11/05/2017 - 14:08

ترامب مجرد كذبة، لكنها كذبه صادقة

​مع مرور مائة يوم على تسلم ترامب السلطة، هناك ما يدعو لمراجعة هذه الظاهرة. أولا: إن خطابه بهذه المناسبة لم يتعد كونه استمرارا للحملة الانتخابية التي خاضها. تحدث باسم الشعب ضد المؤسسة، وكأنه لا يزال خارجها ومعتبرا نفسه الممثل الحقيقي.

ترامب مجرد كذبة، لكنها كذبه صادقة

مع مرور مائة يوم على تسلم ترامب السلطة، هناك ما يدعو لمراجعة هذه الظاهرة. أولا: إن خطابه بهذه المناسبة لم يتعد كونه استمرارا للحملة الانتخابية التي خاضها. تحدث باسم الشعب ضد المؤسسة، وكأنه لا يزال خارجها ومعتبرا نفسه الممثل الحقيقي والوحيد للشعب. والشعب بهذه الحالة يراوح بين مفهومين من الضروري الحفاظ على كليهما: الشعب الأميركي برمته كأمة مدنية، والشعب الأميركي كمجموعة المستوطنين البيض الأوروبيين بالعموم والأنجلو-ساكسون بالأخص، وكل ما عداهم دخيل وغير أصيل.

المفهوم الأول يحتاجه لصناعه الأعداء الخارجيين والثاني لصناعه الأعداء الداخليين. في كلا الحالتين يعتبر نفسه أنه هو الصوت الأصيل للشعب. وتظهر هذه الأصالة بإظهار الاحتقار الزائد للمؤسسات التي يفترض بها أن تقوم بدور الوسيط بين الشعب والدولة: مثل المحاكم، الأحزاب، مراكز الأبحاث، سلك وبيروقراطية الدولة، الصحافة والنخب على تنوعها. وما قراره الأخير بإقالة رئيس المخابرات الفيدرالية سوى إثبات آخر. بالنسبة لترامب، فإنه لا حاجة للوساطة: هو الشعب والشعب هو. إلا أن ترامب ليس وحيدًا وليس الأول في هذا السياق. إردوغان ونتنياهو وبوتين يمثلون ظواهر شبيهة. إلا أن الأهم، يبقى، في اعتقادي، ليس فقط في فهم ترامب إنما فهم الظروف التي تجعله ممكنا ونموذجا قابلا للتكرار في بقع كثيرة في العالم. صعود لوبان في فرنسا يمكن فهمه، جزئيا، في هذا السياق أيضا. والسؤال هنا هل وصل النموذج الديموقراطي الليبرالي، الذي ساد في نهاية القرن المنصرم في أوروبا وتحول لنموذج عالمي، لأزمة حقيقية؟ وهل سيكون قادرًا على تجاوزها؟

لم تولد الديموقراطية الليبرالية في القرن التاسع عشر دفعة واحدة. الديموقراطية بصيغتها الليبرالية هي توافق بين فكرتين يسود بينهما توتر حقيقي: الديموقراطية باعتبارها حكم الشعب، والذي يعبر عن نفسه عن طريق الأغلبية المنتخبة، من ناحية، والليبرالية التي تفرض قيودًا على هذا الحكم وتضمن حقوقا للفرد وللأقلية وتكفل مساحة حرة لهما من تعسف الأغلبية وبطشها من ناحية أخرى. إلا أن هذا المزيج كان ممكنا لأنه تقاطع مع مشروع البرجوازية الصاعدة في شقيه كليهما: في شقه الديموقراطي والذي كان يعني تحرير السياسة من الأرستوقراطية القديمة ومنح القوّة السياسية لعموم الشعب، وفِي شقه الليبرالي الذي وضع قيودا على سيادة الشعب على شكل مجموعة من الحريات المدنية المكفولة دستوريًا، وعلى رأسها حرية التعاقد والملكية الخاصة وحرية التجارة. هذا المزيج بعينه هو مشروع الدولة القومية الحديثة التي وحّدت السوق المحلية، منحت الشعب السيادة السياسية وحدّدت، في نفس الوقت، حدود هذه السيادة. أي أن مشروع الدولة القومية الحديثة هو مشروع مفروض من النخب الاقتصادية والنخب الثقافية كذلك. هذا يعني أنه في مرحلة تاريخية كانت النخب البرجوازية الصاعدة معنية بصناعة الحدود وتقسيم العالم لمجموعة من الشعوب المتنافسة.

إلا أن التقاء الديموقراطية مع الليبرالية هو ليس اللقاء أو التوليف الوحيد. هناك تجليات أخرى للفكرة الديموقراطية. التراث الاشتراكي حاول أن يمزج الديموقراطية مع الطابع الشعبي والطبقي وأنتج نموذج الديموقراطية الشعبية التي، نظريًا، سعت لدمقرطة الاقتصاد وليس السياسة فقط. الكثير من دول العالم الثالث ذات الميول الاشتراكية والثورية تبنت هذا النموذج. فشلت هذه الديموقراطية في تقديم نموذج يحتذى به لأسباب عديدة لا مجال لتعدادها هنا. النموذج الآخر للمزيج هو الديموقراطية مع المشاريع القومية الشعبية. في ألمانيا القرن الماضي أطلق عليه اسم الديموقراطية القومية والنتيجة التي انتهت إليها هذه "الديموقراطيّة" ليست بحاجة لأي شرح أو إسهاب من حيث الكوارث التي حلت بالبشرية على إثرها. تبقى الحقيقة أن المشاريع القومية كانت في جوهرها مشاريع قادتها النخب الاقتصادية والثقافية "وفرضتها" على شعوبها، وبالنسبة لكارل ماركس لم يكن هناك للعمال ما يربحون من نظام الدولة القومية البرجوازية وليس هناك، في حالة حدوث الثورة، ما يخسرونه سوى قيودهم. أما في هذه الأيام، وبعد الانتقال إلى أسواق عالمية في عصر نيو ليبرالي يقوم على التنقل الحر للبضائع ورأس المال والقوى العاملة، أصبحت المشاريع القومية والحدود القومية عاملا كابحًا ومقيدا للنخب الاقتصادية والنخب الثقافية التي تتنقل بسهولة بين المطارات والدول والجامعات والأسواق العالمية والمؤتمرات. لقد أصبحت هذه النخب تنظر للمشاريع القومية التي أوصلتها لمواقعها الحاليّة بعين الريبة، وتنعت الجماهير الشعبية ومن يتشبث بالحدود القومية باعتباره محافظا ومتزمتا. القومية في الصيغة التي أنتجتها النخب في تراجع. القومية التي تنمو الآن هي مشاريع قومية تطالب بها الطبقات الشعبية، وتحاول فرضها على نخبها كي تحميها من حركة رأس المال الكوني ومن المنافسة مع الأسواق الأجنبية. بعد فشل المشاريع الاشتراكية، هناك من يعتقد داخل الطبقات المسحوقة أن الحدود القومية سوف تحميه من عنف وتعسف رأس المال والنظام الاقتصادي النيوليبرالي، أي إنه يستدعي الدولة القومية لتحميه من السوق. وهذا ما يفسر أن مصوتي ترامب هم مصوتون محتملون لساندرز. إن الشعبوية الاشتراكية تنتج نفسها شعبوية قومية في مواجهة مفترضة مع رأس المال. هذا ما يثبت أن هناك إمكانات ومساحات واسعة لليسار للعمل مع الطبقات الشعبية لكن ذلك يلزمه أن يعيد حساباته وتنظيراته حول المسألة القومية وضرورة المصالحة مع الفكر القومي وتقويمه في نفس الوقت. ترامب مجرّد كذبة، لكنها كذبة صادقة.

التعليقات