27/11/2016 - 15:52

كاسترو... مقاربات عربية

رحل فيدل كاسترو، الثائر الكوبي الذي ألهم الحالمين بالثورة في كل بقاع الأرض. رحل وطوى معه صفحة تاريخية هامة وناصعة في العالم الثالث، صفحة كان فيها هذا القائد الكوبي أقرب إلى هيئة ممثل سينمائي بلحيته الخفيفة وسيجاره وحركاته السريعة

كاسترو... مقاربات عربية

رحل فيدل كاسترو، الثائر الكوبي الذي ألهم الحالمين بالثورة في كل بقاع الأرض. رحل وطوى معه صفحة تاريخية هامة وناصعة في العالم الثالث، صفحة كان فيها هذا القائد الكوبي أقرب إلى هيئة ممثل سينمائي بلحيته الخفيفة وسيجاره وحركاته السريعة والمتوترة وشعبويته. صفحة كان فيها إلى جانب شخصيات كبيرة من عبد الناصر إلى تيتو ونهرو. صفحة تمرد وثورة العالم الثالث ضد استعمار خارجي أبيض وإمبريالية زاحفة في كل مكان. كانت وحدة المستضعفين.

لست هنا في مقام تعداد مناقب كاسترو الثورية والإنسانية، لكنه خاض حرباً صادقة وشجاعة ضد قوة خارجية حاولت العبث في أميركا اللاتينية من خلال التحالف مع الإقطاع والبرجوازية الفاسدة. شن كاسترو ابن الاقطاعي حرباً وثورة ضد تحالف الإمبريالية مع البرجوازية المحلية الفاسدة. جنّد العمال والمسحوقين أبناء الجزيرة الصغيرة. أسقط نظام حكم كان على بعد عشرات الأميال من سواحل القوة الإمبريالية الأعتى. هزمها عدة مرات، في خليج الخنازير وفي الحرب النفسية على شعبه.

لكن هذه التجربة الممتدة على طول خمسة عقود لا بدّ من نقدها أيضًا، ونحن نرى أن أحلام ذاك الجيل تهاوت الواحد تلو الآخر. قيم التحرر والاشتراكية والعدالة وحق تقرير المصير تهاوت كذلك. يحق لكاسترو أن يتفاخر بأنه حافظ على استقلال بلاده رغم الحصار الجائر الأطول في العصر الحديث، ويحسب له أيضاً حماية أراضي وطنه. كان كاسترو قبل كل شيء وطنياً كوبياً، قبل أن يكون ماركسياً – لينينياً أو أممياً. كان كوبياً وعلى هذا الأساس تصرف.

هذا مدخل لإجراء مقاربة بين كاسترو وحالتنا العربية، لكن بداية لا بد من توضيح. ليست البرجوازية طبقة اجتماعية اقتصادية صنيعة الرأسمالية، بل قد تكون برجوازية شيوعية أو يسارية في نظام مستبد. الواقع أقوى من كل التحليلات التاريخية الحتمية. ثار كاسترو ورفاقه على برجوازية فاسدة وعميلة للأميركان، لكنه خلّف برجوازية فاسدة أيضاً. برجوازية الحزب الحاكم، إن كان شيوعياً أو رأسمالياً. لكن هذه البرجوازية أقرب إلى الإقطاع منها إلى الطبقات الوسطى، وهي بالأساس تعتاش على ريع الدولة. مثلها مثل الطبقة البرجوازية في الرأسمالية، البرجوازية العالمثالثة الاشتراكية أو الشيوعية هي برجوازية طفيلية تعتاش على حساب ثروات الشعب، لكن تحت ذريعة الحفاظ على قيم الدولة الإنسانية السامية من التهديدات الخارجية.

عربياً، أنهى عبد الناصر على الملكية والإقطاعية و'البرجوازية غير الوطنية'، وحقق استقلال بلاده وأمم مشاريعها القومية مثل قناة السويس، لكن مشروعه الاشتراكي القومي انتهى إلى برجوازية فاسدة مستبدة هي مزيج من العسكر ومن أصحاب المصالح مثّلها أنور السادات. خلافاً لكاسترو، لم يعادِ عبد الناصر البرجوزاية عداءً مطلقاً وأيديولوجياً، بل حول الحزب الحاكم ومن حوله إلى برجوازية جديدة تسيطر على المجتمع. هذه البرجوزاية لم تكن تطوراً اقتصادياً – اجتماعياً طبيعياً، بل كانت عملية ترييف مسرعة لكل شيء، الجيش ومؤسسات الدولة والمدينة. لقد نشأت برجوازية مشوهة جشعة تخلت عن المشروع القومي في أول محطة. مات عبد الناصر فمات مشروعه الكبير، لكن بقينا مع برجوازية فاسدة غير وطنية بدلاً من الارستقراطية والبرجوازية في عصر الملك.

في سورية حصل شيء شبيه، لم تسقط الشعارات الاشتراكية البعثية البرجوازية الفاسدة ولم تستبدل ببرجوازية وطنية، بل خلق حافظ الأسد برجوازية جديدة بعد ترييف المدينة وتطييفها، وأمسكها زمام الدولة. ولا داعي للاستمرار في شرح مصير هذه البرجوازية والدولة السورية انهارت أمام ناظرنا.

في الحالتين، السورية والمصرية، كما في العراق وليبيا أيضاً، شهدنا حركات قومية عسكرية تتحدى الاستعمار الخارجي، وأعادت هندسة المجتمع تحت شعارات كبرى مثل الاشتراكية، لكنها سرعان ما تحولت إلى أنظمة عسكرية فاسدة تنقل فيها السلطة بشكل وراثي، وصارت استعماراً داخلياً، تصادر الأرض الخاصة من المواطنين لصالح الدولة، لكن الدولة تبيعها بأبخس الأسعار إلى رجال أعمال متحالفين مع الحاكم. هذه ممارسات استعمارية داخلية لا تختلف عن الاستعمار الخارجي ولا عن ممارسات إسرائيل التي تصادر أراضي الفلسطينيين وتمنحها لمستثمرين يهود. هذا ما حصل في سورية في زمن الأسد الابن، وهذا ما حصل في زمن مبارك.

هذا الاستعمار الداخلي الذي 'تحدى' الاستعمار الخارجي طيلة عقود، ودعا الشعب إلى تحمل الأوضاع الاقتصادية الصعبة والاستبداد السياسي بذريعة ممانعة الاستعمار الخارجي، سرعان ما تحالف مع الاستعمار الخارجي، الأميركي تحديداً، ليس بهدف فك الحصار عن الشعب، وإنما لنقل السلطة من الأب للابن بسلاسة.

في الهند، يبدو الأمر مختلفاً كثيراً، ويعود ذلك إلى عامل هام جدًا وهو الديمقراطية. لم تحصل في الهند انقلابات عسكرية تحت راية الاشتراكية والتقدمية، بل مرت مراحل بناء المجتمع محطاتها الطبيعية. اجتازت الهند تحديات كبيرة، قومية وإثنية داخلية، لكنها تمكنت من استيعاب هزاتها، وذلك بسبب تمكنها من بناء نظامي ديمقراطي، لم يسقط البرجوازيات ولا الاقطاعيات. لا يوجد في الهند استعمار داخليّ، فيها نظام ديمقراطي تتبادل الأحزاب قيادته.

في كوبا، تحولت الثورة الاشتراكية ضد البرجوازية الفاسدة إلى صناعة برجوازية جديدة لا تقل فساداً، ولم تخلق برجوازية وطنية وفق الأعراف الماركسية – اللنينية، وأكبر دليل على ذلك هو مسارعة راؤول كاسترو إلى الانفتاح على الولايات المتحدة الأميركية فور تسلمه الحكم، وذلك بمساندة الطبقة المنتفعة المحيطة بنظام الحكم.

ثورة كوبا ألهمت ثوار العالم وكانت سنداً للعرب والفلسطينيين تحديداً، لكنها داخلياً تحولت إلى استعمار داخلي التقى مؤخراً مع استعمار خارجي يعاني هو الآخر أزمة جدية عوارضها تدعى دونالد ترامب.

كنا نتمنى أن تؤدي أزمة الاستعمار الخارجي إلى تخليه عن تحالفاته مع الاستعمار الداخلي، في مصر مثلاً، لكننا على ما يبدو فإننا نعيش في زمن صار التمييز فيه أصعب بين استعمار خارجي وداخلي، وجيوشنا صناعة أميركية. وإذا كان الاستعمار الخارجي الأميركي في أزمة، فإن العالم لا يحتمل الفراغ، فيولد الاستعمار الخارجي الجديد، روسيا.

أخيراً، يُشهد لكاسترو إنه كان زعيماً وطنياً مخلصاً، وخرج قادة مخلصين في أميركا اللاتينية، خلافاً 'لقادتنا العرب' الذين يذبحون شعوبهم وما زالوا 'يمانعون'. ولا فضل لاستعمار داخلي على استعمار خارجي.

اقرأ/ي أيضًا | مملكة نتنياهو

التعليقات