العلاقة بين أبي درة وأهل يافا ونزع الطربوش ولبس الكوفية والعقال انظر: الثورة العربية الكبرى-الرواية الإسرائيلية، ص 165. 
أوحنا يوفال أرنون، سيف من البيت-الصراع الداخلي في الحركة الوطنية الفلسطينية(بالعبرية)، الطبعة 2، منشورات هدار، 1989، ص 282-283.
Palestine Post, September 2,1938        
أوحنا يوفال أرنون، فلاحون في الثورة العربية في فلسطين(بالعبرية)، جامعة تل أبيب، 1980، ص 131.
زعيتر أكرم، مصدر سبق ذكره، ص 442.
جريدة الدفاع 19/9/1938، وانظر: فورات يهوشع، من الاضطرابات إلى الثورة-الحركة الوطنية العربية الفلسطينية 1929-1939،(بالعبرية) إصدار عام عوبيد، تل ابيب، 1978، ص 318.

10.انظر: أوحنا يوفال أرنون، سيف من البيت، الصراع الداخلي في الحركة الوطنية الفلسطينية،(بالعبرية) ص 283

11. انظر منشور عارف عبد الرازق بعنوان إلى الأمة العربية الكبيرة، في الأرشيف الصهيوني المركزي، ملف: S25:4960 

12. فورات يهوشع، مصدر سبق ذكره، نفس الصفحة.

13. الثورة العربية الكبرى-الرواية الإسرائيلية الرسمية، ص 164-165؛ أوحنا يوفال أرنون، سيف من البيت، الصراع الداخلي في الحركة الوطنية الفلسطينية(بالعبرية)، 1989، ص283-284؛ أوحنا يوفال أرنون، فلاحون في الثورة العربية في فلسطين(بالعبرية) ، جامعة تل أبيب، 1982، ص 132.

14. كبها مصطفى وسرحان نمر، سجل القادة والثوار والمتطوعين، دار الهدى، كفر قرع، 2009، ص 116.

15. فارس عوني، الدفاع عن حيفا- في ذاكرة عباس الحاج صالح، حوليات القدس، العدد 11، صيف 2011، ص 45.

16. Swedenburg Ted, Memories of Revolt, p: 36, 216-217, note 60

17. مذكرات المناضل بهجت أبو غربية-في خضم النضال العربي الفلسطيني، ج1، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1993، ص 119.

18. Cohen Hill, Army of Shadows-Palestinian Collaboration with Zionism, London, 2008, p;137, 291 note 74.    

19. Swedenburg Ted, Memories of Revolt, p: 30-36.

20. أوحنا يوفال، فلاحون في الثورة العربية، ص 134.

21. انظر مقالة بعنوان: كالسابق كذا اليوم- مجموعة وثائق بريطانية من أيام الثورة العربية 1936-12939، ترجمة أوري درومي، مجلة معرخوت(بالعبرية)، عدد 315-316، حزيران 1989، ص 42 وثيقة رقم 7 هناك، عن عملية استصدار بطاقات الهوية في القرى انظر: دانين عزرا، وثائق وشخصيات من أرشيف العصابات العربية(بالعبرية)، ط2، أصدار ماغنس، جامعة تل أبيب، 1980، ص 10-11.

22. انظر:The Palestine Post, 13 October,1938 ، جريدة هاتسوفيه(بالعبرية) وجريدة دافار (بالعبرية) بتاريخ 13/10/1938)

23. على الإنترنت صور كثيرة لبطاقات هوية(ليهود) صادرة بفلسطين عام 1938، وانظر المنشور الذي أصدره يوسف سعيد أبو درة بهذا الخصوص في 18/10/1938

24. في 2/12/1938 أصدر المجلس المحلي في مستوطنة هرتسيليا بيانًا ينص على أن ضابط لواء المستوطنات سيحضر في 4/12/1938 إلى مكاتب المجلس لإصدار بطاقات هوية لمن يرغب في ذلك، على الطالب أن يقدم صورتين، وشهادة تعريف، وأن يظهر شخصيًا أمام ضابط اللواء، انظر بيان رقم 44 الصادر عن مستوطنة هرتسيليا بخصوص الحصول على بطاقات هوية، في المكتبة الوطنية الإسرائيلية. 

25.  أوحنا يوفال أرنون، فلاحون في الثورة العربية، ص 135.

26. نسخة من النداء المذكور موجودة في الأرشيف الصهيوني المركزي، ملف: S25/2269، وقد أوردناها في النص.

27. في 2 أيلول عام 1938 حكمت المحكمة العسكرية بحيفا على السوري عبد الرحيم يحيى عرابي من دمشق بالإعدام لاشتراكه في عمليات ثوار يوسف سعيد أبو درة  في قرية رمانة، انظر: صحيفة هاتسوفيه(بالعبرية) 4/9/1938.

28. الثورة العربية الكبرى-الرواية الإسرائيلية، ص 167-168.

29. صحيفة بلستاين بوست(بالإنكليزية)، وصحيفة دافار(بالعبرية) بتاريخ 31/10/1938.

30. صحيفة هاتسوفيه(بالعبرية) 2 نوفمبر 1938.

31. الثورة العربية الكبرى-الرواية الإسرائيلية، ص 169-170.

32. صحيفة دافار 9/12/1938، وقارن: أوحنا يوفال ، الفلاحون في الثورة العربية في فلسطين(بالعبرية)، ص 135.

33. صحيفة بلستاين بوست 18/12/1938.

34. .(أوحنا يوفال، مصدر سبق ذكره، ص 135.

35. صحيفة هاتسوفيه(بالعبرية) 8/3/1939.

36. صحيفة دافار (بالعبرية) 23/11/1938.

37. صحيفة دافار 4/1/1939.

التعليقات