12/11/2016 - 10:42

عالم ترامب

أزمة النظام العالمي تعود بنا إلى مراحل ظلامية في التاريخ الحديث، تكون فيها قيمة الحرية تعني الحرية بمعاداة الآخر، وتكون فيها قيمة الأخوة تعني الأخوة بين اليمين الشعبوي في ألمانيا وأميركا.

عالم ترامب

هي أزمة نظام عالمي ينهار اقتصاديا وقيميا. كانت البداية بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأخيرا انتخاب دونالد ترامب رئيسا لأقوى دولة في العالم. تنهار أمامنا قيم وأفكار 'غربية' روج لها الرجل الأبيض بالعقود الثلاثة الأخيرة، مثل 'الحدود المفتوحة' و'المنافسة' و'العولمة' و'القرية الصغيرة'. لكن يبدو أن الرجل الأبيض ذاته سئم من هذه القيم، ومن 'العولمة' بعدما استنفد خيراتنا. صارت العولمة مكلفة له فصوت لصالح الانعزال، ويريد العودة إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى، إلى عالم بلا مهاجرين في أوروبا وأميركا (غير البيض)، بلا قيم تضامن وأخوة بين الشعوب، بلا حدود مفتوحة. أميركا قررت إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، إلى زمن لم يسمح بوجود لمصطلحات مثل 'حقوق الأقليات' و'حقوق المهاجرين' و'القانون الدولي'. حاولت أميركا تصدير أزماتها إلى بلادنا، العراق وأفغانستان وغيرها، لكن ذلك فاقم أزمتها أكثر.

حاول الأبيض تغيير النظام والوضع القائم 'مجازيا' بانتخابه أسود لرئاسة العالم، أسود من خارج مؤسسة سلالات الحكم الأميركية، لكنه لم يحقق المرجو منه، فقرر الانقلاب عليه بانتخاب أبيض عنصري، أهوج، لكنه 'أبيض حقيقي' يتصرف كقروي من وسط أميركا، من خارج المؤسسة.

***  

تعكس نتائج الانتخابات الأميركية التي توجت ترامب رئيسا، أكثر ما تعكس الأزمة الاقتصادية الأميركية وتحديدا للطبقات الوسطى – الدنيا والعاملة. هي أزمة الرجل الأبيض. فدولة المهاجرين التي استقطبت عمالا من كل العالم، وانتشرت منتوجاتها في كل العالم، من منتوجات غذائية وحتى الصناعات الثقيلة مثل السيارات والمعدات العسكرية، تحولت على مر العقود إلى دولة 'ستارت أب' و'نانو تكنولوجي' و'بيو - إنفورمتيكا'، وإلى الصناعات 'المتقدمة' و'الخفيفة' مثل 'فيسبوك' و'تويتر'، فتحولت، مع هذا التحول الكبير، قطاعات كبيرة، من البيض تحديدا، في الولايات الوسطى إلى البطالة والإدمان والاكتئاب.

لم يتغير النظام السياسي الأميركي في العقود الأخيرة إلى الأسوأ، لكن النظام الاقتصادي تدهور طيلة عقود دون أن يتمكن النظام السياسي من مواجهة الأزمة الاقتصادية المتجذرة التي ضربت أيضا الطبقات الوسطى في العقود الأربعة الأخيرة، وليست أزمة انهيار أسعار العقارات إلا القشرة.

بمقدورنا أن نسميها 'أزمة الرأسمالية البيضاء'، لكنها في كل الأحوال أزمات اقتصادية متتالية تسببت بصعود قوى جديدة وتراجع قوى تقليدية، بيضاء من الطبقة المتوسطة – الدنيا.

سارع البعض إلى تقديم تفسيرات طبقية للسلوك الانتخابي الأميركي الأبيض وفوز ترامب، لكن لا بأس من الإشارة إلى أن أخطر نظام غربي في القرن العشرين، النظام النازي، صعد إلى الحكم بوسائل ديمقراطية وبخطاب 'طبقي – قومي' (اشتراكي – قومي). هذا لا يعني أن أميركا ذاهبة إلى حالة ألمانيا النازية، ولكن ما من شك أن الرئيس الأميركي الجديد يحمل أفكارا لا تقل عنصرية عن أفكار النازيين، لجهة العداء للديمقراطية والأقليات.

كان تصويت البيض لترامب يحمل أبعادا عرقية. بنظرهم، ليست هذه عنصرية بالضرورة، لأن 'أميركا البيضاء'، ذات الاقتصاد القوي، المنطوية على نفسها هي أميركا الحقيقية. بنظرهم، كذلك، ما حاول باراك أوباما الأسود فعله في السنوات الأخيرة من تطبيق مشروع التأمين الصحي، لم يكن مقعنا لهم، أي للأميركيين 'التقليديين'، الذين يريدون 'استعادة أميركا' وليس 'أميركا اشتراكية – ديمقراطية' أوروبية كما أراد أوباما. يريدون أميركا البيضاء التقليدية.

هذه 'الطبقات المسحوقة' البيضاء كانت تمثل القواعد الانتخابية للحزب الديمقراطي طيلة عقود، لكنها هذه المرة انقلبت عليه بعدما صار حليفا لرجال أعمال وأثرياء تزداد ثرواتهم مع كل أزمة اقتصادية جديدة في أميركا.  ثلاث ولايات 'كادحة' كانت موالية للديمقراطيين بشكل كامل طيلة عقود قررت هذه المرة منح ثقتها لترامب، وهي ويسكونسين، مشيغين، بنسلفينا.

***

ويسكونسين سيئة الصيت والسمعة في بلداتنا العربية. فقبل عقد تقريبا استورد بنيامين نتنياهو، وزير المالية حينها، 'خطة ويسكونسين' لتشغيل وتأهيل المعطلين عن العمل، والتي كانت باختصار وببساطة عملية خصخصة للضمان الاجتماعي الذي توفره الدولة للمعطلين عن العمل، وكانت شديدة الصرامة والجشع، فمن لم 'يتأهل'، (رجل في الخمسين اضطر إلى تعلم استخدام الحاسوب، مثلًا)، فإن من حق الدولة سحب مخصصات الضمان الاجتماعي منه. فلنا أن نتخيل مدى حقد الأميركيين المسحوقين، من البيض وغير البيض، على محاولات النظام 'إعادة تأهيلهم' وقد تجاوزوا العقد الخامس.

***

لماذا قرر البيض التمرد الآن بالذات؟ يبدو أن خطاب ترامب العنصري والمعادي للأقليات دب الأمل لدى 'المسحوقين البيض' في تغيير النظام. خطاب ترامب ضد النظام وضد الأقليات شكل فرصة تاريخية لهذه الشرائح لإفراغ غضبها. ليس الصراع طبقيا، فلو كان ترامب أسود البشرة أو مسلمًا أو يهوديًا حتى، لن يستطيع تحقيق هذه الشعبية.

لكن للمفارقة أن نسب عالية من 'أبناء الأقليات' صوتوا لترامب وهو الذي يناصبهم الكراهبة. يبدو أنه العمى الديني هو الذي دفعهم لذلك، إذ تماهوا مع قيمهم المحافظة دينيا. بنظرهم لا يهم إنه عنصري ولكن محافظ دينيا.

كما أن قسما كبيرا من الكوبيين الأميركيين صوتوا لصالح ترامب، وذلك على ما يبدو انتقاما من أوباما الذي انفتح على بلادهم الأصلية وأسقط الحصار التاريخي على شعبهم الكوبي.

***

تظهر نسب التصويت أن المرشحين، ترامب وكلينتون، لم يكونا أفضل المرشحين للرئاسة بنظر الأميركيين بحسب نسب التصويت. فرغم الحملات الانتخابية الشرسة لم يتجاوز عدد المصوتين لترامب 58.4 مليون صوت وكلينتون 58.6 مليونًا. أما في الانتخابات السابقة، في العام 2012، فقد حصل المرشح الجمهوري رومني على 61.5 مليون صوت، في حين حصل الديمقراطي أوباما على 66 مليونًا. وفي انتخابات العام 2008، حصل أوباما على 69 مليون صوت، فيما حصل منافسه الجمهوري ماكين على 60 مليونًا من مجموع المصوتين.

يعزو محللون ارتفاع نسب التصويت للمرشحين في الانتخابات السابقتين إلى أن الأقليات وتحديدا السود تجندت للتصويت لصالح أوباما وكذلك مؤسسة الحزب الديمقراطي، وأن مؤسسة الحزب الجمهوري تجندت هي الأخرى لماكين ورومني. هذه مقاربة واقعية جدا ينضاف إليها أن المرشحة كلينتون بدت كمن فرضت على الحزب الديمقراطي لعدم توفر الخير الآخر، لكنها بنظر عموم الأميركيين البيض تمثل النخب النظامية التي تسببت بإفقارهم. وفي الحزب الجمهوري ظهر أن ترامب خطف لهم الحزب.

***

خيانة النخب: بدت النخب الأميركية مثل أي نخب في العالم بأنها منعزلة عن شرائح واسعة في المجتمع، وتحديدا الشرائح المستضعفة. هذه النخب سواء كانت وسائل إعلام أو مراكز استطلاعات رأي أو جامعات مرموقة، تعيش على وقع آخر مما تعيشه شرائح واسعة من الشعب.

هذه النخب، ليبرالية أو يسارية أو ديمقراطية أو جمهورية يمينية، تحكمها شبكات مصالح سياسية ومالية تدفعها إلى تجميل الواقع والاستخفاف بالمستضعفين. هذه نخب متكبرة ومتعجرفة. هذه نخب تخون دورها تجاه مجتمعها. نخب تقدس القيم الإنسانية لكنها تحتقر الإنسان. نخب مراكز القوى هي سبب في إعادة إنتاج الأزمات لأنها تعتاش عليها ومنها. نخب تدعي التقدمية لكنها تقدس صنمية المؤسسة. نخب تدعم الأقليات طالما كانت بعيدة عنها، بعيدة عن معابدها.

نخب تقدس الحقوق 'الأساسية' مثل حرية التعبير والتصويت، لكنها تتجاهل الحقوق الطبيعية، مثل حق الإنسان بالعيش الكريم في بلده، ليس الأميركي فقط، بل العراقي والسوري والأفغاني.

***

لن يكون انعزال أميركا عن العالم هينًا كما تصور الناخب الأبيض، لكنها تبدو السمة الأساسية لأنماط التصويت في الغرب، سواءً في بريطانيا أو حتى اليونان. جاء انتخاب الحزب اليساري الراديكالي في اليونان، سيرزا، بعد أن قرر اليونانيون بأن البقاء في الاتحاد الأوروبي لم يعد يجد بل أصبح مكلفا، وقرروا 'الانعزال' والعودة إلى اليونان المستقلة عن أوروبا. نعرف أن آمال اليونانيين خابت، لأن ليس الخروج من النظام القائم أمرا سهلا على الإطلاق.

لكن أزمة النظام العالمي تعود بنا إلى مراحل ظلامية في التاريخ الحديث، تكون فيها قيمة الحرية تعني الحرية بمعاداة الآخر، وتكون فيها قيمة الأخوة تعني الأخوة بين اليمين الشعبوي في ألمانيا وأميركا.

لن تنتهي الأزمة الاقتصادية العالمية قريبا، ولن يتوقف العالم عن التوجه إلى مزيد من التقوقع والانعزال.

***

الحرب هي السلام

الحرية هي العبودية

الجهل هو القوة

(جورج أرويل، ١٩٨٤)

التعليقات