14/08/2017 - 16:59

جهاز تفكيك المشتركة

حظي تأسيس القائمة المشتركة باحتفالية شعبية واسعة، وانعقد إجماع لافت في أوساط النخب السياسية والمجتمعية حول أهميتها توقيتا وأهدافا وآمالا وفعالية، حيث قيل الكثير عن دورها المأمول لدرجة لم يغادر النشطاء من متردمها شيئا

جهاز تفكيك المشتركة

حظي تأسيس القائمة المشتركة باحتفالية شعبية واسعة، وانعقد إجماع لافت في أوساط النخب السياسية والمجتمعية حول أهميتها توقيتا وأهدافا وآمالا وفعالية، حيث قيل الكثير عن دورها المأمول لدرجة لم يغادر النشطاء من متردمها شيئا. في معمعان نشوة التأسيس تلك، لم يلتفت حكماء الأحزاب ومثقفوها للانعكاسات الممكنة على واقع وبنية أحزابهم، ولهذا لم تجر أية محاولة لفهم التحولات البنيوية العميقة التي تستبطنها هذه الخطوة على طبيعة العمل الحزبي التقليدي ورموزه، وضلوعها في انزياح مركز الثقل القيادي، وكذلك ما قد تحمله من تغييرات مستوجبة على البنية البشرية للأحزاب وأدائها التنظيمي والسياسي، وهي أصلا لو تم أخذها بالحسبان، لتمكنت الأحزاب من توقع وفهم واستباق مفاعيلها التفكيكية المحتملة، والتي بتنا نشاهد موجاتها الارتدادية متمثلة بمظاهر العدائية العدمية والعلنية لبعض قيادات وكوادر الأحزاب نفسها لمجرد قيام المشتركة، ومحاولاتهم المتواصلة لتسخيفها وإفشالها وصولا لتفكيكها، وربما تكون أزمة التناوب الحالية وما يرافقها من لغط اعلامي مقصود وتصعيد غير منضبط أفضل تعبير عما أسلفت... وهذا ما سأحاول طرح عناوينه هنا في عجالة.

في اللحظة التي أعلن فيها عن إقامة المشتركة، فذاك عمليا حمل بطياته إعلانا رديفا لانطلاق حراك مواز ينطوي على قدرة كامنة لإحداث انقلاب جذري في حياة العمل الحزبي، وولادة نمط جديد وتغيير كامل في تقاليده المتوارثة، بحيث يكون الجهاز الحزبي ومتفرغوه المتنفذون أول ضحاياه، وبالتالي آخر المعنيين بنجاحه، خاصة وأن الوضع الناشئ سيجردهم من امتيازاتهم وسلاحهم، ويزجهم في بيئة رتيبة تخلو من عناصر التصادم والتنافس، وستدفع باتجاه تراجع مؤكد في منسوب الفئوية العمياء.

عندما نتحدث عن أي جهاز حزبي وتشكيلة متفرغيه (ولا أقصد هنا الأحزاب المستوهمة)، فإن المشهد الإجمالي يشمل أيضا دوائر من التابعين والمهللين والمبشرين بجنة عرضها التوظيف وسقفها الكنيست، فيما تتركز مهمتها بالتلميع والشرعنة والحراسة في إطار سلسلة غذائية شديدة التناغم والفعالية.

لا شك أن التنافس الانتخابي والمنفلت غالبا بصولاته الفكرية والسياسية والشخصانية قد أذكى لهيب العصبية الحزبية وأطلق العنان لجموحها، وهي بدورها (أي العصبية) شكلت وقودا عالي الجودة وصمغ لحمتها الرفاقية، بل وفرضت على الجميع كنس وإخفاء أوساخ البيت الحزبي الداخلية تحت بساط وحدة القبيلة وشرفها، وأبقتها حبيسة عتمة سيوفها المشرعة بوجه الخصوم، مثلما فرضت حظرا لتجوال الرأي النقيض في دوائر محازببها وصحافتها، الأمر الذي أسهم على نحو مأساوي، إلى تشكل معازل سياسية بكل معنى الكلمة، وتعليب وقولبة عقول أبنائها المتمترسين في تحصينات خطوط التماس.

منعا للتعميم والخلط، لا بد لنا أن نستذكر الفروقات النوعية في الخصائص الأساسية التي طرأت على جيل الكوادر الحزبية الراهنة، والتي ظهر معظمها في حقبة الراحة والترف النضالي، وحيث استمد بعضهم مصداقيته ونفوذه عبر ولاءاته وعلاقاته وتزلفه من أصحاب الحل والعقد في هرم أحزابهم، وبفضل الغزوات الانتخابية وامتيازاتها وأجواء التنافس الفئوي، وليس من خلال عملية نضالية انبنائية، مقارنة بتلك الكوادر التي أفرزتها وشحذتها معارك النضال الوطني التي استوجبت منها استعدادا وثقافة وجهوزية عالية للتضحية ودفع الأثمان.

بهذا المعنى يمكن لنا اختصار الفروقات بين هذين النمطين بأن الأول تولد انتقاء اصطناعيا، فيما الثاني تموقع في مفاصل حزبه بحكم قانون الانتخاب الكفاحي الطبيعي. هذه الحقائق المحزنة، حول الأجهزة الحزبية الراهنة ومادتها البشرية، تكاد تكون معروفة لجميع نشطاء الأحزاب، إذ يعلمون تماما أن قطاعا مهما من جهابذة الجهاز يفتقر أفراده لأدنى قدر من المواصفات والمهارات الثقافية والمهنية الضرورية لتسنم تلك المناصب، أو حتى لممارسة عمل بديل في الحياة الواقعية في حال اضطروا لذلك... يلفهم الكسل ويمتهنون الثرثرة ولا يقدمون شيئا جديا قد يبرر تغولهم، فيما نمط حياتهم اليومي لا يختلف كثيرا عمن يسمون "عاطلون عن العمل"، لهذا نجدهم متمسكين بالاستقرار والولاء واعتراض مسيرة التغيير. من هنا تحديدا كان دورهم الفعلي في الحملة الانتخابية للمشتركة ضعيفا على نحو لافت قياسا بالحملات السابقة، وقد يعزى هذا التراخي لفقدانهم نظام التحكم بمقدرات أحزابهم والشد بخيوطها.

وكعادة المغرورين، لم يفهم هؤلاء أن قرار إقامة المشتركة كان أيضا دليلا على قوة الشارع وتناقص حجم الوصاية تلك، وأن ظاهرة تجديد القيادة، والتي شملت كافة الأحزاب، وإن جاءت بنجاحات متفاوتة، تمثل هي الأخرى مسعى للتمرد على الجهاز والانعتاق من سطوته.

فضلا عن ذلك، فقد أتاح اختفاء الصراع التقليدي بين أحزابنا في ظل المشتركة، استعادة عافية النقد الحقيقي داخلها وشيوع المكاشفة وتعميق الشفافية، مما أضعف شوكة التعصب الفئوي الأعمى الذي غذاه الجهاز، ودفعت باتجاه تغيير واستبدال جموع المتنفذين وتحطيم أصنامهم.

من المؤكد أن تلك الانزياحات وإعادة الترتيب الجديدة التي خلقته المشتركة داخل البيت الحزبي على حساب المتنفذين، هي عينها ما تدفع بفلولهم ودوائرهم لإفشال عملية التناوب، وهي بذاتها المحرك لاستعادة التوتر داخل أحزابهم وإثارة الزوابع والمعارك التلاسنية الفارغة مع الخارج، وهي الحنجرة الخفية التي تصرخ لاستخدام أي مناسبة لصالح تفكيك المشتركة.

مع ذلك، فإني وإن جئت مصوبا كلامي أساسا نحو تداعيات إقامة المشتركة على الجهاز، فذلك لا يعني أن الصورة المستولدة عن حضورها غارقة في حدائق الرومانسية الحالمة والجمال، فهذه التجربة الفريدة قد تستجلب الإحباط والويلات على مكتسبات شعبنا إذا لم ترعها القيادات الوطنية المتيقظة، والأقلام النقدية المسؤولة والمناقشات السياسية والفكرية العلنية، وإذا عدمت الاحتضان الشعبي الواعي والوسيع.

إن أي محاولة لحرف مسار المشتركة عن أهدافها الإجماعية، وزجها في مشاريع تخدم خطاب الأسرلة وتشويه الفهم الأساسي للانتماء، سيكون أخطر على مستقبلها من أي تهديد داخلي أو خارجي آخر مهما عظم شأنه. علينا ألا ننسى أن ظهور المشتركة أدى إلى تعزيز واضح في دور أعضاء البرلمان والقيادة السياسية وانتقال مركز الثقل الحزبي باتجاههم، وتحت جناح سهولة الانسياب والتموضع في قيادة الهرم الحزبي، وحيث أن فرص النجاح الانتخابي أصبحت مضمونة والميزانيات المطلوبة متوفرة.... فهذا من شأنه أن يمهد لظهور قيادات نجومية وفهلوية فاقدة لأبسط المقومات والمميزات الوطنية والأخلاقية، تلك السمات التي كان حضورها، في الأمس القريب، شرطا ضروريا لشرعية المرشح ونجاحه في هيئاته الحزبية كعتبة ضرورية لسلم البرلمان. ينبغي لنا التعامل مع هذه الاحتمالات ببالغ الجدية، خاصة وأن عملية تجديد قيادة الأحزاب تلك جرت بمعظمها تحت وطأة مخاض عسير، ووسط مقاومة شديدة من حرس الجهاز القديم... مما خلق أحيانا وضعا مشوها فيه تسلم مناصبها قطاع شبابي واعد، ولكن تعوزه الخبرة والحكمة المطلوبتان، فيما الجيل القديم لا يقدم نموذجا مناسبا للاقتداء.

التعليقات