07/10/2017 - 13:33

مصالحة أم مقامرة؟

تصبح مهمة تشكيل التيار الثالث، أكثر الحاحا من أي وقت مضى. إنه الصوت الوحيد، وإن كان غير منظم بعد، الذي يمكن أن يشكل الدينامو والمحرك والمحشّد للرأي العام الفلسطيني حول مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، والتمسك بالثوابت الوطنية والديموقراطية

مصالحة أم مقامرة؟

منذ أوسلو، لم تظهر قوى معارضة حقيقية لهذا الاتفاق سوى حركة حماس. فقد تصدت له بالسيف والقلم وأربكت الموقعين عليه. في حين أن القوى اليسارية الفلسطينية ذات الخطاب الجذري التاريخي التي أعلنت رفضها له تكيّفت معه، وانخرطت في السنوات الخمس الأولى تحت سقفه، إلى أن اتضح لقيادة حركة فتح خديعة أوسلو وسقوط الوهم نهائيا، فانخرط الجميع في الانتفاضة الثانية التي جاءت كتطورٍ موضوعي عاصفٍ وليس مخططا. فلو لم يدخل شارون إلى المسجد الأقصى، ما كان أحد ليعرف ما إذا كانت ستنشب الانتفاضة في وقت قريب، وما هي الأشكال الي ستتخذها. قدّم الشعب الفلسطيني الذي انتفض عفويا تضحيات جسام، وأظهر شجاعةً واقداما قل نظيرهما. لكن الإدارة الكارثية لهذه الانتفاضة، وتوزع مراكز القرار، والتصرف كدولة مقابل جيش الاحتلال الإسرائيلي، أقوى جيوش العالم، حال دون تحقيق أهداف الانتفاضة، ألا وهو دحر المشروع الاستيطاني عن أراضي الضفة والقطاع، والتموضع على عتبة الاستقلال.

بعد خبوّ الانتفاضة، ولأسباب دولية وإقليمية، وبسبب طبيعة القيادة التي فُرضت على الشعب الفلسطيني بعد استشهاد ياسر عرفات، تم تقويض الثورة وحركة التحرر الوطني الفلسطيني بالشكل الذي عرفناه منذ عام 1965. غرقت قياده السلطة الفلسطينية في منطق الدولة وخرافة بناء اقتصاد في ظل الاحتلال، فانتهى بنا الأمر الى مركبٍ في بنية ومنظومة المشروع الكولونيالي. وتشوهت علاقة الفلسطيني بقضيته، وتبددت مفاهيم وقيم التحرر الأصيلة واختفى التعريف السياسي الواقعي للعدو. فبات الكيان الكولونيالي الاقتلاعي يسمى الطرف الآخر. في حين أن هذا "الطرف الآخر" واصل التصرف بكل سياساته ومواقفه وإستراتيجياته على مدار اللحظة كعدو سافر، وبدون رتوش وكمستعمر كولونيالي لا يرحم ولا يقيم أي اعتبار للمواثيق الدولية. وقد طولبت القادة الفلسطينية مما يسمى بالمجتمع الدولي بإثبات حسن النوايا تجاه العدو الإسرائيلي في حين كان هو العكس.

هي مرحلة كارثية بكل معنى الكلمة، على المستوى السياسي الاقتصادي والثقافي الأخلاقي، لم يُبدد بعضاً من عتمتها سوى المبادرات المستقلة واللجان الوطنية المستقلة مثل لجان العودة واللجنة الوطنية للمقاطعة، وأبطال الهبات الشعبية المتقطعة والمحدودة فضلا عن المثقفين الملتزمين.

على الجانب السياسي، استأثرت سلطة رام الله بقرار المفاوضات، متنصلة من واجب ومبدأ المقاومة ومجابهة المستعمر، ومارست من الموبقات والانحرافات تجاه العدو ما لم تمارسه أي حركة تحرر في تاريخ حركات التحرر العالمية. من جانب آخر، استأثرت حركة حماس بقرار الحرب، واضطرت إلى خوض ثلاث حروبٍ دفاعية بطولية ضد العدو الإسرائيلي من قلب الحصار. دفعت خلالها تضحيات كبيرة على مستوى قياداتها وكوادرها. ولكن بسبب الانقسام واستمراره طيلة هذه الفترة، ناهيك عن أوضاع العالم العربي لم تحقق هذه الحروب هدفها الرئيسي ألا وهو إزالة الحصار الإجرامي بل عمقت المعاناة الشعبية. ومع ذلك فإن إسرائيل فشلت في كسر شوكة المقاومة رغم الوحشية التي اعتمدتها في حربها القذرة ضد قطاع غزة. والمفارقة أن الضغوط العربية المحيطة تقوم الآن بهذا الدور القذر، أي ما عجز عنه العدوان الإسرائيلي.

طيلة هذه الفترة، التي شهدت فيها المنطقة المحتلة عام 1967، ظهور سلطتين فلسطينيتين غاب اليسار الفلسطيني عن المشهد السياسي والشعبي، بل تحولت أوساط منه الى شاهد زور على مشروع السلطة الفلسطينية بالإضافة الى ظاهرة الأنجزة. ولم يتبلور في المقابل تيار ثالث قوي ومنظم يقدم رؤيا سياسية وأيديولوجية بديلة وكذلك إستيراتيجية كفاحية. على هامش كل هذه التطورات ظهرت ونمت مبادرات سياسية بديلة، وانفجرت بين الحين والآخر هبات شعبيةُ بطولية في مناطق جغرافية محدودة. وبموازاة ذلك ظهرت اجتهادات فكرية نقدية خلاّقة. ولكن كل هذه التطورات التي وصفت بالفضاء الثالث لم تتحول إلى تيار ثالث كاسح يبدّل المشهد السياسي الفلسطيني برمته. ويمكن القول إن كلا السلطتين ساهمتا بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر في كبح جماح أي مبادرة في هذا الاتجاه.

المصالحة تُفرض من فوق

ليست جهود المصالحة المتسارعة حصيلة نضوج وطني أو حصيلة وعي جديد أو نتاج حراك اجتماعي ميداني من القاعدة. هي ليست استجابة لنداءات الشعب ولا لنداءات المبادرات التي أطلقتها في السنوات الأخيرة مجموعة واسعة من الشخصيات الوطنية السياسية والأكاديمية. إنما هي حصيلة أزمات داخلية لطرفي الانقسام، وحصيلة تغيرات إقليمية واصطفافات مصلحية مفاجئة بين دول المنطقة على خلفية الحرب على الإرهاب وانتصار الثورات المضادة.

ما معناه أن الدافع الرئيسي لهذا الحراك الفلسطيني الرسمي نحو المصالحة جاء ليلبي في الأساس المصالح المؤقتة لطرفي الانقسام ومصالح الراعي لهذه المصالحة النظام المصري الذي بات أكثر حلفاء إسرائيل ائتمانا، والطامح لتثبيت حكمه الدموي والمحتاج إلى التعاون في حربه ضد الجماعات الإرهابية في سيناء التي ما كان لعملياتها أن تتوسع لولا إقدام عبد الفتاح السيسي على ارتكاب جريمة الانقلاب ومجزرة رابعة غير المسبوقة في تاريخ مصر القديم والحديث. ولو جاءت عمليه المصالحة الجارية من تحت لكان مضمونها مختلف، بل مُتسق مع قواعد المشروع الوطني والتحالفات السوية.

إن هذا النمط من السلوك السياسي هو استمرار لسلوك قديم لمنظمة التحرير الفلسطينية (سلوك أبوي) تتبعه الآن حركة حماس، ألا وهو تغييب الجماهير عن عملية صنع القرار والتعامل مع هذه الجماهير كأداة وليس كهدف وصاحبة المصلحة في التحرر والانعتاق، أو التعامل مع هذه الجماهير من خلال التهميش والتجاهل في مفاوضات مع إسرائيل في حالة السلطة الفلسطينية. إذ أنه باسم مصلحة هذه الجماهير جرى ويجري التنسيق الأمني الشائن، وباسمها تُخاض الحروب وباسمُها ينفذ الانقسام وباسمها تجري المصالحة دون استشارتها أو سؤالها حول الشروط والمضامين أو الأهداف.

لا يوجد فلسطيني واحد إلا ويريد المصالحة والوحدة الوطنية وقيادة وطنية ذات رؤيا واضحة، ولكن من حقه أن يعرف لماذا جرى الانقسام، ولماذا استمر كل هذا الوقت، ولماذا يتم تغيير المواثيق، ولماذا العودة إلى التصالح والتحالف مع أنظمة العار.

من حق هذه الجماهير أن لا تتعرض لخيبة تاسعة وعاشرة وأكثر، جراء نكسة جديدة تصيب جهود المصالحة. هناك أصوات من داخل حركة حماس تقول إن الحركة، وبالتحديد قيادة يحيى السنوار، ذهبت بعيداً في التنازلات لصالح سلطة رام الله، وهناك في سلطة رام الله من لا يزال يشك في نوايا حماس وينصح في عدم الاستعجال في رفع الإجراءات العقابية التي فرضها أبو مازن على قطاع غزة. ورئيس السلطة محمود عباس نفسه يطلق تصريحات تحذر من نموذج المقاومة والسلطة ويشترط بأن يكون هناك "دولة واحدة، وسلاح واحد، وجهاز أمن واحد". وهذا يعني أن يكون قطاع غزة كحال الضفة الغربية محكوما بمنطق التنسيق الأمني مع إسرائيل، وجزءا من منظومة المشروع الكولونيالي.

هو يدرك أزمة حماس، وأنهّا تحتاج بصورة ماسة للخروج من عزلتها وللنجاة كحركة سياسية بعد أن فقدت حلفاء سابقين، وتخلت عن حلفاء آخرين لأسباب براغماتية أو لأسباب مبدئية، على خلفية موقفها من الثورات العربية. وقد تكون حماس مدفوعة بالاعتقاد أنها تريد أن تكسب الوقت. أي أن تمرر هذه الفترة العصيبة من خلال تقديم تنازلات مؤلمة، وهذه مغامرة ليست محسوبة. وقيادة الحركة الجديدة ليست جاهلة لسلسة التنازلات الي قدمتها حركة فتح والمآل الذي وصلت إليه في علاقتها مع إسرائيل والمشروع الوطني الفلسطيني، لكنها تعتقد أنها تستطيع أن تناور، وتقدم التنازلات دون أن تتخلى عن سلاح المقاومة، وأنها تستطيع أن تنزل عن شعار فلسطين التاريخية، وتتبنى دولة في الضفة والقطاع وربما في القطاع وحده طالما هي ممتنعة عن الاعتراف بإسرائيل. ولكن هذه النظرة ستصطدم بمعارضة الأطراف الدولية وبالأساس بالإمبريالية الأميركية التي رفعت الفيتو عن جهود المصالحة، بهدف عزل حماس أو دفعها إلى التخلي عما تبقى من ثوابت وطنية. ومن حق المرء أن يخشى من إمكانيه المضّي في التنازلات تحت ضغط المحور الرجعي المستبد.

يعرف الطرفان، قيادات حركة حماس وحركة فتح، أن لا حل سياسيا عادلا (نسبيا) في الأفق. فالولايات المتحدة ما عاد يعنيها حل أو وهم الدولتين وهي بذلك منسجمة مع موقف إسرائيل وموقف اليمين العلماني والديني، ويدركان أن بقاءهما خارج التحركات الدولية والاصطفافات الإقليمية المفاجئة الحاصلة، يعني انهيارهما، إما بفعل الحصار الإجرامي والفشل في إدارة القطاع وما يمكن أن يجره من حرب مدمرة رابعة، أو من احتجاجات واسعة تهز أركان سلطة حماس، أو بفعل تأثيرات تغوّل المشروع الكولونيالي في الضفة والقدس وتهديدات اليمين الإسرائيلي باستبدال قيادة السلطة بمحمد دحلان أو انفجارات شعبية قد تندلع هذه المرة ضد الاحتلال والسلطة معا.

ما العمل؟

ليس واضحاً كيف ستؤول إليه جهود المصالحة الحالية، خاصة وأن القضايا الكبرى لا تزال غير مبتوت بها، مثل سلاح المقاومة، إستراتيجية المواجهة، والحلول مع إسرائيل وكيفية التعامل مع المجتمع الدولي وغيرها.

لا شك أن المبادرة الحالية، تبدو أكثر جدية، بغض النظر عن مضامينها، وأن هناك تفاؤلا، حذرا على المستوى الرسمي والشعبي. ولكن التجربة الماضية الفاشلة، وكذلك التنازلات التي قدمتها حركة حماس، ووجود شركاء دوليين (غربيين وصهاينة) وعرب معنيين في ترويض حماس، كحركة مقاومة، وتحركهم مصالح تتجاوز القضية الفلسطينية، إلى تثبيت حكم السيسي في مصر، وفي السعودية والإمارات، وتوطيد مصالح إسرائيل المرتبطة عضويا بمصالح الإمبريالية الأميركية. كل ذلك يدفعنا إلى التقدير بأن وصول جهود المصالحة إلى مبتغاها، لا يعني تحقيق مطالب الشعب الفلسطيني الحقيقية، بقدر ما يعني تحقيق الأهداف الفئوية للطرفين.

كلاهما يراهنان على النجاح في إثبات أهليتهما ليس أمام الشعب الفلسطيني بل أمام المحور المعادي للآخر، من خلال تقديم التنازلات الكبيرة لنيل رضى الرعاة الإقليميين والدوليين، إنها حرب النجاة.

هل يعني هذا أن شعبنا لن يستفيد من ذلك؟! هذا سؤال مهم ولا بد من معالجته.

منطقيا من المفروض أن تؤدي هذه المصالحة إلى تخفيف المعاناة اليومية لشعبنا، خاصة لشعبنا الصامد في قطاع غزة. وهو بحد ذاته أمر هام، وتوفير الحد الأدنى من الأمن الغذائي والتعليمي والمادي هو واجب وحق إنساني. ولكن، هل سيندرج هذا الاتفاق والتقارب ضمن الهدف الإستراتيجي للحركة الوطنية الفلسطينية أي إزالة الحصار التحرر من المشروع الكولونيالي الإجرامي؟ هناك علامة سؤال كبيرة على ذلك.

الكل يدرك أن الإدارة الإمبريالية الأميركية الحالية بزعامة التاجر الأهوج، دونالد ترامب، ليس واردا عندها موضوع "الدولتين"، فالأولوية هي عقد صفقة إقليمية تطبيعية مع أنظمة عربية فاجرة، ساقطة وطنيا واخلاقيا.

ليست القضية الفلسطينية بالنسبة لأنظمة العرب قضية وطنية، وليست قضية سياسية عادلة بالنسبة للنظام الرأسمالي العالمي، بل هي عبء يجب التخلص منه، في مواجهة الإرهاب وضمان دوران عجلة ماكينة الرأسمال المتوحش، ولتثبيت أركان الاستبداد والثورات المضادة. هذه هي أيضاً شروط ترسيخ المشروع الصهيوني.

كيف يتصرف الشعب الفلسطيني، وخاصة نخبِه التي تجاهد بالقلم والفكر وفي الميدان خارج بنية السلطات الفلسطينية حتى اليسار الرجعي المتكيّف مع أوسلو والمتحالف مع أنظمة الاستبداد والثورات المضادة والمناهض لحركة الشعوب العربية؟

إن الاطمئنان لهذه المصالحة الجارية، والاسترخاء الكامل في حضن الآمال التي تنبعث منها هو بمثابة السير في نفق جديد قد ينتهي إلى كارثة جديدة، إضافة إلى كارثتي أوسلو والانقسام. إن من شأن القعود والانتظار أن يساند هذه المغامره.

إننا أمام واقع جديد، علينا الاعتراف به وليس بشرعيته، يتمثل في تشكل محور دولي وعربي يريد أن يأخذ المصالحة إلى مكان بعيد عن أهداف الشعب الفلسطيني مستغلا آثار الحصار الإجرامي، وآثار المشروع الكولونيالي وضعف القيادات الفلسطينية. بل إنه يسعى إلى تصفية قضية فلسطين كقضية تحرر وطني وإنساني. لن تكون عدالة القضية هي المرجعية بالنسبة لهذه القوى بل ميزان القوى ومصالحها المباشرة. وقد يسأل البعض: ماذا يمكن لشعبنا أن يفعل طالما السلطتان غزة ورام الله تسيران في إطار هذا المحور، وبعد انتصار الثورات المضادة؟ هنا تصبح مهمة تشكيل التيار الثالث، أكثر الحاحا من أي وقت مضى. إنه الصوت الوحيد، وإن كان غير منظم بعد، الذي يمكن أن يشكل الدينامو والمحرك والمحشّد للرأي العام الفلسطيني حول مشروع التحرر الوطني الفلسطيني، والتمسك بالثوابت الوطنية والديموقراطية.

وإذا كان هذا المسار قد انطلق، فإن التيار الثالث يستطيع على الأقل ردع الطرفين عن الإيغال في المزيد من التنازلات، وقد يُراكم قوة مؤثرة إذا ما أجاد التنسيق بين أوساطه، واتخذ أشكالا متقدمة من العمل الشعبي، فضلاً عن الإعلامي والثقافي والفكري، بل قد يساعد أوساطا داخل كل من حماس وفتح، متوجسة من نوايا الرعاة العرب والغربيين، في ضبط إيقاع هذا المسار حتى لا يذهب بعيداً أكثر في التنازلات.

ربما حان الوقت لرفع الصوت أكثر، والتعبير عن المخاوف والتحذير من مغبة تحويل التنازلات إلى اتفاقات رسميه داخليه أو مع الرعاة.

هكذا فقط تحمي القضية الفلسطينية من التصفية، وهكذا فقط تُبقي الشعلة، شعله التحرر مُضيئة. إنها مُهمة كل القوى والأفراد والأطر، السياسية والأكاديمية والثقافية، والشعبية المتمسكة بقيم التحرر، والمناهضة للاستبداد، والمتمسكة بحريه الشعوب والأفراد، وبحق تقرير المصير، وبالعدالة الاجتماعية والديمقراطية والدولة المدنية... في كافة تجمعات الشعب الفلسطيني.

التعليقات