12/03/2017 - 11:59

جاء الذئب... جاء الذئب

وللمفارقة، فإن من قام بتمزيق نسخة قانون منع الأذان وداس عليه في الكنيست، تغيب عن المظاهرة وعن اجتماع لجنة المتابعة الذي سبق المظاهرة. هذا التغيب ليس استثناءً بل ممارسة مثابرة، وكأنها تقول: لكم ميدانكم ولي ميداني.

جاء الذئب... جاء الذئب

لن يشفع لنا التاريخ والأجيال القادمة إذا مر قانون معادٍ لنا ولهويتنا مثل قانون منع الأذان، ليس فقط لأننا لم ننجح في منع تشريعه، وإنما لأننا لم نرتق إلى حجم التحدي في ممارستنا. لكن الآلاف التي شاركت أمس السبت في مظاهرة لجنة المتابعة في قرية كابول ضد قانون منع الأذان أعطت بارقة أمل بأن هناك من هو على قدر التحدي والنضال.

وللمفارقة، فإن من قام بتمزيق نسخة قانون منع الأذان وداس عليه في الكنيست، تغيب عن المظاهرة وعن اجتماع لجنة المتابعة الذي سبق المظاهرة. هذا التغيب ليس استثناءً بل ممارسة مثابرة، وكأنها تقول: لكم ميدانكم ولي ميداني... لكم الميدان الحقيقي ولي الميدان الافتراضي. لكن كما يقول المثل 'الغايب عذره معه'، حتى لا نتهم بتخريب 'الأجواء الوطنية الوحدوية'.

يتزامن هذا الحديث مع مرور عامين على تأسيس القائمة المشتركة، التي أعطت أملاً لكل العرب بحصول تحول في السياسة العربية، تحول إلى الأفضل، بحيث يصبح نضالنا وحدوديا تحكمه إستراتيجية موحدة، فوق حزبية وفوق فئوية ومن دون شخصنة للعمل السياسي. وأثبتت تجربة العامين أن العرب بمقدورهم الوحدة خلافا للشعار المعروف 'اتفق العرب ألا يتفقوا'. أثبتت تجربة العامين بأن القائمة المشتركة تقدم أداءً برلمانيا مهنيًا إلى حد كبير، واستطاعت الحفاظ على الاتزان السياسي الداخلي على الرغم من التنوع العقائدي والحزبي والنقاشات الداخلية، ولم تنجح حتى اللحظة محاولات جر القائمة إلى 'يسار إسرائيلي' و'معسكر ديمقراطي' مزعوم، بل أظهرت نضجا سياسيا حافظ على التوازن الدقيق بين الخطاب القومي وخطاب المساواة أو المواطنة. هناك من حاول ترجيح كفة خطاب المساواة في دولة اليهود على حساب الخطاب القومي والوطني، عن وعي أو دون وعي، لكن النضوج السياسي والتجربة والتنوع الحزبي منعوا انزلاق القائمة المشتركة نحو الأسرلة وإلى خطاب 'المعتدلين والمتطرفين' الإسرائيلي.

القائمة المشتركة تجربة سياسية هامة فريدة للفلسطينيين في الداخل وعلى مستوى الوطن العربي حتى، لأنها تضم القومي والشيوعي والإسلامي واللاعقائدي، وتستحق أن تستمر، فمهمة الحفاظ عليها ملقاة على الجميع. لكن ذلك لا يعني التهاون في توجيه النقد لها أو لممارسات مركباتها، فهذا من شأنه أن يشكل عملية صيانة إلزامية لها، ويمنع تفككها وخرابها.

في المقابل، وبعد عامين، بمقدورنا أن نقول إن القائمة المشتركة لم تنجح حتى اليوم في استنفار الشارع العربي وإعادة الحياة السياسية، بل بالعكس، فإن الأجواء الوحدوية سببت حالة من الاستكانة السياسية والحزبية الخطيرة، ومحت الفروقات بين من لديه حزب ومؤسسات حزبية وبين one man show. حولت السياسة من 'شيء دنيوي' على الأرض إلى 'شيء افتراضي' غير محسوس، لا طعم ولا رائحة ولا مشروع له، شيء انفعالي يخاطب الغرائز ومهمته حصد اللايكات. ممارسة استعراضية جوفاء، ليس فقط إنها لا تسيّس الناس وتحرضهم على الانخراط في العمل السياسي النضالي، بل بالعكس، تحول السياسة إلى ظاهرة فيسبوكية لا أكثر، بكل ما يعني ذلك من تفاهة وسطحية حتى لو تسبب ذلك بشعبية مؤقتة وعابرة، وذلك خلافا لتجارب أخرى في العالم، وفي الوطن العربي تحديدًا، التي شكلت فيها وسائل التواصل الاجتماعي محركا سياسيا وشعبيا. لكن ما نشهده هي ممارسات للاستهلاك الإعلامي والإعلاني، تتخصص فيها الشركات التجارية ومكاتب الدعاية، وليست ممارسات سياسية لحركة وطنية أو لشعب يواجه تحديات ومخاطر يومية في كافة مناحي الحياة. هذه ممارسات لا تخلق أجيالا لديها هوية قومية ووعي وطني، بل أنها تضر بهذه الهوية وبهذا الوعي، وتنمي فيه الأنانية والانتهازية وحب الظهور والاستعراض، بدلًا من حب العطاء والتضحية والتنظيم الجماعي. هذه ممارسات لا تخلق حركة طلابية بل تساهم في ضربها وتدفع الطلاب للبحث عن نجاحات فردية استعراضية والابتعاد عن السياسية.

لكن الأخطر من كل ذلك، هو أن هذه الممارسات التي اكتشف معظم الناس حقيقتها، صارت تمس بجدية قضايانا وتحل محل السلوك والتفكير الإستراتيجي. هذه الممارسات حولت قضايانا المصيرية إلى سلع للاستهلاك الإعلامي. فتمزيع مسودة قانون لا يعني أن القانون سقط، بل يحرف الأنظار عن مخاطر هذا القانون وضرورة مواجهته على الأرض، وفي المرة القادمة التي سيقوم بها نائب بتمزيق مسودة قانون أخطر من القانون السابق، فلن يلتفت له أحد ولن يصدق أن القانون خطير بالفعل، وذلك مثل قصة جاء الذئب... جاء الذئب، ففي المرة الثالثة التي أتى فيها الذئب حقا، ظن الناس أن ذلك على سبيل المزاح والترويع.

يتوقع من القائمة المشتركة أن تترجم نفسها في الميدان، بأن تشكل رافعة للعمل الوطني والسياسي والشعبي، وليس نقل المعركة إلى العالم الافتراضي، ووأد الحياة الحزبية أو النقاشات الحزبية. كما يتوقع من القائمة المشتركة أن تعقلن الخطاب السياسي بدلا من فهلوته أو شخصنته كما يفعل البعض.

لن يشفع لنا التاريخ إذا لم نرتق بممارستنا السياسية، لأن التحديات كبيرة وجسام، وإذا ما استمرينا في الاعتماد على ممارسات شعبوية في مواجهة القوانين العنصرية ومصادرة الأراضي وغيرها، فإن في المرة الثالثة عندما نصيح 'جاء الذئب... جاء الذئب'، فلن يصدقنا أحد ولن نصدق أنفسنا حتى.

التعليقات