24/05/2017 - 18:00

في مواجهة الصفقة - التصفية

من هذه الخيارات المطروحة، السعي إلى بناء علاقة تنسيق وتشبيك منهجية بين مختلف المؤسسات، والهيئات، واللجان الشعبية، والدوائر الأكاديمية، والأوساط الشبابية، التي يشتغل معظمها كل بمفرده

 في مواجهة الصفقة - التصفية

إذا كان هناك صفقه يخطط لها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لإنهاء الصراع الفلسطيني الصهيوني، فإنها لن تكون إلا نسخة معدلة لاتفاق أوسلو، أو ربما أكثر هبوطا، وأشد خطورة على قضيتنا. ويستطيع من يرغب، سواء أقطاب المعسكر الصهيوني المعارض لحكومة بنيامين نتنياهو أو نخبة أوسلو التي عولت كثيرا على هذا المعسكر، كل من منطلقاته بطبيعة الحال، أن يواصلوا السباحة في دوامة التمني أو الانتظار عبر التعلق بكلمة هنا أو بإشارة هناك تصدر عن الرئيس دونالد ترامب، كما فعلوا حتى الآن. ولكن هذا لن يكون إلا إمعانا في درب الانتحار السياسي. وللصدق فإن هذا الانتحار بات مطلوبا، وربما بات حاجة سياسية ووطنية بالنسبة لشعب فلسطين وقواه الحية، لأن بقاء هذه القيادات العاجزة على قيد الحياة ( سياسيا )، مراوغة وعنصرية في حالة المعسكر الصهيوني، وعاجزة وفاسدة في حالة سلطة أوسلو، يشكل عقبة كبرى أمام ظهور قوى التغيير والفعل الثوري، ويمعن في قتل روح الخلق والخيال. بل يمثل تهديدا دائما للقوى والأجيال الجديدة التي تحاول طلائعها الأكثر وعيا تحطيم الوعي الزائف الذي أنتجته أوسلو، وبعث وعي جديد بالمهمة الوطنية والتاريخية.

 المشهد العربي الرسمي يصل إلى حد العبثية، في التدمير الذاتي والتخلي عن آخر ذرة من الهيبة والكرامة والبصيرة. ثورات ذبح وأموال تهدر وموارد تبدد على يد المعسكرات العربية والإقليمية المختلفة سواء تلك المعرفة ممانعة أو رجعية، بدعم من القوى الكبرى والإقليمية الباحثة عن مصالحها. ويستكمل الآن هذا النهج التدميري في الاستعداد وبتحريض من الأميركان لفتح حرب فتاكة وشاملة بين هذه المعسكرات، بحجة محاربة الاٍرهاب، وهي معسكرات فقدت مصداقيتها كليا من خلال الطريقة الهمجية والانتهازية التي تعاملت فيها مع غضب الشعوب العربية ومطالبها الشرعية. وتكتمل عبثية المشهد حين يكون الراعي، رئيسا أميركيا أرعن مهددا بفضائح كثيره قد تؤدي إلى الإطاحة به، ويعيد تكريس الدعم المطلق لنظام الأبارتهايد الكولونيالي الإرهابي في خطاب صهيوني ميثولوجي مفتعل ورخيص، زائف ومنافق ألقاه أمام الإسرائيليين.

أما عن تصنيف حركات المقاومة الفلسطينية والعربية ضد العدوان الإسرائيلي، وتصنيفها في خانة الاٍرهاب فحدث ولا حرج. وهذا موقف أميركي تقليدي، ولكن صدوره في خطاب في العاصمة السعودية كان بتشجيع النظام السعودي، الذي سلم ترامب المال والذهب حتى قبل أن يقبض شيئا مقابل ذلك، سوى وعوده بالوقوف ضد النظام في إيران. إن القضية الفلسطينية كانت غائبة، ومغيبة، فهي كانت دائما في ممارسة أغلبية الأنظمة العربية، الملكية والجمهورية، أداة لحماية عروشها. وهذا يضع حركة حماس التي ظنت، أنه بتعديل موقفها من الحل السياسي يتغير الموقف الأميركي منها ويخفف من أزمتها، في خيبة كبيرة.

 لن يكون وضع قيادة السلطة الفلسطينية سهلا إذ أن رئيسها الذي أدمن على سياسة الانتظار، وجعل التنسيق الأمني مقدسا، سيجد نفسه تحت مكبسة ضغط من ترامب لتقديم تنازلات جديدة. فحسب ما يستشف من خطابات ترامب وفريقه المحيط به، فإن ضغطا سيمارس على حكومة نتنياهو وقيادة السلطة، لتقديم تنازلات من أجل الصفقة التي يتحدث عنها، والتي كما يستشف، فإنها ستكون تسوية بين توجهات حزب الليكود وتوجهات المعسكر الصهيوني. ومن يرفض سيقع عليه العقاب الأميركي، او بالأحرى غضب ترامب. وسيجد الفلسطينيون أنفسهم في وضع شبيه عندما أجبر ياسر عرفات إلى الذهاب إلى كامب ديفيد عام 2000. حيث جرى تحميله المسؤولية عن رفض السلام، أي صفقة التصفية. وكانت النتيجه اندلاع انتفاضة عارمة رآها ما يسمى بالمجتمع الدولي خروجا على معاهدة أوسلو. وقد احتاج تفسير أسباب الانتفاضة جهدا هائلا وبعد مرور سنوات طويلة، حتى عاد العالم يتعامل مع القضية الفلسطينية على أنها لا تزال بدون حل، وليس كما ظن عند توقيع أوسلو. وكان هذا الوهم أحد النتائج الكارثية لاتفاق أوسلو، إذ أقدمت كل دول العالم الصديقه للشعب الفلسطيني على إعادة العلاقة الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية معها.

وقد نتج خراب وطني كبير، معنوي وأخلاقي وتربوي واقتصادي وإستراتيجي، تكدس، ولا يزال بعد أوسلو.

وأبرز جوانب هذا الخراب:

أولا، تقويض مكانة وهيبة ودور منظمة التحرير الفلسطينية، التي جمعت كل الفلسطينين في مرحلة التحرر الوطني. ما معناه، التفريط بالأداة الثورية قبل إنجاز التحرر، وحلول مكانها سلطة مرتبط وجودها بالتنسيق الأمني، وليس بشرعية انتخابية ولا بشرعية ثورية؛

 ثانيا، تبديد قيم التحرر الوطني، واستبدالها بمقولة الدولة بدل التحرر، وحق تقرير المصير لكل تجمعات الشعب الفلسطيني. أي أن أوسلو قوض وحدة الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية؛

ثالثا؛ حدوث انقسام، واستمراره، بين فتح وحماس وبين قطاع غزة والضفة الغربية، والذي ألحق ويلحق ضررا هائلا بل كارثيا للنضال الفلسطيني؛

رابعا، ظهور نخبة من الأكاديميين والصحفيين والأدباء، تكرس هذا التبديد، بوعي أو بغير وعي، في إطار التحولات السياسية والأيديولوجية والاجتماعية التي أفرزها أوسلو. أدى كل ذلك إلى تشويش الوعي الوطني الجامع، المتمثل بوحدة الرواية والهوية الفلسطينية، وحلول هويات جزئية، قطاعية وجغرافية، وجهوية، وقبلية. ان أوساطا واسعة من الأجيال الجديده نشأت في ظل حقبة أوسلو، بدون مرجعية وطنية موحدة، أو مجموعة مثل جامعة، أو قائد موحد؛

 خامسا، تحييد الجماهير الشعبية عن الفعل النضالي المباشر في مواجهة الاحتلال حيث حلت البطولات الفردية مكانها؛

سادسا؛ اعتماد الدبلوماسية بديلا وليس مكملا لإستراتيجية كفاحية مواجهة للاستعمار الإسرائيلي، وتحول السلطة إلى حاجز صلب بين الناس والاحتلال. وقد أجهضت السلطة الفلسطينية، وبقرار، أو عملت على إجهاض، كل هبة نضالية لاحت في السنوات العشر السابقة ومنعتها من التوسع إلى أن ماتت او أبقتها في حدودها الدنيا التي يستطيع الاحتلال تحمل تبعاتها. وتشكل طريقة تعامل السلطة مع إضراب الأسرى المستمر منذ حوالي أربعين يوما، جزءا من نهج السلطه الغريب عن تقاليد الحركه الوطنيه الفلسطينيه وكل حركات التحرر في العالم؛

سادسا، تغول المشروع الاستعماري في الضفه والقدس، وخنق قطاع غزه، تحت غطاء "عملية السلام" وفِي ظل غياب نضال حقيقي يجعل الاحتلال مكلفا ومجبرا إياه على التراجع؛

سابعا، تحول دول صديقة تاريخيا للثورة الفلسطينية نحو إسرائيل، وفتح باب التطبيع مع أنظمة عربية إضافية.

 ليس هذا الجانب الوحيد للمشهد

 ليس المشهد العربي والفلسطيني والعالمي الذي يرتسم أمامنا، على قساوته وعبثيته مدعاة للندب واللطم، وإن كان المواطن يحتاج إزاءه إلى قدر كبير من استجماع القوى ليبقى متماسكا. كما أنه ليس الجانب الوحيد من المشهد. نعم وجود السلطة والقوة والثروة وجزء كبير من الإعلام الرسمي بيد القادة والأنظمأ، يمنح الغلبة لقادة الدول والامبراطوريات والممالك ويضع المعارضين، والمناضلين من أجل التحرر والحرية أمام تحديات جمة. ولكن التاريخ أظهر مرات ومرات قوة الشعوب، التي أشعلت الأرض، على مدار التاريخ، تحت أقدام هؤلاء دون توفر كل هذه الأدوات بحوزتها، سوى إرادتها واستعدادها للتضحية.

وقد بات مؤكدا أن صراع الإنسان من أجل الحرية، والعيش بكرامة، هو صراع أبدي. حتى بعد أن يحقق قدرا كبيرا من حقوقه سيواصل المطالبة بحقوق جديدة، أو باسترجاع حقوق أو مكاسب أخذت منه في لحظة تاريخية معينة. وليس بالضرورة أن يخوض المرء نضالا عنيفا وخطيرا في كل مرة. من أهداف الانسان أن يصل إلى مرحلة يمارس حقه في النشاط السياسي من أجل التغيير وتحسين أوضاعه دون أن يقتل أو يجرح أو يسجن ويعذب.

 وندرك أن العالم يمر في حاله من اللايقين، حيث توارت الأيديولوجيات والأحلام الكبرى، وحلت محلها المصالح والشركات المتعددة الجنسيات التي أضعفت الديمقراطية اللبرالية، وظهرت أزمة الرأسمالية مجددا، وعادت الإمبريالية إلى ممارسة العدوان العسكري الإرهابي المباشر على الدول المناهضة لسياساتها، واتسعت الفجوات الاجتماعية والحروب الداخلية وبين الدول، وترسخ الاستبداد.

كل ذلك أنتج مظاهر وأشكال عنف غير مسبوقة تتجلى في توحش الأنظمة، وفي ظهور الاٍرهاب الديني المتطرف. وهذا ترافق مع ظهور اليمين الشعبوي العنصري في العديد من بلدان الغرب، ووصوله إلى الحكم في الولايات المتحدة. وذلك دون أن يظهر ويتبلور البديل القوي والواسع والمنظم حتى الآن، الذي يحمل رؤية إنسانيه وأكثر عدلا للعالم، في صلبها احترام حق الشعوب باستقلالها، وحرية الإنسان، وحقه بالعيش الكريم، في إطار عدالة اجتماعية، تحميه من الفقر ومن المرض، وتؤمن له ولأولاده ولشيخوخته تعليما وعيشا كريما.

في المقابل، هناك رفض ومقاومة من شعوب هذه الدول والإمبراطوريات، ويعبر عن ذلك من خلال منظمات المجتمع المدني، ومن خلال حركات شعبية اجتماعية، وأحزاب يسارية على اختلاف توجهاتها الاشتراكية، وتيار واسع، غير منظم، من المثقفين والأكاديميين، والحركات الطلابية في الجامعات الغربية والأميركية. وكلها تنشط في التصدي لظاهرة اليمين المتطرف، وللرأسمالية المتوحشة التي أنتجت هذا اليمين، وتسعى بنجاح متفاوت، في تشكيل بدائل أكثر إنسانية وديمقراطية، في إطار السعي من أجل نظام عادل في بلادها وفِي العالم.

تيار التحرر والحرية

 يمتلئ الشعب الفلسطيني، أو أوساط واسعة منه، بقدر كبير من مشاعر الخيبة والإحباط، وربما فقدان المعنى إزاء خذلان العالم له، وعجز أنظمة عربية، وفشل بعضها، وتواطؤ وخيانة بعضها الآخر، ومعها نخب تردح لها. ويتصور بعضهم بأننا في حالة سيزيفية، كلما شعرنا أننا اقتربنا من الهدف، تعود الصخرة لتتدحرج من جديد. وتجد الكثيرين قد انغمسوا في ذواتهم، بحثا عن خلاص فردي، بعضهم يلهث لسد القروض والأقساط بعد إخضاعهم لنظام استهلاكي يقوم على الاستدانة، والبعض الآخر ليس لديه القدرة على الاستهلاك، فيعيش يوما بيومه. وباتت "خلينا نعيش" مسلكا بديلا عن المعنى، معنى النضال من أجل التحرر. أما القلة القليلة فهي في دائرة السلطة، والتي تسندها وتساهم في وجودها، وذلك دون تنمية شعبيه تقوم على الاعتماد على الذات وتعيد إنتاج المجتمع.

 الغالبية من شعبنا فقدت ثقتها بقياداتها، وبسلطتيها. وعجزت الفصائل غير المشاركة في السلطة عن توفير البديل والمثال الأعلى، سواء في الأداء أو في المشروع الذي يمكن أن يكون جاذبا ومحركا للجماهير العريضة، وهو عجز فكري.

ومع ذلك، ورغم سوداوية المشهد، يتجرأ أسرى الحرية، على الإقدام على خطوة جبارة تتمثل في خوض إضراب عن الطعام، ويستطيع الأسرى إعادة قضيتهم إلى الواجهة، وإن كان التفاعل ما زال غير كاف. ويحصل هذا التفاعل، وإن كان غير كاف، لكون الإضراب جاء من خارج المؤسسات الرسمية، ولكون قضية الأسرى قضية إنسانية ووطنية ولها وقع قوي في وجدان الناس. وهذه من نقاط قوة الشعب الفلسطيني، ومن الدلائل على أن هذا الشعب، رغم كل الإخفاقات، سيواصل الثورة من أجل حريته.

ولذلك، وفِي ظل كل ذلك، وانطلاقا من عدم التسليم بالأمر الواقع وضرورة مواجهة الإحباط والياس، فإن هناك، باعتقادي، خيارات بديلة أو إضافية تسطيع تجميع كل أوراق القوة الفاعلة أو الكامنة في شعبنا. وكما يعرف ويتابع العديد من النشطاء والأكاديميين، وبعضهم منخرط مباشرة في هذا الجهد، أنه يجري منذ سنوات، خارج البنى الفوقية والتقليدية، تذويت الحاجة إلى إعادة تسمية وتعريف المشروع الوطني الفلسطيني، والذي يعني الارتكاز مجددا على التاريخ والثقافة والرواية الفلسطينية، أي تفعيل الحقل الثقافي في الصمود وتحصين الأجيال الشابة. وليس الجهد مقتصرا على الحقل الثقافي إذ هناك مبادرات هامة ومؤثرة عديدة جارية وتصب في نفس الاتجاه مثل حركة المقاطعة، لجان العودة ( داخل فلسطين وخارجها )، لجان مقاومة الجدار والنشاطات الشبابية والوطنية داخل منطقة 48، ومجموعات الدولة الواحدة التي تعمل في الداخل والخارج.

من هذه الخيارات المطروحة، السعي إلى بناء علاقة تنسيق وتشبيك منهجية بين مختلف المؤسسات، والهيئات، واللجان الشعبية، والدوائر الأكاديمية، والأوساط الشبابية، التي يشتغل معظمها كل بمفرده، وقد نطلق على هذه المبادرة: تيار التحرر والحرية، وهو في رأيي معبر على المستوى الوطني التحرري، وعلى المستوى التحرري الفردي الإنساني الديمقراطي. هو ليس حركه وليس حزبا. بل تيار شعبي قد يتطور، إذا ما أخذ بالفكرة، كتيار شامل، أو كتيار مركزي على المشهد الفلسطيني. وأن ينضوي تحت سقفه ممثلون من كل تجمعات الشعب الفلسطيني. ومن أهدافه:

الأول، الترويج والتثقيف على تعريف المشروع الوطني الفلسطيني، باعتباره مشروعا تحرريا لشعب يخضع لنظام أبارتهايد كولونيالي؛

 والثاني، مواصلة تنظيم نشاطات شعبية مشتركة، ومنسقة، في كافة أماكن تواجد الشعب الفلسطيني، في الضفة والقطاع والقدس، في منطقة الـ48، وفِي مخيمات اللجوء، وفِي دول العالم؛

الثالث، مواصلة تنظيم وتوسيع النشاطات الثقافية والأدبية والبحثية التي تصب في خلق وعي وطني وديمقراطي بديل عن الوعي الزائف الذي أنتجته مدرسة أوسلو. واعتماد اللقاءات المشتركه وتكثيفها أينما أمكن، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي بمنهجية؛

الرابع، وهو ينبغي أن يأخذ اهتماما منهجيا، سواء على المستوى الفكري والسياسي أو على المستوى التنظيمي. ألا وهو إعادة بناء علاقة مباشرة مع تيار التحرر العالمي، والسعي إلى الارتباط مع حركاته ومجموعته المختلفة، كونه تيارا غير منظم في إطار منظمة أممية، وأن نتصرف في إطاره ليس كأصحاب قضية قضية وطنية وعادلة فحسب، بل باعتبار أن العدالة تهمنا أيضا في كل مكان في العالم. وأننا ضد الظلم الرأسمالي المتوحش، وضد الدكتاتورية والاستبداد، وضد الاعتداء على أي شعب كان.

وهذا يتطلب منا، كشعب وكحركات سياسية ومثقفين، نخضع لنظام صهيوني استعماري مستبد، أن نكون منسجمين مع القيم الكونية، كالعدالة والديمقراطية وحرية الإنسان وكرامته، ومناهضة التمييز العنصري. وهذا ما يؤهلنا أخلاقيا ويعزز مصداقية نضالنا، ويستقطب المزيد من المؤيدين. 

التعليقات