19/07/2017 - 15:23

"عملية" القدس، ما بين القراءة الطائفية والممارسة السياسية

نتفق، تعالوا نختلف أولا: ما قام به الشبان الفحماويون الثلاثة في القدس لا يندرج تحت تعريف "عملية" بالمفهوم الذي نعرفه، ولا يمكن أن يندرج، وذلك لأسباب عديدة، أبرزها: لم يكن ثمة تنظيم خطط لهذا العمل وقاده، حتى التنفيذ.

سليم سلامة

كي نتفق، تعالوا نختلف أولا: ما قام به الشبان الفحماويون الثلاثة في القدس لا يندرج تحت تعريف "عملية" بالمفهوم الذي نعرفه، ولا يمكن أن يندرج، وذلك لأسباب عديدة، أبرزها: لم يكن ثمة تنظيم خطط لهذا العمل وقاده، حتى التنفيذ. لم تكن ثمة "خلفية إيديولوجية" وراء هذا العمل، باعتراف السلطات الإسرائيلية المسؤولة مباشرة، السياسية والأمنية. وثمة تساؤلات كثيرة، نشرت أغلبيتها في وسائل الإعلام المختلفة، حول تفاصيل العمل وخلفيات منفذيه، تعامل قوات الأمن الإسرائيلية معهم منذ لحظة وصولهم إلى المكان وحتى قتلهم.

وعلى هذا، فإن كل الحديث الذي دار حتى الآن، كله، سواء كان في تأييد "عملية المقاومة" هذه وتمجيدها أو في استنكار هذه "العملية الإرهابية" والتنديد بها، هو حديث محكوم بمنطق الخطأ والمغالطة.

الشرطيان اللذان قُتلا في القدس، من المغار وحرفيش، تعرضا لإطلاق النار (ثمة تساؤلات جدية على مصدر النيران!) بينما كانا يرتديان البزة العسكرية ويقومان بـ"مهمات" قوات الأمن الاحتلالية في مدينة القدس، وليس بسبب انتمائهما الطائفي أو على خلفيته.

مثل هذه الأعمال الفردية، بصرف النظر عن دوافعها وهوية منفذيها، مرفوضة ولو من باب ضررها الجسيم علينا جميعا، فقط! ولكن، في المقابل، ليس ثمة ما يبرر انجرافنا القطيعيّ المتكرر، أفرادا وأحزابا وهيئات، خلف الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تسعى، دائما ومنذ قيام هذه الدولة، إلى تأكيد منظورها إلينا وتبرير تعاملها معنا باعتبارنا "مشكلة أمنية"، من خلال استغلال أي عمل فردي يصدر عن عربي في هذه البلاد، ولو كان أقل بكثير مما حدث في القدس أخيرا.

ثمة درس جوهري ينبغي علينا تعلّمه مما حصل في القدس أخيرا، وكذلك من أعمال مماثلة حصلت قبله ومن أخرى قد تحصل لاحقا، دون توفر أية وسيلة لمنعها أو تجنبها، على خلفية تضافر عدد من العوامل التي تدفع بكثيرين نحو هاوية الإحباط والشعور بالعجز التام وفقدان أي بصيص من الأمل: تفاقم الأزمات المختلفة التي يعيشها العرب في هذه البلاد، في شتى مناحي الحياة، بما يُثبت عقم "الآليات والوسائل النضالية" المتبعة وفقدانها مقومات النجاعة والمصداقية والقدرة على التأثير والتغيير؛ استمرار الاحتلال وجرائمه المختلفة بما يعمق أزمات الواقع المعاش في المناطق الفلسطينية وغياب أي أفق لأي حل سياسي؛ إلى جانب استشراء الخطاب الطائفي التعصبي. وهي عوامل نرى نتائجها ومفاعيلها ليس فقط في مستوى العلاقة مع دولة إسرائيل وأجهزتها، بل في مستوى العلاقات الداخلية في مجتمعنا أيضا، بما فيها استفحال العنف. 

كل مَن أخذ موضوع ما حدث في القدس أخيرا إلى منطقة الخطاب الطائفي ومنطقه، وكل مَن شارك في ترديد هذا الخطاب وترويجه، سواء بالدفاع عن المنفّذين ومنطلقهم مقابل مهاجمة الآخرين، أو بشتم هؤلاء واللجوء إلى "تأكيد عروبة الدروز" والدعوة إلى "وحدة الشعب"، عليه أن يتوقف ويراجع نفسه ليفحص مدى طائفيته هو (الخفية، ربما!)، أو انتهازيته أو كسله الفكري الذي يترك للآخرين مهمة التفكير وطرح الموقف والرأي ليأتي هو ويردده، ببغاويا فقط!

أي حديث من هذا القبيل هو، في المحصلة، حديث طائفي يجافي القراءة السياسية الضرورية والصحيحة ويصبّ، في نهاية المطاف، في تعميق الشروخات الطائفية، القائمة أصلا، وفي إذكاء جمرة فتنتها، المتضرمة باستمرار، بدل أن يحاول التجسير والإطفاء. 

ولهذا، فإن مجرد طرح فكرة/ اقتراح "تنظيم وفد للتعزية" في المغار وحرفيشـ كما فعلت "ميرتس"!ـ على جدول أعمال "القائمة المشتركة" و"لجنة المتابعة العليا" بذريعة "الحفاظ على وحدة شعبنا"، كما حصل الليلة الماضية، هو وقوع في المحظور الخطير، إن لم يكن سقوطا طوعيا في حبائل "اللعبة" الطائفية من جهة، وفي إسار السياسة الإسرائيلية الرسمية من جهة أخرى. ويبدو الأمر، كما طُرح ونوقش وبما خلص إليه من تلخيص (في "المشتركة" وفي "المتابعة")، بمثابة شرعنة لمواقف وتوجهات سياسية تنسجم وتتساوق مع السياسات الإسرائيلية من جانب، ومع سياسات "سلطة أوسلو" ورئيسها من جانب آخر (هل جاء طرح الفكرة ومناقشتها بطلب منه، تحديدا؟؟).  

يعرف الجميع أن الحديث عن "وحدة شعبنا" هو حديث كاذب وتضليليّ! لأن المطلوب هو "وحدة شعبنا الوطنية"، على أسس المبادئ والثوابت الوطنية، وليس "أية وحدة" مجردة! لو كان الشابان قد قتلا في المغار وحرفيش، لكان الموقف مختلفا والقول مغايرا بطبيعة الحال، لكنّ حقيقة وجودهما في صفوف قوات الأمن والاحتلال الإسرائيلية تُخرجهماـ كما تُخرج جميع الآخرين أمثالهما من جميع الطوائف!ـ من دائرة "وحدة الشعب" (الوطنية)!... لا يمكن أن تكون رافعا لشعار "ضد الخدمة العسكرية والأمنية" وداعما له من جهة، ومُتحمسا لتقديم "واجب العزاء" بمن يسقط خلال تأدية هذه الخدمة من جهة أخرى! هذان موقفان ليس فقط أنهما لا ينسجمان ولا يستويان، بل يتناقضان تناقضا فظا وصارخا ويشكلان، معا، طعنة نجلاء في ظهور أبناء الطائفة المعروفية الرافضين لتأدية هذه الخدمة ويدفعون ثمن رفضهم هذا، مما قد يشكل رسالة خطيرة إليهم بعدم جدوى رفضهم وعبثية الأثمان الشخصية التي دفعوها ويدفعونها، ثم ضرورة استبدال شعار معركتهم "أرفض، شعبك بيحميك" بشعار آخر يقول: "إخدِم، قياداتك (وأحزابك) بتهنّيك/ بتعزّيك"؟؟؟

"الحرب الطائفية"، "معارضة الاحتلال" و"المسؤولية"!

تناقشت، منذ بُعَيد انتهاء "مشاروات" المتابعة والمشتركة "الطارئة والمستعجلة" (ليلة الإثنينـ الثلاثاء) وحتى صباح الأربعاء، مع عدد غير قليل من الذين شاركوا في تلك "المشاورات"، ومن الضالعين، بل المتورطين، في قرار تسيير "وفد التعزية" والمشاركة فيه. 

سمعتُ من الضالعين والمتورطين كلاما كثيرا وكبيرا عن "سلامة شعبنا" و"وحدة شعبنا"، رأيتُ تلوّيا كبيرا وسمعتُ حرجا عميقا في مناقشة وردّ الادعاء بأنّ "تقديم التعزية" هنا هو شرعنة للاحتلال وللخدمة في قواته الأمنية، على اختلافها، وليس مجرد "واجب اجتماعي وإنساني"، كما حاول البعض تصويره وتبريره بالقول إن "التعزية للأحياء، لا للأموات"!! 

سمعتُ من بعضهم كلاما مدوّرا، زئبقيا، عن "الفتنة الطائفية" وضرورة درئها، بل مسؤولية "القيادة" وامتحانها في وأدها!

وسمعتُ أشياء أخرى، منها ما هو قيّم (سآتي على بعضه لاحقا) ومنها ما هو تبريريّ ذرائعيّ لا قيمة له ولا وزن. 

لكنني لم أسمع من أي منهم ما ذهب إليه أحد البروفيسوريين الذي يمتهن في الفترة الأخيرة صنعة الدفاع الشمولي الكاسح عن "القيادات" وتلميع كل ما يصدر عنها من قرارات وخطوات وتصريحات. فهو يكتب، في معرض تبريره الخطوة الأخيرة، أننا "نقف على فوهة بركان طائفي" وإننا "نتحدث عن سياق حرب طائفية ورمي قنابل على المسجد"!! ثم يسارع إلى اتهام كل من لا يقتنع بهذا التهويل/ التهويش الطائفي بأنه "أعمى"!

لا شكّ في أننا نعيش حالة خطيرة من الاحتقان والتعصب الطائفيين، لكنّ الحقيقة، التي يراها حتى الأعمى، هي أن هذه الحالة لم تنشأ اليوم ولم تتفاقم اليوم، ولو حصل رمي قنبلة على مسجد!! هي حالة قائمة منذ زمن طويل، لها أسبابها وخلفياتها ودوافعها، لكنها ليست مستجدة على الإطلاق وليست نتيجة لما حصل في القدس، على الإطلاق! وأي ربط بينها وبين ما حصل هناك هو مجرد تبرير انتهازي، لا أكثر!

والأعمى الحقيقي هو من لا يُلاحظ ويتجاهل أن حملة التهويل/ التهويش، بل محاولات التهديد والترهيب، صدرت عن أشخاص آخرين، عرب، يتسكعون في ردهات مؤسسات و"معاهد" إسرائيلية ("يسارية")! علاوة على "قيادات" تمارس دور العصابة على شعبها في الضفة الغربية وقطاع غزة! 

خلاصة هذه الحملة من التهويل والتهويش، التهديد والترهيب، هي: إذا لم يتم استرضاء "الطائفة الدرزية"، التملق والتزلف لها، فقد تندلع "حرب طائفية" يشنها الدروز على المسلمين، على ما قد يتطور فيها من ردات فعل!

أما نتاجها فهو اتخاذها ذريعة، مبررا وغطاء لقرار وخطوة عملية تشكلان ـ في النتائج والدلالات العميقة وذات الأثر البعيد ـ سقوطا سياسيا واجتماعيا مُدوّيا في هاوية الخروج عن الفكر والمسلك الوطنيين على مستويين: مستوى شرعنة الخدمة في قوات الاحتلال، بما يعني شرعنة الاحتلال ذاته، ومستوى تكريس التنافر الطائفي وشرعنة الشروخات الطائفية وتغذيتها. وأي كلام آخر عن "المسؤولية" في "معارضة الاحتلال" و"محاصرة الفتنة الطائفية" لا يعدو كونه، في تحصيل الحاصل، سوى كلام حق يغطي على باطل.

التعليقات