03/10/2017 - 13:37

السير من "الخلف" والأسئلة ذاتها

سرتُ أول من أمس الأحد، الأول من أكتوبر من الخلف. سرت مع الجمهور، وأصغيت إلى آراء العديد من المشاركين في المسيرة السنوية لإحياء هبة القدس والأقصى الـ١٧. أردت أن أسمع أكثر ما يقوله الناس في هذه الأيام، في الذكرى

السير من

سرتُ أول من أمس الأحد، الأول من أكتوبر من الخلف. سرت مع الجمهور، وأصغيت إلى آراء العديد من المشاركين في المسيرة السنوية لإحياء هبة القدس والأقصى الـ١٧. أردت أن أسمع أكثر ما يقوله الناس في هذه الأيام، في الذكرى السابعة عشر لهبة القدس والاقصى .

قبل ابتعادي عن المواقع الرئيسية الأولى لصنع القرار، في الهيئة التمثيلية العربية العليا (لجنة المتابعة)، وبقدر أقل عن المواقع القيادية في حزبي، كنت أحب أن أسير مع الناس في المسيرات الشعبية، بل كنت في كثير من الأحيان أشعر بالخجل ونحن، كقيادات حزبية، نختار، أو نُدفع لتصدر المسيرات، في مظهر يبدو أحيانا هزليا: تدافع و" تحاشر" في الصف الأمامي. وتصبح المهزلة أكبر حين تكون المشاركة في المسيرة هزيلة، وأدنى بكثير مما يليق بهذه المناسبة الوطنية الخالدة أأو غيرها من المناسبات والنشاطات. لا أستطيع، شخصيا، أن أعفي نفسي من المسئولية، إذ أتحمل قسطا من هذه المسؤولية. وهنا لا أقول ذلك لامتصاص نزق البعض، والخفة والسطحية التي يتعاملون بها مع قصورات وتعثرات العمل السياسي والجماهيري التي تصل اليوم إلى حد الازمه الحقيقية .

ليس مفاجئا أبدا المشاركة الهزيلة في مسيرة أمس. إذ كانت متوقعة سلفا. لم تشهد أي بلده عربية، أي نشاط تحضيري، لا من اللجان الشعبية المستقلة أو المرتبطة بلجنة المتابعة، ولا من أي حزب سياسي كان. ولم نسمع عن مدرسة واحدة نظمت فعالية واحدة متصلة بذكرى الهبة الشعبية كما كان معتادا في سنوات بعيده مضت. لقد اكتفينا كقيادات، في الهيئات التمثيلية، والحزبية، بالمناشدة والبيانات العامة.

الإعلام المحلي عاد على الأسئلة نفسها والملاحظات الموجهة إلى السياسيين، لتفسير ما حصل ويحصل في السنوات الأخيرة. وكعادتهم، أو أغلبهم، يتهربون من تحمل المسؤولية. أي أن الإعلام بات يجتر نفس الأسئلة والمقاربات المستهلكة. كل ذلك يحصل دون أن يقود إلى المراجعة. ولكن إذا كان هناك نوع من المحاسبة والنقد الداخلي، داخل الأحزاب بسبب تكوينها التنظيمي، فإن لجنة المتابعة ليست، ولم تتحول، إلى جسم متين يستطيع إجراء مراجعة حقيقيه لأي ظاهرة أو قصور أو أزمة. مع ذلك هي جسم تمثيلي، لا يجوز الاستغناء عنه، بل يتأكد كل يوم كم هي مهمه وجودية، مهمة بنائها وتقويتها، وتحويلها إلى مرجعية وطنيه وقياديه لجزء من شعب باتت تقف أمامه تحديات كبرى.

أين الخلل!؟

أولا: ضعف الوضوح في الأهداف السياسية لـ"الأقليه الفلسطينية" التي زاد عددها عن المليون ونصف. هل يعرف اليوم المواطنون العرب، وخاصة الأجيال الشابة الحالية، هذه الأهداف السياسية، التي ينبغي أن تحركنا وتوجهنا كجزء من شعب في مواجهة مصيرنا، واستكمال معركة البناء الذاتي. هل يعرفون عن الاجتهادات الهامة، التي قام بها أكاديميون وقاده، مثل "دولة المواطنين" و" والحكم الذاتي الثقافي"، و"وثائق التصور المستقبلي" و" وثيقة حيفا " و"دستور عدالة" وغيرها، والتي مر عليها ١٢ عاما دون أن تجد ترجمة لها على أرض الواقع. ألا يجب أن يعرف الناس عن أسباب استمرار هذا القصور. هل هو قصور ناجم عن عجز، أم قصور مقصود تُحركه دوافع أيدولوجيه، أم ضعف قيادي وفكري وتنفيذي. وأنا شخصيا، أعتقد أن جميع هذه العوامل صحيحة.

ثانيا، وبعلاقة مع الأول، غياب الوضوح في العلاقة الاستراتيجية مع القضية الفلسطينية، كقضية تحرر وطني، ومع الحركة الوطنية الفلسطينية التي من المفروض أن تتجدد ويعاد بناؤها، وبمشاركة كل تجمعات شعبنا. لقد بات هذا السؤال مطروحا وملحا في ظل التحولات الجارية في جوهر الصراع مع الصهيونية، وفِي ظل النمو الموضوعي للتواصل والترابط بين تجمعات الشعب الفلسطيني.

ثالثا، غياب أي تصور حول كيفية مجابهة التطرّف الجنوني في التوجه إلى الشعب الفلسطيني، وإلى فلسطينيي الـ٤٨، حيث يتحولون في الخطاب الإسرائيلي الرسمي، ناهيك عن الشعبية إلى عدو صريح، ليس فقط كمشروع سياسي، بل أيضا كوجود ديمغرافي. ويترجم هذا في فيض القوانين الأبرتهايدية، والمخططات الإقصائية.

رابعا، غياب التجديد، أو بطيء التغيير في القيادات، وفِي الهياكل الحزبية. هناك قيادات شابة جديدة واعدة، ولكنها لم ُتظهر حتى الآن كل طاقاتها ومهاراتها، خاصة في مجال التنفيذ الميداني. وتسمع الناس تقول عن القيادات الحالية: "وجوه مستهلكة" "خطابات مستهلكة"، "مسيرات فولوكلورية"، "قيادات قديمة تَمسح جوخ لبعضها لتغطي على عوراتها، "قيادات مسترخية في كراسيها"، " قيادات بهلوانية إعلامية" وغيرها من التعابير. وهي أحاديث تعبر إلى حد كبير عن واقع الحال، لكن خطورتها هو أنها تُضمر تجاهل وإغفال الإنجازات السياسية والثقافية والتعليمية والوطنية، التي حققتها القوى السياسية والوطنية لهذا الجزء من شعبنا منذ الخمسينات التي يمكن أن تنبني عليها تصورات جديده للحاضر والمستقبل.

رابعا: واقع لجنة المتابعة العليا . يستطيع المرء، وبنظرة موضوعية، أن يلحظ الجهد الكبير الذي يبذله رئيس لجنة المتابعة الجديد، في إدارة العمل الجماعي، التنسيقي. وهي مهمة ليست سهله في ظل الوضع المادي الصعب الذي فشلت اللجنة حتى الان في النهوض به. كما يجدر ملاحظة التوجه الوحدوي الواضح الذي ميز سلوكه في الأشهر الأولى من تسلمه القيادة. ولكني ألاحظ كما يلاحظ آخرون، تراجع هذا النفس، بسبب مواقف أثارت السخط الشعبي الكبير. مع ذلك، ما زال هناك متسع من الوقت والمجال، لتدارك الأمر. وهذا الأمر يتعلق في الأساس بمن يحتل موقع القيادة الأول. إن إحدى نقاط الخلل الكبيرة، بل الرئيسية، هو استمرار غياب الرؤية والبرنامج الاستراتيجي والمرحلي الواضح الذي من المفروض أن يطرح سنويا أمام المجلس العام للجنة المتابعه لمناقشته والمصادقة عليه.

وبحسب رأيي ورأي الكثيرين، وخاصة الخبراء المختصين والعارفين بمقومات النهوض بالجماعات الوطنية، (الأقليات القومية)، التي تخضع لحكم أغلبيه عرقيه ظالمة، فإن ركيزيتين أساسيتين معروفتين لا غنى عنهما، بل إن تجاهلهما أو إهمال العمل عليهما، يعني مواصلة الاسترخاء في حضن التقليد والروتين والتكرار مما يعني إمعانا في سيرورة التراجع الاجتماعي، والتآكل في المنجزات الكبيرة التي حققها فلسطينيو الـ ٤٨، على مدار عقود. إن عدونا، المتمثل بنظام الفصل العنصري الكولونيالي الإقصائي، يصعّد من خطابه العدواني وممارساته الإجرامية، وبالتوازي مع مواصلة اعتماد سياسته القديمة المتمثلة في تصنيف القوى السياسية وفق معادلة "متطرف ومعتدل".

الركيزة الأولى: الصندوق القومي

لقد تحولت في الآونة الأخيرة هذه الركيزة إلى جزء ثابت في خطاب العديد من الأكاديميين والباحثين والداعين إلى تطوير لجنة المتابعة. لا يمكن لأي قيادة، في هذه الظروف، أن تقود الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، بدون ميزانية كبيرة ثابتة، تأتي كتبرعات من الناس، ومن مشاريع إنتاجيه يتفرغ لها مختصون من لجنة المتابعة. لا يعقل أن تنشغل الأحزاب لأشهر في حرب تافهة حول تنفيذ اتفاق مكتوب بخصوص مقعد في الكنيست، وهو بالفعل أمر تافه مقارنة مع تحديات البناء الوطني والمؤسساتي الحقيقي.

الركيزة الثانية، النضال الشعبي

يزخر تاريخ شعبنا الفلسطيني، منذ العشرينات من القرن الماضي، بفصول رائعة من النضال الشعبي، كالمظاهرات والإضرابات والعصيان المدني، ومقاطعة المنتوجات الصهيونية، وفِي داخل الخط الأخضر، اعتمد الفلسطينيون في الأساس النضال الشعبي والسياسي والثقافي والقانوني في مواجهة الحكم العسكري وكل السياسات العدوانية اللاحقة والمستمرة حتى اليوم. وقد أثبت النضال الشعبي أنه وحده القادر على تحقيق إنجازات فعلية بما يخص الأرض والبيت. وكان آخر تجليات هذا النضال الشعبي الشامل داخل الخط الأخضر، والذي أدى إلى إجبار المؤسسة الصهيونية إلى تعليق مخطط تهجيري إجرامي، أواخر عام ٢٠١٣، هو النضال ضد مخطط برافر . أما تجربة المقاومة الشعبية التي خاضها المقدسيون ومعهم فلسطينيون من الجليل والمثلث والنقب ضد البوابات الإلكترونية، فقد سُجّلت كأرقى النضالات المثيرة للإعجاب. ولا أعرف كم من السياسيين، اجتهدوا للاطلاع على تفاصيل هذه التجربة البطولية الحضارية، من خلال ملاحظاتهم الشخصية، أو إذا قرأوا عشرات الدراسات المعمقة التي قام بها أكاديميون ومحللون للآليات التي اعتمدت، في تنظيم هذه الاعتصامات الشعبية في مدينة القدس، والأهم النجاح في المحافظة على استمراريتها دون انقطاع حتى أتت أُكلها، دون دفع ثمن كبير.

ولكن تجربة مقاومة مخطط برافر لم يجر تقييمها وتأطيرها وتقديمها كنظرية في المقاومة شعبية حتى الآن. لم تجهد القيادات نفسها في التفكير مليا في هذه المعركة التي استمرت ثلاث سنوات من التحضير والتصعيد وصولا إلى تكتيك إغلاق الشوارع. ولم تكلف أحدا في إجراء تقييم ودراسة لها للإفادة منها في مواصلة المعارك الشعبية (قدمت شخصيا ورقة داخلية مطولة عن تجربة برافر أوائل عام ٢٠١٤، في يوم دراسي نظمته اللجنة المركزية لحزب التجمع).

كما أن غالبية القيادات لم تول أي أهمية لدور الشباب، الذين لعبوا دورا أساسيا في الارتقاء بالمواجهة، لسبب واحد فقط، لأن غالبية القيادات اعتادت على نمط معين من العمل السياسي، غالبه من فوق، وبشكل خاص من منبر الكنيست (باستثناء حزب التجمع الذي لم يغب ممثلوه في الكنيست عن اي مواجهة في الشوارع) إلى جانب جموع الشباب المقاتل. لا أنسى النقاش المتوتر الذي ساد اجتماعات المتابعة عندما كنا ندعو إلى ضرورة إغلاق الشوارع كوسيلة ضغط ناجعة على المؤسسة الصهيونية. لست أقلل هنا من الموقف الوحدوي ومشاركة كل القوى السياسية في التصدي للمشروع التهجيري، ولكني اتحدث عن نهج محدد، وهو نهج المقاومة الشعبية المنهجي، والذي يقتضي أحيانا مواجهة وصدام.

ويمكن إيجاز خلاصة عملية التحضير الناجحة لهذه المعركة الشعبية بثلاث مراحل :

الأولى، المرحلة الإعلامية، والتي شملت تصديا من قبل أعضاء الكنيست لقانون برافر، وترافقت مع حملة إعلامية واسعة ودقيقة لتعريف أهالي النقب بخطورة المخطط وتحريضهم على مقاطعة اللقاءات مع مسؤولي نظام الأبارتهايد، وكان رأس الحربة في هذه المرحلة "لجنة التوجيه الوطني لعرب النقب" المنبثقة عن لجنة المتابعة العليا. ولا يقل أهمية الحملة الإعلامية والتثقيفية التي نظمت في أوساط الناس في مناطق المثلث، الجليل ومدن الساحل. كان النجاح في ربط الناس، سياسا ووطنيا ووجدانيا، في هذه المناطق مع قضية عرب النقب باهرا، خاصة بين الشباب.

المرحلة الثانية، تكثيف المظاهرات الجماهيرية المرخصة، والإضرابات في البلديات والمدارس، خاصة في النقب.

المرحلة الثالثه، الانتقال والمبادرة إلى تكتيك إغلاق الشوارع، الذي تواصل رغم القمع الوحشي الذي اعتمدته قوات الشرطة، وصولا إلى إسقاط القانون في جلسة حكومية رسمية .

ترى لماذا لا تتفرغ القيادات، التي تراجعت بعد نجاح تجربة مقاومة برافر، عن نقدها للحراك الشبابي، ولقيادات حزب التجمع التي زجت بكل الحزب كبارا وشبابا في هذه المعركة، لماذا لا تتفرغ لاستحضار دروس هذه التجربة، تجربة النضال الشعبي المنهجي، وإعادة تفعيل وتنشيط المزاج الشعبي، وتحريضه على العمل والاحتجاج والغضب، وبناء الأدوات التنظيمية المطلوبة لذلك. أعود وأكرر، إننا نحتاج إلى أيام دراسية، ندرس آليات النضال الشعبي، بهدف رسم استراتيجيه حقيقية لنضال شعبي منهجي، يأخذ أحيانا شكل الاعتصامات الحاشدة ليومين أو ثلاثة بلياليهم، في ساحة معينة، داخل مدينة، عربية أو يهودية، أو في أراضٍ مهددة بالمصادرة، أو بيوت مهددة بالهدم. ويشمل هذا النشاط التثقيفي المكثف حول المعنى والهدف لهذا النضال. إن التواجد الجماعي المطول في أماكن الاعتصام يجلب منفعة كبرى للشعب بصورة عامة، وللأجيال الشابة بصورة خاصة. إنه يوطد الوعي الجماعي ويساهم في تعزيز الهوية لجزء من شعب يتعرض يوميا لمخططات محو وتدجين وتشويه وتذرير، أي تعميق ظاهرة الفردانية ونزعة الخلاص الفردي الوهمية. وأعتقد أنه يؤدي إلى تخفيف وتحجيم ظاهرة العنف الداخلي المستشري.

هذا الأمر يتحقق فقط عندما نحدث تحولا جذريا في الذهنية والسلوك. ونصل بصورة دائمة إلى الناس، وبشكل خاص إلى تلك العناصر المهيئة والقابلة للانخراط بنشاط دائم .

لهذه الاستراتيجيه مستحقات أيضا، لا تقل عن الجانب الذهني والفكري، وهي المساندة المادية. كل نضال شعبي له تبعات، من توفير الطعام والمياه والمحامين والغرامات، وتبعات مادية أخرى. وفي هذا تكمن أهمية وإلحاحية الصندوق القومي الذي حان الوقت لتشكيل طاقم مهني تعكف على تأسيسه، وإقامة هيئة شعبيه لدعمه، ووضع جدول زمني لا يتجاوز السنة الواحدة لإنهاء هذه المهمة الوطنية الكبيرة .

التعليقات