02/04/2017 - 13:02

المطلوب: مشروع مناهض للصهيونية وليس معسكرا ديمقراطيا إسرائيليا

في حالة الفلسطينيين في الداخل، يجب أن يكون الهدف الإستراتيجي إقامة معسكر مناهض ومعادٍ للصهيونية يضم تيارات سياسية عربية وغير عربية يسعى إلى إقامة دولة كل مواطنيها بدلا من النظام الحالي. تحويل مطلب إقامة دولة المواطنين إلى ركن أساسي في الم

المطلوب: مشروع مناهض للصهيونية وليس معسكرا ديمقراطيا إسرائيليا

مراجعة النضال السياسي للفلسطينيين في الداخل يشي بأنه عانى في السنوات الأخيرة، من قصور في تشخيص التحولات في السياسات الإسرائيلية لحظة حصولها، وعادةً ما كان الرد يأتي بعد حصولها، أي رد فعل على السياسات، ما صَعَّب إمكانية وضع تصورات وخطط لمواجه التغيرات. ولعل أحد أبرز الأسباب لهذا الواقع كان حالة التنافر الأيديولوجي بين الأحزاب الرئيسية الفاعلة داخل المجتمع العربي، بالإضافة إلى التزامات فكرية منعت تطوير البرامج السياسية القائمة وضعف المؤسسات الجماعية وشح في مراكز الأبحاث العربية.

الآن، وبعد مرور قرابة 70 عاما على تأسيس دولة إسرائيل، وأكثر من 40 عامًا على يوم الأرض، وفي ظل وجود قائمة مشتركة وتغير جزئي في مكانة لجنة المتابعة، هناك فرصة تاريخية للبدء في نقاش حقيقي داخل المجتمع العربي، يرمي إلى بلورة مشروع سياسي جماعي تتفق عليه الأحزاب والتيارات السياسية العربية بالحد الأدنى، يستند إلى الثوابت الفلسطينية واحتياجات ومطالب الفلسطينيين في الداخل، القومية والمدنية، ويتعامل مع التحولات العميقة التي يمر بها المشروع الصهيوني. فلا يعقل، مثلًا، أن نجتر أدوات النضال ذاتها أو المشاريع السياسية نفسها التي طرحت قبل 50 أو 30 أو حتى 10 أعوام. المشروع الصهيوني تغير بشكل جوهري في العقدين الأخيرين، والنخب المسيطرة تبدلت والأهداف المعلنة والخفية اختلفت. والأهم، أن قراءتنا للمشروع الصهيوني باتت أوضح، نتيجة لتراكم معرفة أكاديمية أنتجتها نخب فلسطينية ونتيجة لتراكم تجارب النضال السياسي. رصد التحولات الرئيسية في السياسات المنتهجة تجاه الفلسطينيين في الداخل خلال السنوات الأخيرة ومتابعة ردود فعلهم، يساهم في الإجابة على سؤال ما إذا كان الرد ملائمًا للتحولات، وهل ينبع من قراءة واقعية للمشروع الصهيوني الراهن، أم أنه، أي الرد، ما زال رهينة التزامات أيديولوجية خشبية لا تكفي لمواجه الواقع المتغير.

بدايات التحول

بعد الانتفاضة الثانية في العام 2000، بدأت عملية تحول عميقة في سياسيات إسرائيل تجاه الفلسطينيين في الداخل، عنوانها الرئيس قوننة العنصرية والتعسف تجاه المواطنين العرب، ومحاولة قمع الهوية القومية وفرض التصرف السياسي المقبول بواسطة قوانين، بعد أن كانت سياسات التمييز والعنصرية تترجم بتعامل الوزارات والمؤسسات الإسرائيلية مع المجتمع العربي دون حاجة لتعريفها بواسطة قانون. هذا التحول جاء إثر فشل محاولات الأسرلة وفرض الموقف السياسي الخانع على المجتمع العربي. تصاعدت هذه التوجهات بشكل خطير منذ تولي بنيامين نتنياهو رئاسة الحكومة في العام 2009، إذ سن العشرات من القوانين العنصرية التي أسست عمليًا إلى إنشاء نظام فصل عنصري وعودة إلى ذهنية الحكم العسكري، وتنامت الشرعية والثقافة العدائية المؤيدة لهذه السياسيات داخل المجتمع الإسرائيلي. ترجمة سياسات الفصل العنصري برزت، بالأساس، في ثلاث محاور أساسية: الفصل بين اليهود والعرب في مكان السكن بواسطة تشريعات، مثل قانون لجان القبول وبواسطة استعمال قوى السوق التي ترجمت برفع أسعار المنازل في المدن الرئيسية والمدن الساحلية 'المختلطة'، وبواسطة استعمال الفتاوى الدينية التي ترجمت بدعوة كبار رجال الدين اليهود (ربانيم) بعدم بيع أو تأجير منازل للعرب؛ المحور الثاني هو محور الفصل العنصري في قوانين المشاركة السياسية والتمثيل البرلماني، بحيث سُنّ، في العقدين الأخيرين، عدد من القوانين المخصصة لمحاصرة التمثيل البرلماني العربي، وإضافة شروط للمشاركة السياسية، على سبيل المثال لا الحصر، الاعتراف بـ'يهودية وديمقراطية' إسرائيل، منع دعم 'نضال مسلح ضد إسرائيل' وإضافة الزيارة 'لدولة عدو' كسبب لمنع الترشح، وهي كلها تستهدف الأحزاب وأعضاء الكنيست العرب حصرًا؛ المحور الثالث يتعلق بنشوء فصل عنصري هي الحالة الاقتصادية، بحيث بات واضحاً وجود اقتصاديين داخل دولة إسرائيل، الاقتصاد اليهودي المركزي والاقتصاد العربي الهامشي المرتبط تماما بالاقتصاد الإسرائيلي. فقد توسعت في السنوات الأخيرة بشكل كبير وجلي الفروقات في حالة التطور والحداثة بين البلدات العربية واليهودية بالتوازي لتوسع الهوة في مستوى المعيشة بين المواطنين العرب واليهود، ناهيك عن استعمال الدولة الأدوات الاقتصادية لابتزاز تنازلات سياسية من المجتمع والأحزاب العربية.  وللأسف، نجحت الدولة في فرض هذا الواقع وقوننته على الرغم من احتجاج المجتمع العربي والأحزاب السياسية والمؤسسات الأهلية.

في أعقاب 'نجاح' الدولة في فرض هذه التحولات ومرورها من دون ثمن جدي، ازدادت شهية المؤسسة الإسرائيلية بقيادة اليمين المتطرف الحاكم، وباتت تسعى إلى حسم أو إغلاق ملف 'مسألة الفلسطينيين في إسرائيل'، عن طريق فرض الأسرلة بالإكراه والتهديد وانتزاع الشرعية ليهودية الدولة ونظامها بواسطة القوانين، أي ترتيب مكانة المجتمع العربي من طرف واحد وتحت سقف مصالح وأهداف المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني؛ الدولة تقبل بوجود السكان العرب منزوعي الحقوق التاريخية والطبيعية الجماعية، وتريد فرض مواطنة فردية من دون العلاقة التاريخية مع الوطن والمكان.

ما العمل؟

السؤال الأساسي المطروح هنا، هو كيف نتعامل نحن مع هذه التحولات، وهل فعلا لدينا تصور واضح لمسار تطور السياسات الحكومية تجاه المواطنين العرب ولكيفية التصدي لها؟

أعتقد أن الإجابة على هذه التساؤلات لا توفر تفاؤلًا جديًا. ففي الوضع الراهن، لا يوجد توافق لدى الحركات والأحزاب السياسية العربية في الداخل على مشروع سياسي وطني مشترك متوافق عليه بالحد الأدنى، للتعامل مع حالة الفلسطينيين في الداخل. ومؤخرًا، ونتيجة لتشكيل القائمة المشتركة، خبا، إلى حد ما، النقاش السياسي الجدي والعميق داخل المجتمع العربي. هذا التراجع ساهم في طرح مقترحات سياسية لتغيير حالة المواطنين العرب تكتفي بتغيير السياسات والحكومة، ويتعامل مع ذلك كهدف إستراتيجي، من خلال إقامة معسكر ديموقراطي في إسرائيل، أي السعي لاستبدال الحكومة على أمل أن تشكل حكومة غير يمينية أقل عدائية تجاه السكان العرب. هذا الطرح يكتفي بإنهاء العنصرية أو على الأقل ترويضها من دون تعريف المساواة وشروط تحقيقها وعلاقتها بجوهر وطبيعة إسرائيل كدولة يهودية استعمارية.

الاكتفاء ببناء 'معسكر ديموقراطي إسرائيلي' وتغيير السياسات الحكومية من دون تعريف جوهري للديموقراطية المنشودة، والتنازل عن اشتراط تفكيك النظام الاستعماري الاستيطاني، هو سيف ذو حدين، لأنه يبقى محكومًا لموازين القوى السياسية وتحت تهديد الانتقال إليه. فالتغيير إيجابًا قد يلحقه تغيير سلبي إذا ما تغيرت موازين القوى، كما حصل مثلا في فترة حكومة إسحق رابين في العام 1992 وحكومة نتنياهو في العام 1996. بينما يجب أن يستند البرامج السياسي الجماعي المنشود للفلسطينيين في الداخل إلى ربط تغيير مكانة المواطنين العرب مع تغيير جوهر نظام دولة إسرائيل، ويطرح بديلًا يتحدى ويتصدى للمشروع الصهيوني، ويرمي إلى إقامة نظام ديموقراطي جوهري حقيقي يساوي بين كافة السكان، بصيغة دولة المواطنين. هذا النظام هو النقيض لحالة الاستعمار القائمة ولسيطرة المجموعة اليهودية، وبإمكانه تحسين المكانة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للسكان العرب في الداخل.

هذ الطرح شبيه لما قام به السكان السود الأصلانيون في جنوب أفريقيا، عندما طالبوا وعملوا على تفكيك نظام الأبرتهايد وإقامة نظام ديموقراطي، ولم يكتفوا أو يسعوا إلى تغيير الحكومة أو الحزب الحاكم فقط. على هذه القاعدة استطاعوا بناء تحالف مع قسم من السكان البيض الذين اقتنعوا بأن بقاء نظام الأبرتهايد يشكل خطرًا حقيقيًا على حرياتهم وكرامتهم وإنسانيتهم من جهة، ويهدد مصالح الدولة من جهة أخرى، وحصلوا على تأييد عالمي واسع.

في حالة الفلسطينيين في الداخل، يجب أن يكون الهدف الإستراتيجي إقامة معسكر مناهض ومعادٍ للصهيونية يضم تيارات سياسية عربية وغير عربية يسعى إلى إقامة دولة كل مواطنيها بدلا من النظام الحالي. تحويل مطلب إقامة دولة المواطنين إلى ركن أساسي في المشروع السياسي الجماعي للمجتمع العربي في الداخل، ووضع أدوات النضال المطلوبة لتحقيق ذلك والعمل بها، سيكون نقطة تحول جدية في أهداف وأدوات النضال، ويُمكِّن من دمج شرائح يهودية معادية للصهيونية. وقد يكون هذا بداية لتحول حقيقي في مواجهة السياسات الإسرائيلية الكلية، بل والنظام الصهيوني الاستعماري، بدلًا من شرذمة واستنزاف نضال الفلسطينيين في الداخل حول القضايا اليومية المعيشية.

* أمين عام التجمع الوطني الديموقراطي.

التعليقات