10/01/2017 - 16:38

مُدن طائفيّة

بيروت كتمثّلٍ حداثيٍ للذات اللبنانيّة ومشتركاتها العربيّة هُوياتيًا، والتي وصل بها الأمر إلى حرب أهليّة، قدمت نموذجيِّن مدينييّن للهويّة اللبنانيّة: بيروت الغربيّة وبيروت الشرقيّة

مُدن طائفيّة

في رواية 'عالم بلا خرائط' (1982)  للراحليّن جبرا إبراهيم جبرا وعبدالرحمن منيف يتحدث السارد (علاء) عن مدينته عموريّة ويقول: 'عموريّة ليست المسؤولة. الناس في عموريّة هم المسؤولون. قد تكون عموريّة بامتدادتها السرطانيّة واتساعها غير المنطقي، ثم تلك الطريقة الغبيّة في البناء، المستعارة من البداوة بشكلها دون أن تكون ممثلة لروح البداوة، والتي تأخذ شكل البُقع أو البثور الجلديّة في سطوح وسلاسل غير منتظمة، قد تكون عموريّة بهذا الشكل سببًا في خلق الفجوة بين الناس وما حولهم من طبيعة وأشياء. ولكن هذه المدينة لم تختر شكلها وأسلوب الحياة الذي يلائمها، كما لم تختر هذا الامتداد والاتساع. البشر هم الذين اختاروا وقرروا. ونتيجة هذه الاختيارات الفظة اكتسبت عموريّة هذا التجهم الذي يلمسه الإنسان، بل يُصدم به في كل لحظة. الناس الأوائل في عموريّة، والذين تعاقبوا جيلًا بعد جيل، وتركوا آثارهم في الأشياء المتواضعة التي خلّفوها كانوا أكثر عقلًا ورأفةً بأنفسهم وبما حولهم. لكن السنوات التي تلت الحرب الأخيرة غيَّرت حياة الناس وأفكارهم وسلوكهم، وتبعًا لهذا تغيَّر كل شيء'.

لعل طبوغرافيا مُدننا العربيّة تعري ما في ذواتنا من فصامات وتصنيفات طبقيّة وسياسيّة أيديولوجيّة وتاريخيّة وسلطويّة وجندريّة وحتى طائفيّة، فبيروت كتمثّلٍ حداثيٍ للذات اللبنانيّة ومشتركاتها العربيّة هُوياتيًا، والتي وصل بها الأمر إلى حرب أهليّة، قدمت نموذجيِّن مدينييّن للهويّة اللبنانيّة: بيروت الغربيّة وبيروت الشرقيّة، وهذا الفصل وصل إلى بنية اللغة تصنيفيًا، حين الانتقال من طرف بيروتيٍّ إلى الآخر، فاختلاف الصوت والنفس في كلمة 'بَنَدُورة' (بفتحةٍ على الباء والنون، وتكثيفٍ للضم على الواو، وتخفيفٍ للتاء المربوطة في نهاية الكلمة) وكلمة 'بَنْدورة' (بفتحةٍ على الباء، وتسكينٍ على النون وإغلاقٍ مخفف على التاء المربوطة)، كان كافيًا للتعامل مع أي مارٍ/ةٍ على حواجز القوات اللبنانيّة والفلسطينيّة والسوريّة المنتشرة في بيروت، وتصنيف هُويّته/ا، وبالتالي منحه/ا الحياة أو منعها عنه/ا.

لم يكتفِّ هذا السرطان ببيروت، بل وصل إلى الكثير من مدننا العربيّة بكثافات وديناميّاتٍ وأنماط خطابيّة مختلفة، فالرياض والقاهرة ودبي والدوحة وغيرها من المدن العربيّة خضعت لتلك الحدود السرديّة في الطوبوغرافيا المدينيّة العربيّة. ففي الأردن مثلًا، تطورت 'الفحيص' لتصبح مكانًا تصنيفيًا وتعبيريًا يتعامل مع اغتيال مواطن أردني (ناهض حتّر) على هويته وليس على جرائميّة ما حدث معه، فكان ما يشبه إعلان الحداد فيها، وإغلاقها تعبيرًا عن الغضب، في المقابل كانت عمّان-العاصمة غير آبهةٍ بالحدث تقريبًا في فضائها العام؛ وهو ما يشي بحجم تغلغل التصنيف الأيديولوجي والطائفي على حساب الجماعة الوطنيّة والعضويّة وخطابها الجامع. وبالتالي فمدننا العربيّة تعتبر نماذج سرديّة مرآويّة للذات العربيّة في زمانها ومكانها ونظرتها للآخر، ولعل أبرز الأمثلة الحاليّة هي 'حلب' المنكوبة ليس فقط بنظام دكتاتوريٍ وأعوانه الإقليميين والطائفيين والشبيحة (من حولنا وفينا)، ولكن بفصام عميق في ذاتها حوّلها إلى 'حلب شرقيّة' و'غربيّة'، في نكبة واحدة، نُشير هنا إلى أن أول ما صنعته قوات 'المعارضة' السوريّة في 'حلب الشرقيّة ' أن قطعت الماء عن حلب الغربيّة.

في القاهرة والتي تعاني من هكذا نماذج مركبة للتصنيف الطبوغرافيّ، ما بين الطبقي والسيّاسي والأيديولوجي والطائفي وغيره، يكاد يصل من الأحياء إلى الإسكانات الشبابيّة  وصولًا إلى البيوت نفسها (كحادثة القتل والتمثيل بالأجساد لبعض الأفراد من الطائفة الشيعة في قرية 'أبو مسلم' عام 2013)، كان التفجير الأخير في الكنيسة القبطيّة البطرسيّة، ومن يتناول طوبوغرافيا السرد المديني للقاهرة على امتدادها التاريخي، يمكنه أن ينظر إليها لا باعتبارها نموذجًا متشابكًا من تعاضد الهويات الدينيّة فقط، لكنها نموذج للخطاب العضوي للجماعة الوطنيّة، وهو ما استفادت منه السلطة في مصر عبر تصدير خطاب طائفي مديني في أحداثٍ ما بعينها مكثفة 'وصفيًّا' كأحداث ما يُعرف بـ'وزارة الدفاع' و'رابعة' و'جمعة قندهار' و'ماسبيرو'، وغيرها. في هذه النماذج تحديدًا استخدمت السلطة آلية 'توصيف' معيّنة في خطابها، ما أتاح لها 'تحليلًا' غير محايد ولا موضوعي في إدراك 'الحدث'، وبالتالي تصدير إدراك طائفي سلطوي ما عنه، يقوم على 'فصل الزمان والمكان' (قرية 'أبو مسلم'، 'وزارة الدفاع' و'رابعة' و'ميدان النهضة'، وقبلهم/ن ميدان التحرير) عن زمان ومكان الجماعة الوطنية العضويّة، وبالتالي تبرير فصل ما حدث عن سيرورة ما يحدث لتلك الجماعة من قمع وعنف عن 'الجماعة الوطنيّة' ككل، وهي أيضًا إشكالية وقع فيها بعض المثقفين من فصل مصاب الطائفة عن مصاب الجماعة العضويّة، وما في ذلك من استبطان مسيء لنفس ديناميّات التصنيف التي تستخدمها السلطة.

أن نبدأ بالقول إن 'نصرة' الضحايا هو أمر اختياري، فهذا قول يعوزه هامش أخلاقي، لما يعانيه من مشكلتيّن: أولًا تحويل 'نصرة' الضحايا إلى خيار يغلب عليه التسليع، وبالتالي إرادة المشتري/المستهلك في السلعة من عدمها (وهذا نفس استهلاكي ليبرالي مشين)، وثانيًا إشكاليّة تصنيف وتعريف 'الضحايا'، وهو ما ينبني عليه خيار نصرتهم/ن من عدمه.  استهداف الكنيسة القبطيّة البطرسيّة في مصر، لا يُعد على مستوى 'التوصيف' استهدافًا لجماعة وحدها داخل الجماعة الوطنيّة، لأن هذا بالضبط ما فعله الانتحاري الذي فجر نفسه في تلك الكنيسة عندما فصل الأقباط عن السرد العضوي للجماعة الوطنية، وزمانها ومكانها، وكما فعل من فصل أفراد الطائفة الشيعية في قرية 'أبو مسلم' عن زمانهم ومكانهم وسيرورة السرد، وكأن ضحايا التفجير حصرًا الأقباط (أو من يستحقون النصرة والتعاطف)، أو كمن يقول أن ضحايا الاغتصاب والتحرش هن فقط النساء.

الجماعة، أكانت تُعرَّف بالوطن أو بالدين، ليست مسؤولة عن فعل الفرد، وإن كان 'الفرد' لا يأتي من عدم. المسلمون ليسوا مسؤولين تماماً عن أفعال الإرهاب باسم دينهم، لكن هذا لا يعني أن دينهم هو «المستهدف الأول» بإرهاب التكفيريين.  كما لا يجب أن يعني ذلك أيضًا أن 'التكفيريين' كنماذج خطابيّة لا يستهدفون المسلمين والجماعة العضوية في نفس الوقت، لأن آلية التصنيف السابقة تلك، تستبطن في داخلها نفس الديناميات الوصفية والتحليلية التي يصدر منها التكفيريون. بحسب هذا المنطق الطائفيّ/التصنيفيّ الهوى، يصبح ضحايا التكفيريين في قرية 'أبو مسلم'، 'ليسوا ضحايا'، فتاريخيًا مثلًا: كان الفيزيائي المسلم الحسن ابن الهيثم ضحية التكفير في زمانه ومكانه، إذ قال إن العالم قديم وأزليّ، وأما الكندي (مؤسس مدرسة الوراقين) فقد ضرب بالسوط على تفسيراته لآيات من القرآن، كما ابن سينا وابن رشد المتهمين بالإلحاد ، وصولًا إلى نماذج معاصرة مثل نجيب محفوظ ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، وكل هؤلاء معًا كانت لهم أدوارهم في 'زمان ومكان' الحضارة العربيّة والإسلاميّة بما أثر على حياة كامل الأقليّات والطوائف والأغلبيات وغيرها.

لعلّ في استثارة هذه المقارانات خطرًا كبيرًا، لأنها تكاد تقارب آلية حصر 'التضامن والنصرة' فقط  للأقباط والأقليّات بشكل انتقائي ومنفصل، فهي تكاد تنبني على أساس عنيف وهو تصنيف الضحايا واستحواذ المعاناة وتسليع التضامن، فتسكيت الضحيّة القبطية وإنطاقها/استنطاقها حصرًا لا يكون تثبيتًا للهواجس إلا إذا انطلق هذا الاستنطاق من فصل الأقليات والطوائف عن زمانها ومكانها الجامع، أي موضعة زمان ومكان لها منفصل عن زمان ومكان الجماعة العضوية، رأسيًا لأعلى أو/و لأسفل، وهو بالضبط ما تفعله الأنظمة لغسل قمعها أقلياتيًّا.

 ولعلّ أعلى نماذج العنف في هذا الخطاب هو الذي يتمنّن على الجماعة الوطنيّة بحق توزيع –سلعة- التضامن والنصرة وتدويرها واحتكارها.  فإن كان تسكيت الضحية في الانفجار لا ينقل فحسب رغبةً مرتبكة بالتضامن أو تشارك المصاب، وإنما هو يأتي من عدم رغبةٍ (واعية أو لاواعية) بسماع صوت الضحية،  فإنّ هذا القول يناقض نفسه وينقلب على ذاته (بوعي ولا وعي معًا)، إذ هو ذاته يُسكت الضحايا الآخرين لنفس العنف الذي يقع هو ذاته ضحيةً له، ليس هذا فحسب إنما يتلبس دورًا تبشيريًا (مهديًا) بشكلٍ انتقائي عندما يحصر وجود 'المسيح' في الكنيسة وبين أتباعه فقط، وليس في زماننا ومكاننا وسرديّتنا ككل، وهذا خطابٌ طائفيٌ في إدراكه للزمان والمكان واستحواذ حق السرد. فالصوت 'الوطني الجامع' هو متعدد وعميق، ولكن أصحاب هذه النظرة يريدون ضحيةً واحدة فقط من كل الضحايا على تعددهم، ويُخرسون كما الأنظمة والقلق العام، الفروقات العميقة بين الضحايا، لصالح ضحيّة واحدة، هم لهم حصرًا حق منحها التسمية 'ضحية' وتوزيع النصرة والتضامن عليها/لها، وليست المعاناة والقمع.

القول بأن الضحيّة هي الأولى بسرد معاناتها، لا يعني أن الضحيّة هي وحدها الضحيّة.

التعليقات