03/04/2017 - 19:47

استعادة ورقة التاريخ... مطلب الساعة

إن استيلاد فلسطيني جديد، حاملاً لروايته ولتاريخه، ورافعاً راية التحرر والحرية، تحرير الوطن وتحرر الإنسان، هو مطلب الساعة.

استعادة ورقة التاريخ... مطلب الساعة

ليس تعسفاً القول، إن التنسيق الأمني مع المستعمر هو ممارسة مشينة لم تعرفها أي حركة تحرر وطني على مدار تاريخ الكفاح ضد الاستعمار. ومن فعل ذلك في الماضي، انتهى خارج المنظومة الوطنية التحررية وخارج قيمها، بل طالته لعنة التاريخ الأبدية. بالنسبة لمهندسي اتفاق أوسلو، فإن التنسيق مع الاستعمار الإسرائيلي، جاء في ظرف دولي وعربي وفلسطيني بائس، وشكل أحد شروط الوصول إلى الحل النهائي، بعد خمس سنوات من التوقيع على الاتفاق. وكان هذا مفهوماً للكثيرين الذين راهنوا على أوسلو.

ولكن الكارثة الأكبر، هي تحول التنسيق الأمني بعد هزيمة الانتفاضة الثانية، وتحت قيادة الفريق الذي خلف الشهيد ياسر عرفات، إلى أشبه بالعقيدة الدينية (إذا ما استشهدنا بتصريح أبو مازن بأن 'التنسيق الأمني مقدس'). وكان الجنرال الأميركي دايتون، الذي درب قوات الأمن الفلسطينية، قد أرسى عقيده أمنية قوامها توجيه عملها ونشاطها إلى الساحة الفلسطينية الداخلية، والذي عنى حماية إسرائيل من المقاومين، وهو الأمر الذي بات جلياً وسافراً.

وبات واضحاً، ويؤكده قادة جيش نظام الأبرتهايد الاستعماري، أن استمرار السلطة ليس نابعاً من شرعية شعبية فلسطينية، بل من حماية إسرائيل لها. ومن يستمع إلى الحوارات اليومية في الإذاعات الإسرائيلية حول واقع السلطة، يندهش من تقدير وحماسة الجيش لدور السلطة وضرورة الحفاظ عليها. طبعاً هذا الدفاع يأتي، بالإضافة إلى قناعات الجيش بمركزية دور السلطة الفلسطينية في لجم نضالات شعبية حقيقية وفي اعتقال المقاومين، رداً على ضيق ذرع نتنياهو برئيس السلطة الفلسطينية، الذي يزعجه أحياناً بتحركاته الدولية لطلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية. ولكن، ليس انزعاج نتنياهو هو المسطرة التي ينبغي أن نقيس بها فائدة السلطة للشعب الفلسطيني أو ضررها لإسرائيل، ذلك أن إستراتيجيته تقول بالحفاظ على الأمر الواقع، أي مواصلة الاستيطان من دون إزعاج.

طبعاً ليس حل السلطة أمراً بسيطاً، إذ هناك عشرات الآلاف من الموظفين الذين يعتاشون من مؤسساتها (يقدر بـ١٧٠ ألف عضو في قوات الأمن). كما تقوم قوات الشرطة بدورها الشرطي في المجتمع، أي منع حصول فوضى عارمة أو فلتان قانوني، وهذا جعل الكثير من المنتقدين يحددون المطلب بتغيير وظيفة السلطة، من سلطة تخدم الاحتلال، إلى سلطة تدير حياة الناس اليومية فقط، ولا تنسق مع الاحتلال. وهذا أمر مفهوم وموقف مسؤول.

لقد أثبتت المعطيات على الأرض الناجمة عن تغول وتمادي نظام الاستعمار العنصري، أن هذا النهج ساهم في تعميق استعمار الأراضي الفلسطينية، لأنه أولاً، حيد المقاومة الشعبية الشاملة، وأخرج الشعب من ساحة المواجهة منتظراً ما ستجلبه لهم قيادتهم من المفاوضات أو التحرك الدبلوماسي، ما جعل التمدد الاستعماري الصهيوني رخيصاً ومن دون تكبد أي تكلفة؛ ثانياً، لأن هذا النهج الانتظاري أو التعويل على تجديد المفاوضات وفر الشرعية للتمدد الاستيطاني، وحال دون إقدام دول على مقاطعة البضائع والمنتوجات الإسرائيلية.

الجدل الداخلي الإسرائيلي حول مصير السلطة الفلسطينية، يشكل مسوغاً لقيادة السلطة الفلسطينية بالتمسك بالسلطة، والدفاع عنها بشراسة باعتبارها أهم إنجازات الشعب الفلسطيني، كما صرح أبو مازن أكثر من مرة في العام الأخير، وهو الأمر الذي دفع الكثيرين للتندر على هذه التصريحات، لأنه كان أيضا قد صرح عدة مرات قبل ذلك بأنه رئيس سلطة بلا سلطة، وكان يلمح إلى نيته 'تسليم المفاتيح' لإسرائيل.

لسنا بلا خيارات

إذا كان التخلص من عار التنسيق الأمني متعذراً على قيادة السلطة بسبب بنيتها الذهنية والنفسية، والمستندة إلى طبقة أو شريحة اجتماعية - اقتصادية - ثقافية مذوتة للأمر الواقع، أو بسبب خوفها من أن الشعب الفلسطيني غير قادر على تحمل تبعات وقف التنسيق الأمني  في ظل الظروف العربية الراهنة، فهناك خطوات أقل تكلفة ولا تحتاج إلى جرأة كبيرة، ولكنها خطوة ذات بُعد إستراتيجي. تتمثل هذه الخطوة باستعادة الخطاب الوطني التحرري، الخطاب الكولونيالي، الذي هجرته منظمة التحرير بعد أن ابتلعتها سلطة أوسلو. هو الخطاب النقيض لخطاب أوسلو والذي يستعيد الرواية الفلسطينية، الذي تقوم عليها قضية فلسطين كقضية شعب تعرض لغزو استعماري. أي أنه طالما أن معطيات الواقع الإسرائيلي، بشارعه ونخبه وقياداته، ليسوا بوارد التعاطي مع حل الدولتين ويجمعون على انعدام الحلول الممكنة في الأفق، لا القريب ولا المتوسط، فلا يجوز أن نظل ندور في خطاب اختزالي وخاسر.

الواقع الحالي هو أن فلسطين كلها تخضع عمليا لنظام استعماري وفصل عنصري. لقد تخلينا عن مطلب تحرير فلسطين وعن الدولة الواحدة، وتبنينا مطلب الدولة المرحلية في الضفة والقطاع، تحت ضغط الدول الكبرى؛ وعقب ضغوط جديدة، تم التخلي عن هذا الخيار لصالح حل البانتوستونات (كانتونات منعزلة)، والأخطر أنه يُطلب منا أن نحمي الاحتلال مقابل هذا الحل التصفوي.

وقد عشنا منذ أوسلو عملية التآكل في مفردات وقيم التحرر الوطني. ومع استطالة عملية التسوية والمفاوضات العبثية نمت عدة جديدة من المصطلحات الغريبة عن قاموس التحرر، وأقيمت لها مؤسسات إعلامية وأكاديمية وبحثية، ونشأت فيها وحولها نخب تنظر لهذا التحول وترسخه في الوعي، لدرجه أن أجيال واسعة في الضفة الغربية  ذوتت أن فلسطين هي الضفة الغربية وقطاع غزة، أي ربع فلسطين، وأن الشعب الفلسطيني هو من يسكن هذه المناطق، أي خمس الشعب الفلسطيني، وهذا ما نلمسه بين أوساط الطلبة في الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة.

إسرائيل توسع مشروعها الاستعماري علناً، وترفقه بخطاب استعماري إقصائي، يتنكر لأي شرعية للوجود الفلسطيني في فلسطين. هو خطاب عنصري وغير إنساني وغير أخلاقي. أما خطاب التحرر الفلسطيني العادل، والذي عاش لفترت قصيرة منذ أواخر الستينات إلى أوائل السبعينات، فهو خطاب إنساني تحرري يطرح قبولاً بالوجود اليهودي الإسرائيلي في فلسطين، لكن بعد تفكيك منظومة نظام الاستعمار والفصل العنصري.

إذاً، طالما لا يطرح في الوقت الراهن أي حل، لا حل الدولتين ولا حل الدولة الواحدة، وطالما لا تمتلك سلطة رام الله القدرة أو الجرأة على التخلي عن التنسيق الأمني، رغم أنه ليس مقبولا البتة مواصلة التمسك به... إذاً لماذا لا نباشر في العودة الى الخطاب التحرري الأصيل، وننشئ الأجيال الجديدة عليه، تمهيداً لمرحلة تحررية لا بد وأنها قادمة؟ لماذا لا يُتخذ قرار إعطاء التعليمات إلى كل المؤسسات السياسية والأكاديمية والإعلامية والمدارس، بالتخلي عن مفردات أوسلو وخطاب التسوية الانهزامي، وتبني مجدداً خطاب وحدة الشعب الفلسطيني في كل مكان؟ ولماذا لا يُباشر الشعراء والكتاب والأدباء بتطعيم إنتاجهم بهذا الخطاب، وأن يعودوا إلى الإعلاء من شأنه بوضوح وقوة.

لا يطرح هذا الخطاب حلاً معيناً، لا دولتين ولا دولة واحدة، إنه يطرح فقط إعادة تركيب اللوحة الفلسطينية التاريخية والثقافية والحضارية، الممتدة في فلسطين، والتي تشظت بفعل انتصار الغزو الصهيوني لفلسطين في العام ١٩٤٨، ومن ثم احتلال في العام ١٩٦٧، وليأتي اتفاق أوسلو لتكريسه فلسطينياً.

لا أرى حلاً أعدل من تحرير فلسطين من الهيمنة الصهيونية، وإقامة الدولة الديمقراطية الواحدة. ولكن، حتى في إطار الحل الذي تتبناه السلطة الفلسطينية، حل الدولتين، فإن رواية أصحاب الوطن هي ورقة إستراتيجية في المفاوضات من أجل تسوية تاريخية، وكان كارثياً التخلي عن هذه الرواية في اتفاق أوسلو والبدء من الرواية الإسرائيلية التي تبدأ من احتلال العام ١٩٦٧. وكان كارثياً أيضاً، إدانة المقاومة الفلسطينية ووصفها بالإرهاب. لذلك كان حتمياً، مواصلة الانحدار في الخطاب وفِي الأداء وفِي نوع الحل. من يريد دولة فلسطينية في الضفة والقطاع، كاملة السيادة وعودة اللاجئين... يبدأ من أصل الرواية، ومن المطالب الأصلية، لا من مطلب الحد الأدنى، حتى يحصل على هذا الهدف

لذا، فإن المرحلة تتطلب إعادة حشد الشعب الفلسطيني حول روايته، وحول أرضه التاريخية، حول وحدته كشعب واحد، من خلال الجهد الثقافي والشعبي المنسق. هل السلطة الفلسطينية مستعدة لهذه المهام؟ هل هي راغبة بها؟ هل بنيتها تسمح بذلك؟

لا يبدو ذلك بل نستبعده، خصوصاً وأنه لا تتوفر الضغوط الحقيقية عليها، لا من الشارع الفلسطيني ولا من النخب؛ إذاً ما العمل؟

العمل هو من خلال المبادرات الفردية، من داخل الأحزاب والفصائل، والجماعات الشبابية، الكتاب، الأدباء، الصحافيون، من كافة تجمعات الشعب الفلسطيني. طبعاً، هناك العديد من النشاط الجاري، المستقل عن السلطة في هذا الاتجاه والذي يحمل هذا الطابع، وهناك أطر وطنية صغيرة جامعة، بحثية أو أكاديمية وأدبية وشبابية، كلها تتجه نحو فلسطين الواحدة، وتوجه بوصلتها ضد نظام الأبرتهايد الكولونيالي باعتباره نظاماً ظالماً وغير شرعي.

إن استيلاد فلسطيني جديد، حاملٍ لروايته ولتاريخه، ورافعٍ راية التحرر والحرية، تحرير الوطن وتحرر الإنسان، هو مطلب الساعة.

التعليقات