03/06/2017 - 14:34

هل يهز جيرمي كوربين الشباك؟

بخصوص إسرائيل، فهو ضد مشروعها الاحتلالي والاستعماري، وصديق صدوق للشعب الفلسطيني، ومساند بدون تحفظ لحق الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال، وهو ناشط قديم في لجنة التضامن البريطانية مع فلسطين منذ شبابه

هل يهز جيرمي كوربين الشباك؟

ماذا يعني لفلسطين أن يصل يساري راديكالي إلى رأس الدولة البريطانية؟

 

'بفوز كاسح من الجولة الأولى، يسحق هذا الاشتراكي المناهض للحرب المعارضة، موجها ضربة إلى تيار توني بلير. للمرة الأولى منذ عقود تعود الاشتراكية إلى الأجندة، وللمرة الأولى تحدد (أي الاشتراكية) قيادة هذا الحزب'.

هذا كلام للصحفي والكاتب البريطاني ريتشارد سيمور، طبع على الغلاف الأخير من كتاب (220 صفحة) أصدره أوائل عام 2016 بعد أشهر قليلة من الفوز المفاجئ للنائب في حزب العمال البريطاني، جيرمي كوربين، بقياده حزب العمل الذي فاجأ البريطانيين وأبهج اليسار، وصدم اليمين ورأس المال وإعلامه المدعوم من الشركات الكبرى. ويشرح الكاتب، بعيداً عن الشعبوية والتسطيح وبأسلوب سلس، وبتحليل عقلاني، تطور السياسات داخل حزب العمال البريطاني منذ عقود، ومراحل انحدار الحزب من سياسات الاشتراكية الديمقراطية إلى السياسيات النيولبرالية، مرورا 'بالطريق الثالث' الذي قاده توني بلير وصولا إلى الانقلاب اليساري، على يد كوربين عام 2015.

وعنوان الكتاب ' Corbyn: The strange rebirth of radical politics ' وأترجمه بتصرف: 'كوربين: العودة الغريبه للسياسات الراديكالية'. وقد وقعت عليه عيناي بالصدفة، وانا أتجول داخل المكتبة الشهيرة في لندن London Books Review، في ربيع العام الماضي، وبعد ساعات من لقائي مع جيرمي كوربين لتهنئته بالفوز، متمنياً له الفوز برئاسة الحكومة. وكان هذا اللقاء الثاني معه، إذ كان قد نظم لي محاضرة في مجلس العموم البريطاني عن طبيعة نظام الأبارتهايد الكولونيالي الإسرائيلي، عام 2008، وأدارها هو بنفسه.

وقد أثارتني فكرة أن يصدر كتاب بهذه السرعة عن مفاجأة فوز كوربين، مما يدل على استثنائية الحدث في الحياة السياسية البريطانية. وأظن اليوم أن هذا الكاتب اليساري، وهو ليس عضوا في حزب العمال، يعيش اليوم مفاجأه أخرى من هذا التحول السريع، والمتواصل في الرأي العام لصالح كوربين. ذلك لأنه في الكتاب لا يحلل فقط كيفية فوز كوربين بقياده حزب العمال البريطاني، وهزيمة جماعة توني بلير، بل أيضا يشرح الصعاب الكبيرة أمام احتمال فوزه في الانتخابات لرئاسة الحكومة، التي كان من المفروض أن تجري في عام 2018، قبل أن تعلن تيريزا ماي Theresa May، رئيسة حكومة بريطانيا، وزعيمة حزب المحافظين عن انتخابات مبكرة في الثامن عشر من شهر نيسان الماضي.

ويكتب سيمور في الكتاب: 'صحيح أن تراجع الديمقراطية البريطانية، وتراجع هيمنة نظام الثنائية الحزبية (حزب عمال + محافظين) يخلق فرصا وإمكانيات لم تكن موجودة، ولكن أيضا وفي ظل تراجع حجم ونشاط الحركة النقابية وانحسار عضوية اليسار المنظم، وتشوش الأفكار اليسارية، فإن إستعادة ذلك كله لن يتم على شكل اختراق، بل يحتاج إلى جيل كامل من العمل المضني، من أجل استعاده يسار حقيقي وقوي ومؤثر وقابل للحياة، وحركة نقابية قوية قادرة، على الأقل، على لجم نفوذ رأس المال'.

قبل فوز كوربين بقياده حزب العمال عام 2015، قالت جماعة توني بلير، التي كانت لا تزال تسيطر على مؤسسة الحزب، ومعها الإعلام المكتوب والمرئي المدعوم من الإعلام، إنه ليس هناك أدنى فرصه أمام كوربين بالفوز. وشنت وسائل الإعلام هذه حملة تشويه غير مسبوقة ضد الشخص، وبل سخرت منه. وكان تجند بلير بنفسه لمنع ذلك. ويستذكر الصحفي سيمون دهشة وصدمة رئيس الحكومة البريطانية السابق (بلير) الذي قال 'هل يعقل هذا! جيرمي كوربين في بريطانيا، وبيرني ساندرز في الولايات المتحده الأميركية.. أنا لست متأكدا أني أفهم السياسة اليوم'. والمقارنة مع ساندرز تأتي على خلفية التقدم الذي كان يحرزه في حملته الانتخابية ضد منافسته داخل الحزب هيلاري كلنتون، ممثلة المجمع العسكري والمالي في أميركا.

وكان بلير قد حذر قيادة حزبه دون جدوى قائلا: 'اذا كان قلبكم مع جيرمي، عليكم أن تزرعوا قلبا جديدا – If your heart is with Jeremy، get a transplant'

وقد تتوج فوز كوربين بقيادة حزب العمل بفضل قواعد الحزب الشعبية، والتي تحدت معظم قيادات الحزب، بما فيها أغلبية أعضاء البرلمان الممثلين لحزب العمل، التي تناهضه وتحاربه بشراسة. وقد كان للجيل الشاب حصة الأسد في التصويت لكوربين. ويقدر الآن أن حوالي نصف مليون عضو جديد انضموا إلى حزب العمل دعما لهذا اليساري ذي المصداقية العالية في أوساط واسعة من العمال والفقراء والشباب.

المفاجأة الثانية الصادمة لليمين البريطاني وأبواقه

في الثامن عشر من نيسان هذا العام أعلنت تيريزا ماي، رئيسة حكومة بريطانيا، والتي كانت حلت محل ديفد كاميرون الذي استقال بعد تصويت الشعب البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي صيف عام 2016، عن انتخابات مبكرة لرئاسة حكومة بريطانيا بدل عام 2018، وكانت هي ومستشاروها يظنون أن الفرصة مواتية لإجراء انتخابات تؤدي إلى تحقيق فوز كاسح وتوجيه ضربة قاصمة لكوربين ولما يمثله من برامج وقيم، وتعزيز شرعية قيادتها لأنها لم تأت بفضل انتخابات، وإنما كنتيجة لاستقالة الزعيم السابق لحزب المحافظين إذ كانت الفجوة في الاستطلاعات بين الاثنين كبيره جدا آنذاك، 26 نقطة لصالحها. وبالرغم من انهيار توقعات ورغبات الإعلام المكتوب والمرئي في مرحلة الانتخابات التمهيدية في حزب العمال، وحملة التشويه الشديدة التي طالت كوربين، واصلت نفس وسائل الإعلام الحملة بعد فوزه في محاولة لنسف مصداقيته، معتبرة أنه غير قابل للانتخاب وغير صالح لرئاسة الحكومة.

ولكن هذا الإعلام فوجئ مره أخرى، في الأسابيع الأخيرة، بتصاعد شعبية كوربين، وتدفق المزيد من المؤيدين إلى اجتماعاته الشعبية مؤخرا، أي بعد الإعلان عن تقديم موعد الانتخابات مما فرض الأمر نفسه على وسائل الإعلام التي بدأت تعيد النظر، ويضطر الكثير منها إلى التعامل مع الحقائق حتى لو كانت لا تروق لهم.

وكتب مؤخرا محايدون في صحيفتي الغارديان، المنحازه ضده، والانديبندنت أن كوربين أثبت أنه قابل للانتخاب (Electable) وأنه داعية مؤثر Effective campaigner وتدعيماً لهذا التغير في لهجه وسائل الإعلام، رأى مراسل ال CNN، الموفد إلى بريطانيا لمتابعة وتغطية الحملة الانتخابية، أنه لا يستبعد مفاجأة. فالفجوة بين الاثنين ضاقت بصورة كبيرة من 26 نقطة إلى 3 نقاط، وهذا يحصل قبل موعد الانتخابات بستة أيام فقط.

لماذا كل هذا الذعر من احتمال فوز كوربين؟

كوربين، هو يساري اشتراكي راديكالي يطرح العدالة الاجتماعية، وينحاز للعمال والفقراء واللاجئين والمهاجرين، وينادي بتأميم، أو إعاده تأميم سكك الحديد، وتعليم مجاني في المعاهد العليا، والإنفاق على نظام الصحة، والحد من نفوذ رأس المال، عبر رفع الضرائب على الأغنياء وتخفيضها عن الفقراء.

أصيبت إسرائيل بالذعر، وشن اللوبي الصهيوني في بريطانيا حملة دنيئة على كوربين بعد فوزه بقيادة حزب العمال متهما إياه بأنه معادٍ وأن حزبه مليء بالمعادين للسامية، مع أن هذه التهم لم تكن توجه إلى الحزب حين كان توني بلير رئيسا له ورئيسا لبريطانيا. لقد وقف جيرمي كوربين ضد حروب بريطانيا، العدوانية الخارجية، وضد حروب أميركا الاستعمارية، وربط العنف في الشرق الأوسط بهذه الحروب، كما كان مناهضا شديدا ضد الحرب الاستعمارية التدميرية على العراق عام 2003، وقاد أضخم مظاهرة ضدها. أما بخصوص إسرائيل، فهو ضد مشروعها الاحتلالي والاستعماري، وصديق صدوق للشعب الفلسطيني، ومساند بدون تحفظ لحق الشعب الفلسطيني في التحرر والاستقلال، وهو ناشط قديم في لجنة التضامن البريطانية مع فلسطين منذ شبابه.

أهمية ظاهرة كوربين

من الطبيعي أن يميل المرء إلى الحذر أو عدم المغالاة في التفاؤل من احتمالات فوز جيرمي كوربين، وأيضا، من قدرته هو وتياره على التغيير في سياسة حزبه وفِي سياسة بريطانيا التقليدية بعد فوزه الذي لم يعد يستبعده المراقبون، وإن كان التفوق في النقاط لا يزال لصالح حزب المحافظين حتى اللحظة وإن بنسبة ضئيلة. ويعود هذا الحذر في التفاؤل إلى النكسة، أو الهزيمة التي لحقت في اليسار اللاتيني، وخاصة في البرازيل، وفنزويلا والأرجنتين، والصعوبات الكبيرة التي يواجهها اليسار حاليا في عدد آخر في أميركا اللاتينية. وكان هذا اليسار قد فاجأ العالم، وقوى اليسار المنهكة والمشتتة، وبعد سنوات قليلة فقط من صدمة انهيار الاتحاد السوفييتي، في زحفه واستلامه السلطة بالانتخابات الديمقراطية. وكان لافتا أن يحقق هذا اليسار في القارة الأميركية الجنوبية التي خضعت لنهب الشركات الإمبريالية ولهيمنة الإمبريالية الأميركية على حكومات هذه الدول، وذلك ابتداءً من أواسط التسعينيات. وهناك أسباب كثيرة لهذا الفشل، منها أسباب داخلية، مثل اعتماده على قادة يساريين شعبويين وإن أظهر هؤلاء صدقا وشجاعة وإقداما واستحقوا الإعجاب والتقدير، إلا أنهم وقعوا في أخطاء تكتيكية وإستراتيجية، في التصورات وفي الممارسة. طبعا هذا مضاف إلى التدخلات الإمبريالية الخارجية التي لم تتوقف.

كما أن من أسباب الحذر الأخرى الذي نبديه هو تجربة اليونان اليسارية المعبر عنها في حزب سيريزا اليساري، بزعامه أليكسيس تسيبراس. وهو حزب نهض وتوسع وانتصر في الانتخابات، على خلفية الأزمة الاقتصادية الحادة التي عصفت باليونان في العقد الأخير، و بدأ متمردا على المنظمات المالية الدولية والأوروبية لينتهي بالخضوع لشروطها، وباستقالة أحد أبرز قادته الذي شغل منصب وزير المالية، يانس وروفسكي، ليتحول إلى قيادي مركزي في تيار يساري أوروبي، DiEM25، يهدف إلى إصلاح النظام الاجتماعي والاقتصادي الأوروبي، بحلول عام 2025 ليصبح أكثر عدالة.على أية حال ربما من السابق لأوانه الحكم النهائي على تجربة سيريزا.

إن فوز كوربين سيكون له أثر كبير ونقطة تحول كبيرة في أكثر من مجال. وعدم فوزه لن يعني خسارة مطلقة في رأيي، خاصة وإن فازت غريمته ماي فإن فوزها لن يكون ساحقا، وسيكون عليها صعبا تشكيل حكومة بدون الائتلاف مع آخرين، وربما لن تتمكن من ذلك أصلا. ولكن على المدى الإستراتيجي، فإن كوربين يكون قد أحدث تغييرا هاما في الثقافة السياسية، وأعاد الأفكار الاشتراكية، أفكار العدالة الاجتماعية، ومناهضة العنصرية والحروب الاستعمارية، وهيأ أعداداً كبيرة من الشباب البريطاني في إطار هذه الثقافة السياسية الاجتماعية التقدمية والإنسانية.

إن تأثيره يشبه تأثير حملة بيرني ساندرز، وإن كان الأخير أقل راديكالية إذ يتبنى الاشتراكية الديمقراطية، وهناك المزيد من الشباب في أميركا باتوا يعرفون أنفسهم اشتراكيين ديمقراطيين، وهذا أمر هام في بلد رأسمالي متوحش مثل الولايات المتحده الأميريكية.

سياسيا، إن فوز كوربين يعني التحرر من التذيل والتبعية التاريخية للإمبريالية الأميركية ،ومن حروبها وتحالفها المطلق مع إسرائيل والصهيونية. لقد وصف توني بلير، الذي تطالب أوساط حقوقية وسياسية بمحاكمته كمجرم حرب، بكلب أميركا خاصة بعد أن إنجر وراء إدارة جورج بوش في شن حرب إمبريالية على العراق، عام 1991 وعام 2003. وهذا البلد الذي لا يزال يعيش النتائج التدميرية لهذا العدوان الوحشي.

ومن ناحية العلاقة مع إسرائيل، فإن الأمر سيكون مختلفا، وسيكون لصالح قضية فلسطين العادلة، وبذلك تصبح أميركا بدون حليفها الأوروبي الأكثر ارتباطا بها ودعما لنظام الاستعمار الصهيوني في فلسطين.

أما على الصعيد الداخلي، والاجتماعي والثقافي والأخلاقي، فإن نجاح حزب العمال، بقيادة يسارية اشتراكية ومناهضة للإمبريالية، يساهم مساهمة نوعية في جهود ونضالات قوى اجتماعية وديمقراطية، مدنية وشعبية وشبه رسمية، لإصلاح النظام العالمي، نحو أكثر عدالة وأقل عدوانية، ضد البشر وضد الحجر، وضد البيئة. وفِي هذا الظرف العالمي الذي يتميز باللا يقين، وتتفاقم الحروب والظلم، والاستغلال، وتتصاعد قوة اليمين الشعبوي العنصري ووصوله إلى سدة الحكم في أميركا وتتزايد قوته في أماكن أخرى، كل ذلك يظهر الحاجة إلى بديل إنساني يقوده أحرار العالم في رحلة الكفاح الإنساني الطويلة من أجل الحرية.

نحن كفلسطينيين، وأصحاب قضية عادلة، وباعتبارنا أحد أبرز ضحايا الرأسمالية العالمية التي قادت إلى الاستعمار والاعتداء على الشعوب لتغذية عجلة إنتاجها، وضحية الاستبداد والطغيان، لا بد أن نسعد بهذا التغيير، وأن نعيد ارتباطنا بالقوى العالمية المناهضة للظلم الاجتماعي والاقتصادي والحروب، وذلك من خلال إعادة تحديد قيم اليسار الأصيلة، حيث الإنسان وحريته وكرامته وأمنه المعيشي في المركز. وأن تكون المساواه بين شعوب الكرة الأرضية قيمة مقدسة.

التعليقات