04/03/2017 - 14:30

المشاريع الكبرى ليست مجالا للعبث

المشروع الكبير، مشروع التحرر الفلسطيني يحتاج إلى قدر عال من نكران الذات، وإلى قدر استثنائي من التعاون الجماعي. لا مكان للعبث، وما عاد شعبنا يحتمل هذا النوع من العبث أو غيره من أنواع العبث الأخرى وفي أماكن أخرى. لنعطي أملاً لمن بادر إلى تج

المشاريع الكبرى ليست مجالا للعبث

* عضو كنيست عربي موجود في موقعه منذ حوالي ربع قرن، والذي ما يزال يؤيد وهم الدولتين حسب ما جاء في مقابلة معه، مثل دونالد ترامب الذي يؤيد كلا الحلين، 'كما يحب طرفا الصراع'، فهل يعقل أن يجري إقحام النزوات الشخصية في مشروع وطني كبير يحتاج إلى جهد جماعي.

* يجب أن نفرق بين من يتعامل بجدية مع خيار الدولة الواحدة، والذي يرفض الانطلاق من أرضية الوقائع الاستعمارية التي فرضتها إسرائيل في الضفة الغربية والقدس، حتى لو كانت هذه الوقائع محفزا، وبين من ينطلق من أسس العدالة والقيم التحررية الوطنية والديمقراطية.

* هذا المشروع الكبير، مشروع التحرر الفلسطيني يحتاج إلى قدر عال من نكران الذات، وإلى قدر استثنائي من التعاون الجماعي. لا مكان للعبث، وما عاد شعبنا يحتمل هذا النوع من العبث أو غيره من أنواع العبث الأخرى وفي أماكن أخرى. لنعطي أملاً لمن بادر إلى تجديد هذه المعركة، لنمنح الأمل للأجيال الجديدة، لأبنائنا وبناتنا. 

أنا مع الدولة الواحدة شرط أن أكون برئاسة حكومتها؛ 'لماذا أنت وليس أيمن عودة، وهو رئيس القائمة المشتركة'، تسأله الصحافية الإسرائيلية، ويجيب: لأنني الأكثر شعبية!

هو يبني هذه الفرضية ليس بناءً على المؤسسات الحزبية أو غير الحزبية التي لم يبنها أو لم يهتم ببنائها، ولا على أساس انخراط يومي في عملية تنظيم المجتمع وتصدر المظاهرات الصدامية، بل على أساس استطلاع رأي أعدته له مؤسسة لقياس الرأي المبني على أساس الأداء الإعلامي لا غير. هذا ما جاء على لسان عضو كنيست عربي موجود في موقعه منذ حوالي ربع قرن، والذي ما يزال يؤيد وهم الدولتين حسب ما جاء في المقابلة، أي هو مثل دونالد ترامب الذي يؤيد كلا الحلين، 'كما يحب طرفا الصراع'، فهل يعقل أن يجري إقحام النزوات الشخصية في مشروع وطني كبير يحتاج إلى جهد جماعي غير مسبوق، وإلى تضحيات كبيرة، أي إلى أكبر قدر من نكران الذات؟! 

في حادثة سابقة، وقبل عامين بالتقريب، أراد أمين عام حزب سابق، لحزب اختفى من البرلمان مؤخرا بسبب إصرار رئيسه أيضا على إتمام ربع قرن في عضوية الكنيست، أن يزف لي خبرا في بداية اجتماع للجنة المتابعة العليا في مقرها في الناصرة، بأن حزبه' أخذ قرارا أمس بتأييد الدولة الواحدة'، مع أن هذا الحزب تآكل بصورة كبيرة، ولم يبن مؤسسة واحدة، أو يترك أي أطروحة سياسية أو فكرية جدية. قلت له: 'تمام' وسألته: هذا يعني إنكم كنتم تناقشون الأمر داخليًا منذ فترة طويلة؟ أجاب: لا. رئيس الحزب طرح الأمر قبل أسبوع على المكتب السياسي وأقر خلال ساعة. قلت له: 'يا سلام هكذا بجرة قلم'. ناولته كتابي عن الدولة الواحدة المعنون بـ'مأزق التسوية وآفاق الدولة الواحدة.  دور فلسطينيي ٤٨ في المشروع الوطني الفلسطيني'، الذي صدر عام ٢٠٠٩. وقلت له هناك كتابات وكتب كثيرة وغنية وهامة، كتبها مجددًا أكاديميون وباحثون ومناضلون، فلسطينيون وأجانب، ويهود أميركيون وحتى بعض الإسرائيليين. وأضفت قائلا له إنه أمر جيد في رأيي أن يحصل تحول في أي حزب نحو خيار التحرر الشامل من نظام أبارتهايد كولونيالي. ولكن هل تعتقد أن إحداث تحول من خيار إلى آخر بخصوص صراع تاريخي، مرير ومعقد، يحصل بهذا الشكل داخل الأحزاب أو مؤسساتها.  وشرحت له أننا في حزب التجمع ندير نقاشا منذ سنوات حول إمكانية التبني الرسمي لخيار الدولة الواحدة (لأن هذا الخيار متضمن داخل برنامج الحزب، برنامج دولة المواطنين التي تقوم على أنقاض الدولة اليهودية الكولونيالية). بدا عليه الإحراج، ثم راح يضحك ساخرًا من رئيس حزبه. هذا الأمين العام هو اليوم خارج حزبه، ولم يصدر عن هذا الحزب أي بيان يشرح هذا التحول وأسبابه وكيفية الانتقال إلى الميدان العملي. منذ ذلك 'التحول'، لم يسمع أحد من الناس عنه. هذان مثالان صارخان يدللان على كيفية تعامل الأحزاب ذات الشخص الواحد، والتي لا تملك مؤسسات حزبية حقيقية تتعامل مع الإستراتيجيات والبرامج ومع واجبات التغيير.

على إثر حوار بيني وبين الصديق أليف صباغ في تلفزيون 'مساواة' قبل أسابيع، حول الدولة الواحدة، فسر صباغ أحد أسباب معارضته لخيار الدولة الواحدة بصورة غريبة، قائلا بالحرف الواحد: 'أنا أخشى أن يتسلق المستسلمون والانتهازيون على  المشروع ويصبحوا في قيادته'، موضحًا أن من يسلم بالاستيطان والكتل الاستيطانية الكبيرة في الأرض المحتلة عام ٦٧، هم من المستسلمين'.

أولاً؛ يجب أن نفرق بين من يتعامل بجدية مع هذا الخيار، والذي يرفض الانطلاق من أرضية الوقائع الاستعمارية التي فرضتها إسرائيل في الضفة الغربية والقدس، حتى لو كانت هذه الوقائع محفزا، وبين من ينطلق من أسس العدالة والقيم التحررية الوطنية والديمقراطية.

ثانيًا؛ لا أرى (كداعم لفكرة الدولة الواحدة) في انضمام من يعتبرهم السيد صباغ وكثر، مستسلمين وانتهازيين ونقطة ضعف لهذا الخيار التحرري، بل هو نقطة قوة. هذا يعني أن هؤلاء يقدرون أنه ما عاد ممكنا الوقوف أمام التسارع في تقبل الخيار. ولذلك، هم يحبون أن يكونوا في الصدارة حتى لو كان هذا السلوك مفتعلا ومدفوعا بنزعة النجومية الفارغة والتنافس على الزعامة (داخل الخط الأخضر تحديدا). طبعًا في نهاية المطاف، لن يقود عملية التحول نحو هذا الخيار إلا مناضلون حقيقيون، وبما أنه خيار إستراتيجي وبعيد المدى، فإن لطلائع الجيل الفلسطيني الأكثر وعيًا ونضجًا الدور الأساس. ولكن، لا ضير أن يلتحق كل من يريد بهذا الخيار، بل اهلًا وسهلاً، فهم سيخضعون لتأثيرات النقاش والنشاط والتفاعلات التي ستفرزها مسيرة التحول نحو الخيارات والبدائل.

يرى العديد من المراقبين أهمية دور فلسطينيي ٤٨ في مواجهة نظام الأبرتهايد الإسرائيلي. كما بمقدور كفاحهم ضمن رؤية دولة المواطنين داخل الخط الأخضر أن يكون نموذجًا للنضال ضمن دولة المواطنين الواحدة من البحر إلى النهر. ولكن هذا الدور يتطلب تقوية المجتمع الفلسطيني وتحصينه ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا ومؤسساتيًا، وفتح النقاش على أوسع أبوابه نحو الانخراط في الجهود المبذولة في كافة تجمعات الشعب الفلسطيني من أجل إعادة بناء المشروع الوطني. ليست المصاعب قائمة فقط في أحزاب الشخص الواحد، بل أيضا في الأحزاب المركزية.

هناك أحزاب حُظرت (الحركة الإسلامية)، وهناك أحزاب مهددة بالحظر وتتعرض للملاحقة الدائمة (التجمع الوطني الديمقراطي)، وهناك محاولات إسرائيلية منهجية لدق الأسافين بين الأحزاب وتصنيفها بين معتدل ومتطرف. وهذه السياسات القمعية أيضا هي رسالة للأحزاب الأخرى المصنفة كمعتدلة، بأن عليها أن تحذر وألا تنجر وراء خطابات الحركات المحظورة والملاحقة. ما معناه أن إسرائيل تسعى إلى رسم الخريطة السياسية العربية داخل الخط الأخضر على مقاس مصلحتها. ولكن يجب أن نعترف، بأن أحزابنا وبلا استثناء، وإن بتفاوت، وهي التي شهدت ازدهارا وقوة لسنوات طويلة منذ أواخر التسعينيات، وحتى عام ٢٠٠٩- ٢٠١٠، تحتاج إلى تجديد في أدائها وصفوفها وإستراتيجياتها. وهذا تحد حقيقي أمامها لأنه مرتبط بالقدرة على إعادة بناء الهيئة العربية العليا الممثلة للجماهير الفلسطينية داخل الخط الأخضر. ومن دون ذلك، فإننا سنخسر الكثير من الإنجازات الهامة التي حققناها عبر النضال.

ليست الدولة الواحدة قرارًا،  بل معركة شاملة ومعقدة 

لا بد من الإدراك أن عملية التحول نحو خيارات وطنية بديلة ليست عملية سهلة وليست بلا مخاطر حقيقية، بل هي عملية مركبة وشاقة وطويلة، وتحتاج إلى قدر كبير من التضحية، وقراءة متجددة للواقع، وتستلزم إستراتيجية عمل تتوزع على مراحل زمنية يتمخض عنها مهمات عملية محددة. هي عملية كفاحية بكل معنى الكلمة، أي ليست عملية إقناع ومفاوضات تجري مع المؤسسة الصهيونية الرافضة لأدنى المطالب الفلسطينية، كما ليست بالضرورة وضع خيار الدولة الواحدة في صدام مباشر وفوري مع حل الدولة المرحلية في الأراضي المحتلة عام ٦٧ ومقارعة الاستيطان. أصلاً، خيار الدولة في الضفة وقطاع غزة كان يحتاج لإستراتيجية كفاحية حقيقية وليس لمفاوضات عبثية حيدت الشعب ودوره في المقاومة الشعبية، وهي مفاوضات انتهت بالقضاء على خيار الدولة المستقلة، إذ تمكنت إسرائيل من خداع القيادة الفلسطينية وتعميق مشروعها الاستيطاني.

ومن شروط تطوير عملية التحول نحو المشروع الوطني الفلسطيني الأصيل:

أولاً؛ العودة إلى الرواية التاريخية الجامعة، إلى النكبة، وإلى كون إسرائيل نظاما كولونياليا استيطانيا... وإلى أن قضية فلسطين هي قضية تحرر وطني من هذا النظام. هذا المفهوم لقضيتنا والمفردات المذكورة، يجب أن يجري تعميمها بصورة منهجية عبر الكتابة وفي والمؤسسات التربوية والأكاديمية والحزبية والإعلامية، في الداخل والخارج. والهدف هو إعادة تشكيل الوعي الوطني الجامع، خصوصًا بين الأجيال الجديدة التي ستتسلم الراية.

ثانيًا؛ ربط الفكرة الوطنية بالفكرة الديمقراطية بصورة جدية ومنهجية، فكرة العيش مع الإسرائيليين بعد نزع الطابع الكولونيالي عن المؤسسة والمجتمع. ليس فقط من أجل ذلك، بل لأنه ما عاد ممكنا أن تعيش دولة وتتطور وتعيد إنتاج ذاتها من دون الديمقراطية، أي المساواة، وحقوق الإنسان، الحريات الفردية، والتناوب على السلطة، وفصل السلطات. ما عاد مقبولاً أخلاقيًا، ولا مفيدا أو مؤثرا عمليًا، أن تكون مؤيدًا للاستبداد والتخلف والرجعية والإمبريالية، وأن تكون ضد الفكرة الصهيونية الاستعمارية والعنصرية، وفي الوقت ذاته مع الدولة الديمقراطية الحرة، التي من المفترض أن تكون جاذبة للجميع، وتكون نموذجًا ملهمًا للوطن العربي، إذ أن هذه الدولة ستكون جزءًا عضويًا منه في زمن قادم. أي أنه أثناء الكفاح الضاري الذي ستخوضه الأجيال من أجل حاضر آخر، ومستقبل آمن لا بد من تذويت فكرة الديمقراطية والمساواة وكرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية.

ثالثًا؛ تخصيص برامج عمل لكل تجمع فلسطيني: الشتات (في المخيمات ودوّل العالم العربي) وفِي الغرب وأميركا الجنوبية، وفي الضفة والقطاع والقدس. ثالثا: مناطق ٤٨.

مناطق ٤٨: اعتقد أن مهمة الفلسطينيين الأساسية في هذه المنطقة الفلسطينية، تتلخص في شقين: الأول مواصلة تعزيز الصمود وبناء وإعادة بناء مؤسساتنا الوطنية والمهنية والتربوية والشعبية، وتطوير سبل النضال ضد مصادرة الأرض وهدم البيوت، ومن أجل انتزاع الحقوق اليومية والوطنية. وهذا يستلزم مواصلة تطوير أساليب مقارعة المؤسسات الإسرائيلية المختلفة لتحصيل الحقوق كالميزانيات والدفاع عن الأرض وتطوير الاقتصاد، ومكافحة الأسرلة والتشويه القومي. الشق الثاني، تطوير العمل بين الإسرائيليين، في مجال النضال من أجل حقوقنا اليومية والقومية، ولكن بخطاب سياسي مبدئي وحكيم وغير استجدائي، وهذا يجري في أوساط إسرائيلية تؤيد ما يسمى حل الدولتين، أي دوله فلسطينية مستقله في الضفة (وهذا لا يشمل حزب العمل الصهيوني الذي يتظاهر بذلك). أما المجال الثاني، يتمثل في العمل الجدي والمنهجي في تطوير العلاقة مع الأفراد الإسرائيليين، وهم قد لا يتجاوزون حاليا المئات، الذين يؤيدون الدولة الديمقراطية الواحدة، بل إلى السعي أن نعمل معهم في إطار سياسي مشترك نقيمه معًا.

رابعًا؛ مواصلة تطوير التشبيك والتشابك بين النشاطات الثقافية والأكاديمية والأدبية والشعبية، التي يقوم بها فلسطينيون في كافة تجمعات الشعب الفلسطيني، والتي تصب في إعادة بناء وتعميم الرواية الفلسطينية الأصيلة، وفي إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، وتحقيق أقصى مستوى من العمل الوحدوي بين كل الذين يؤمنون بهذه الفكرة وبهذا المشروع الكبير، حتى نكون نموذجًا حقيقيًا بديلا عن حالة الشرذمة والتفسخ والانقسامات. إنها مسألة وجودية لحياة هذه المبادرات أن نتعالى عن الحساسيات الشخصية والفئوية. يمكن أن تكون أكثر من مبادرة في هذا الاتجاه، ولكن محظور أن يكون بينها تنافس هدام، بل مطلوب التنسيق والتعاون والاحترام المتبادل، وتقدير لعمل الآخر.

نعم كما أسلفنا، هذا المشروع الكبير، مشروع التحرر الفلسطيني يحتاج إلى قدر عال من نكران الذات، وإلى قدر استثنائي من التعاون الجماعي. لا مكان للعبث، وما عاد شعبنا يحتمل هذا النوع من العبث أو غيره من أنواع العبث الأخرى وفي أماكن أخرى. لنعطي أملاً لمن بادر إلى تجديد هذه المعركة، لنمنح الأمل للأجيال الجديدة، لأبنائنا وبناتنا. 

التعليقات