27/08/2017 - 20:45

بعد مصادرة الإنسان: مرحلة التسويات والمقايضات تدخل المنطقة

على مدار سنوات طويله، جرت خلالها مصادرة الإنسان العربي بصورة وحشية منقطعة النظير، تحالفت في تنفيذها الأنظمة والمعارضات مع الدول الكبرى والإقليمية، ولصالح مشاريع دينية فاشية، تدخل المنطقة مرحلة التسويات والمقايضات الكبرى، في معركة تُدار الآن بأدوات دبلوماسية، لتوزيع المصالح

بعد مصادرة الإنسان: مرحلة التسويات والمقايضات تدخل المنطقة

على مدار سنوات طويله، جرت خلالها مصادرة الإنسان العربي بصورة وحشية منقطعة النظير، تحالفت في تنفيذها الأنظمة والمعارضات مع الدول الكبرى والإقليمية، ولصالح مشاريع دينية فاشية، تدخل المنطقة مرحلة التسويات والمقايضات الكبرى، في معركة تُدار الآن بأدوات دبلوماسية، لتوزيع المصالح ومناطق النفوذ.

لقد فجّرت الشعوب العربيه المقهوره ثورة عفوية، وأطلقت وعودا كبرى، ثم انتهت إلى كابوس مرعب. والآن، ككل صراع طال أو قصر، نبدو أننا على عتبة بداية النهايه على الأقل، لمرحلة الحرب الشاملة، المباشرة أو بالوكالة؛ فحين تعجز أطراف الصراع عن تحقيق انتصارات ساحقة ضد بعضها، تجلس إلى الطاولة وتتفاوض، وبطبيعة الحال، يحقق من خرج من هذا الصراع وكفّته راجحة ميدانيا، شروطا أفضل.

وفي الحالة العربية؛ أي في حالة ثورات شعبية، وفِي حالة ادعاء حتى الطرف الرسمي (أي النظام العربي) أنه يريد خدمة الوطن المشترك، فإنه لا منتصر حقيقيا، أو منهزما حقيقيا سوى الشعب من هذا الصراع الداخلي الذي تحول إلى دولي وإقليمي. وبالتالي، فإنه من المفروض أن يتمحور التفاوض حول الأفضل لمستقبل الأمة.

تناوبت على هذه المصادرة الوحشية، أنظمة الاستبداد الوراثية، الملكية والجمهورية، وبتدخل من قوى عالمية واقليمية تفتقر إلى المشاريع والأفكار الكبرى التي حملتها، رسميا على الأقل، في زمن الحرب الباردة، كالحرية والديمقراطية والاشتراكية، في حاله القوى العالمية المتنافسة، وكالقومية والوحدة القومية وتحرير فلسطين ومناهضة الإمبريالية في حالة الأنظمة العربية.

تقترب القوى والتحالفات الغريبة العجيبة، من نهاية معركة القضاء على حركة داعش، واستئصال وجودها العسكري المنظم، وهو أمرٌ هام، وإن كان الأمر يتم على يد القوى الدولية والانظمة الاقليمية والعربية، التي تتحمل المسؤولية، المباشرة أو غير المباشرة عن ظهور هذا التنظيم المتوحش. ولكن لا تنتهي المعركة هنا، إذ أن المنابع الفكرية والاجتماعية لهذا التنظيم تحتاج إلى معركة أطول من أجل تجفيفها.

لقد تجمعت منذ أكثر من عامين، هذه القوى المتناقضة لتتصدى للخطر الذي تحول إلى خطر غير مسبوق يهددها جميعا، ويصل إلى قلب الدول الاوروبيه. وقد جرى استبدال معركة التحرر والديمقراطية والتنمية الشاملة والاستقلال الوطني، وتحرير الإنسان العربي من الاستبداد، وتحرير الإنسان عامة من آفات النظام الرأسمالي العالمي المتوحش بشعار محاربة الاٍرهاب. وجرى غض النظر بقصد عن الكيان الصهيوني، وممارسته الإرهابيه الإجراميه في فلسطين، وبقي خارج هذا التعريف، بل إن التطبيع والتنسيق معه تواصل على أعلى المستويات، من قبل المنظومة الدولية وبعض انظمة العار العربيه. بل واصل الاعتداء على الارض السورية، بتنسيق مع روسيا .

كان ذلك، أي حرف معركة الديمقراطية وحرية الإنسان نحو شعار الإرهاب، الذي خُلق بعد أشهر طويلة من بدء الثورات السلمية، ضروريا لأنظمة الاستبداد، وذلك لتفادي استحقاقات الثورة، وإبعاد غضب الجماهير عنها وعن شبكة مصالحها.

وفي حالة الإنسان العربي، يقترن تحرر الإنسان من نير استبداد الأنظمه، ومن ثقافة التنظيمات الدينية الفاشية، بتحرره وتحرر وطنه وأنظمته من سطوة المشروع الصهيوني الاستعماري ومجمل مشروع الهيمنة الأميركي والغربي عموما.

لقد بات واضحاً، أنه ما كان لهذا الوحش، الداعشي، أو غيره، أن يظهر، (ظهر أولا بقوة عسكرية كبيرة في العراق وألحق هزيمة نكراء بالجيش العراقي في صيف عام ٢٠١٤ ولم يفتح ملف المحاسبة حتى الان بخصوص ذلك) ما كان ليظهر بدون وجود نظام طائفي فاسد خاضع لنفوذ تقاسمته إيران وأميركا (بزعامة المالكي، الرئيس العراقي السابق) ومليشياته في هذا البلد العربي العريق، وما كان للجماهير الشعبية على طول الوطن العربي أن تفجر غضبها، "وتثأر" لكرامتها المهدورة لولا تراكم البؤس والفقر والحرمان والقمع الشديد، ولولا الفشل الكارثي في مشاريع التنميه، وفي تحقيق حريه الانسان، ولولا الفشل المريع في التصدي للمشروع الاستعماري الصهيوني.

ويُجمع المراقبون، على أن الانتصار على دولة داعش، سيفتح الأسئله الكبرى مجدداً، أسئلة الإنسان العربي ومصيره، وحقه في أن يحيا حياة حرة كريمة في بلده، وأن يحكمه نظام سياسي ديمقراطي إنساني غير فاسد وغير مستبد، وقادر على الدفاع عن استقالة وتحرير أرضه.

وستفتح أسئلة المسؤولية عن الإخفاق في منع "المؤامرة الكونية"، على تونس وليبيا واليمن والعراق والسعودية وسورية. فقد ادعت جميع هذه الأنظمه أن الثورات مؤامرة لا غير، وأنكرت الأسباب الوجيهة التي دفعت الناس إلى حرق نفسها. وأنكرت الأسباب والإخفاقات الداخلية المشينة التي هيّأت التربة وشرعت الأبواب لهذه المؤامرة.

إن الحرب على الإرهاب، طمست هذه القضايا الكبرى؛ القضايا الطبقيه، والمساواة، والتنمية والديمقراطية، وأعادت إسباغ الشرعية على الطغاة باعتبارهم يؤدون هدفا تكتيكيا أو إستراتيجيا في إطار النادي العالمي، وما يسمى بالحرب على الاٍرهاب.

هذه هي القضايا التي خرج الإنسان العربي شاهرا سيفه، وحاملا روحه على كفه من أجلها قبل سبع سنوات. ولا يجوز أن يغيب عن البال، أنه يجري السكوت الجماعي، الدولي، عن جرائم الحرب التي ترتكبها جميع قوات التحالفات المذكوره ضد المدنيين، من ليبيا ومصر واليمن والعراق وسورية، وهي مسألة ستكون لها أبعادا أخلاقية وخيمة على مستقبل البشرية في حال تكرس هذا السكوت وتم تبريره بحجة الحرب على الإرهاب.

بعد الانتصار النهائي على الحضور العسكري لدولة داعش، لن تستطيع الأنظمه المتوحشة بعد اليوم، التهرب من الانشغال بهذه الاسئلة، والإجابة عليها. ولن تستطيع التذرع بأن معركة تحرير فلسطين تعيق هذه الأنظمة من الإجابه على هذه الأسئلة، والتحديات الداخلية.

لقد بات كل مواطن عربي يدرك، أكثر من أي وقت مضى، أن التحصين الداخلي وتوطيد حرية وكرامة الإنسان، هو الشرط لمواجهة العدو الخارجي وأولها العدو الصهيوني. ولا يمكن أن تبقى هذه الأنظمة على حالها وعلى شكلها السابق والراهن، الفاسد والمستبد؛ فهي مطالبة، من قبل من انخرط ومن أيد الثورة السلمية، بالاستجابة لمطالب الناس المشروعة. وهذا ما يدور التفاوض بصدده في الاجتماعات بين الأنظمة وقوى المعارضة المصنفة بالمعتدلة، حيث يدورالحديث عن إصلاحات دستورية وغيرها، التي رفضتها الأنظمة منذ انطلاق الشعوب في ثوراتها التي حولتها الأنظمة وحلفاؤها وخصومها إلى حرب أهليه ومذهبية وطائفية فتّاكة.

وفي موازاة ذلك، وبتأثير الإنجازات التي حققها التحالف الدولي الإقليمي العربي ضد داعش، حدثت تبدلات سريعة في خريطة الاصطفافات الإقليمية، تشي ببدء انفراج وبدء تعاون إقليمي لدخول مرحلة من التسويات والمقايضات.

لا شك أن الإنسان العربي، الذي خرج شاهراً سيفه (إرادته) بدءًا بتونس أواخر عام ٢٠١٠، في وجه الطغاة وانتهاء بسورية، يعيش قدراً هائلاً من الإحباط والمرارة بسبب نجاح قوى الثورة المضادة في حرف قضيته الأساسية، حريته، إلى قضية إرهاب، بعد أن دفع أثمان هائلة وغير معقولة. و مصيبة هذا الإنسان مزدوجة: الأولى جاءت من نظام الحكم الذي فشل مرتين، أولا في تحقيق التنمية والديمقراطية، والثانية الفشل في تحقيق الاستقلال وتحرير الأرض العربية وفلسطين. وثانيها، جاءت من المعارضة التي خذلت الشعوب الثائرة، إذ لم تقدم صورة نموذجية بديلة عن النظام القائم المستبد، بل إن بعض أوساطها قدمت صورة قاتمة عن ذاتها، وباعت نفسها للخارج. أما داعش والنصرة فهما ليستا في حساب الثورة، بل تنظيمات فاشية هدفها نشر الفاشية الدينية، وكان لهم الدور الأبرز في تشويه الثوره، وتحويلها إلى حرب طائفية ومذهبية قذرة.

إن مرحلة التسويات ستكون طويلة وشاقة، مثل كل مراحل المفاوضات التي شهدتها الصراعات التاريخية، ولا أحد يعرف متى وكيف ستنتهي، فالمعركه لم تُحسم نهائيا. إن الصراع يدور الآن بأدوات دبلوماسية، في الغرف، في محاولة لتقاسم النفوذ بين الدول الكبرى والإقليمية، ولكن أيضا، ستفرض مطالب الناس نفسها على المتفاوضين، ألا وهي إعادة توحيد الأوطان والمجتمعات، وإعادة اللاجئين، وإشفاء الجروح النفسية والمعنوية الغائرة في النفوس، وتبنّي الديمقراطية السياسية والاجتماعية، وتقويض أركان الاستبداد والطغيان. يكفي في المرحله الأولى، أن نرى انحسار شلال الدم، يكفي أن نرى انحسار تدمير المدن وأحيائها وذبح الناس في الجمله وتشريدهم في مختلف بقاع الارض، يكفي أن نرى الناس تبدأ بالعودة إلى أوطانها وإلى بيوتها . كل عاقل يطمح لرؤية ذلك قريبا، يتحقق.

الآن، لن تستطيع الأنظمه التذرع بالعدو الصهيوني والإمبريالية العالمية للتهرب من الإصلاح والاستجابة لمطالب الناس في الحياة الحرة الكريمة، وهي فرصة لمن بقي من دعاة التغيير الحقيقي ومن دعاة حرية الإنسان وحرية الأوطان ووحدة المجتمعات العربية، ومن ظل مواظبا على حمل راية معاداة المشروع الصهيوني، عليه أن يجدد نضاله بأدوات أخرى، فِي مجال الفكر والثقافة والتعليم، ومن خلال الميادين والشوارع والجامعات والمقاهي وعبر الأحزاب والحركات السياسة والاجتماعية وأن يستأنف هذه المعركة الكبرى، معركة التحرر والبناء، التي ضاعت في غياهب التسلح وعسكرة الثورة والاستعانة بالخارج بعد أن بطشت الأنظمه في شعوبها.

إن هذا الانفراج، الذي قد تتلوه تعثرات ونكسات، سيسمح للأجيال الجديدة بالتخلص من استبداد الاستقطاب المدمر وإعادة ترميم ثقافتها السياسية، وإعادة صياغة وعيها بمكونات النهضه الحديثة، وتوطيد علاقتها بالقيم الأخلاقيه، المتمثلة باحترام حرية الإنسان ورفض الاستبداد والطغيان تحت أي ذريعه كانت.

ما كان لن يكون، وإن كان هذا سيحصل بالتدرج، وإننا نفترض أن الدماء الغالية التي سالت لن تكون كلها سدى.

اقرأ/ي أيضًا | حقول تجارب للاحتلال

ما كان لكل هذه الدماء ان تسيل، لو تمت الاستجابة لمطالب الشعب وتم التعامل باحترام مع حراكات الشعوب السلمية التي قُصفت بالمدافع والبراميل والرصاص الحي. كان من المفترض أن يحصل المواطن على حقه الطبيعي، دون أن يدفع كل هذا الثمن الباهظ، وهو ثمن يحتاج إلى سنوات طويلة لتعويضه. إن الأرواح التي أزهقها القتلة لن تعوّض، ولكن التعويض، يتم عبر المصالحة الوطنية والاجتماعيه وإعادة بناء الدول، على أنقاض الطغيان والفساد والانحراف. هذا ما نصبو إليه، الوصول إلى هناك ما زال بعيدا، لكن لابدّ من المضيّ به ، بالطرق السلمية والحضارية، لأنه لا خيار اخر.

التعليقات