مذبحة الدوايمـة: بعض المسكوت عنه حول مجازر الصهيونية (2-2)

ننقل هنا ترجمة لمقالة كتبها الباحث الأكاديمي الإسرائيلي يائير أورون، قبل نحو عام حول استمرار الصمت الإسرائيلي المُبرمج على إحدى أكبر المجازر التي ارتكبتها الحركة الصهيونية عام 1948 في قرية الدوايمة الفلسطينية قضاء الخليل.

مذبحة الدوايمـة: بعض المسكوت عنه حول مجازر الصهيونية (2-2)

ننقل هنا ترجمة لمقالة كتبها الباحث الأكاديمي الإسرائيلي يائير أورون، قبل نحو عام حول استمرار الصمت الإسرائيلي المُبرمج على إحدى أكبر المجازر التي ارتكبتها الحركة الصهيونية عام 1948 في قرية الدوايمة الفلسطينية قضاء الخليل.

ووفقًا لما يكتبه أورون، مستعينًا باقتباسات عن مؤرخين إسرائيليين، وقعت هذه المجزرة يوم 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1948، خلال عملية "يوآف" التي نفذها الجيش الإسرائيلي، وأدت إلى نزوح سكاني كثيف عن المنطقة. وهو ينقل، عن لسان أحد الذين شاركوا في الهجوم على القرية، أن نحو 80 - 100 شخص، بينهم نساء وأولاد، قتلوا جرّاء موجة الغزاة الأولى.

فيما يلي الجزء الثاني والأخير من المقالة:

مذبحة الدوايمـــة

فيما يتعلق بما حدث في قرية الدوايمة، فإن جزءًا من الوقائع يعتبر واضحًا، وثمة جزء آخر أقل وضوحًا. في نطاق عملية "يوآف" احتلت القوات الإسرائيلية مخفر الشرطة في قرية بيت جبرين. وبعد يومين، أي في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1948، احتلت كتيبة الاجتياح رقم 89 قرية الدوايمة الواقعة في المنحدرات الغربية لجبل الخليل، في النقب الشمالي الشرقي.

بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر ونصف الشهر على مذبحة اللد، أضحى الحيز بأكمله مختلفا كليا، إذ بات من الواضح للجميع أن إسرائيل انتصرت في الحرب، وأنها هزمت الجيوش العربية التي هددت طوال شهر ونصف الشهر وجود الدولة التي أُعلن للتو عن قيامها.

في تلك الفترة كان الهدف هو توسيع البقعة الجغرافية وجعلها خالية من العرب قدر المستطاع، والتوصل إلى اتفاقيات لوقف إطلاق النار بشروط مريحة ما أمكن لدولة إسرائيل. وأخذ الجيش الإسرائيلي يحتل مناطق واسعة في الشمال، وبشكل خاص في الجنوب، من دون قتال، ويتقدم من قرية إلى أُخرى. مما لا شك فيه أن الأمور جرت على هذا النحو أيضًا لدى احتلال القوات الإسرائيلية لقرية الدوايمة، التي بلغ عدد سكانها في ذلك الوقت قرابة 4000 نسمة، إذ قُتِل الكثيرون من أهالي القرية ومن ضمنهم شيوخ ونساء وأطفال، وكل ذلك من دون أن تواجه القوة الإسرائيلية التي اجتاحت القرية أي مقاومة. غير أن الذين يبحثون عن تفسير، وربما مبرر أيضا للجريمة التي ارتكبت فيها، يزعمون أن أفراد هذه القوة واجهوا مقاومة ضعيفة، إذ تعرضت آليات وناقلات الجند الإسرائيلية لطلقات قليلة أطلقت من أربع بنادق فقط.

بعد مرور أسبوعين تقريبًا، في 10 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948، أورد بن غوريون في مذكراته أقوال الجنرال إليميلخ أفنير، قائد الحكم العسكري، أنه "بحسب الاشاعة (!)" ذبحوا "في الدوايمة قرابة 70- 80 شخصًا". وورد في نفس المذكرات أن الحديث يدور حول "كتيبة يتسحاق"، والمقصود هو الكتيبة 89 في اللواء الثامن الذي كان يتسحاق سديه قائدًا له في ذلك الوقت. وعلى ما يبدو فقد هزت هذه المعلومات قادة الجيش، ومن ضمنهم سديه نفسه ويغئال ألون، الذي تولى وقتئذ منصب قائد الجبهة العسكرية الجنوبية. وقد جرت عدة تحقيقات في هذه القضية، ومن ضمنها التحقيق العسكري الذي كلف القيام به إيسار باري، والذي توقف في أعقاب العفو العام الذي صدر في شباط/ فبراير 1949.

وأكد عدد من ضباط الجيش الإسرائيلي أنه جرى إعدام بعض سكان قرية الدوايمة الذين عُثر في حيازتهم على وثائق أو مقتنيات سلبت خلال "المذبحة" التي أُرتكبت ضد سكان مستوطنة "غوش عتصيون". وفي هذا السياق، كتب أحد قادة الكتيبة الإسرائيلية (التي نفذت مذبحة الدوايمة) قائلا: "لقد تذكرنا أحداث عام 1929، وما حصل في غوش عتصيون... دماء الذين ذُبحوا فيها تدعونا إلى الانتقام". كذلك دعا قائد الجبهة الجنوبية، يغئال ألون، في الأمر اليومي لـ "عملية يوآف"، بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 1948، إلى الانتقام قائلًا: "هذه الليلة سينفذ اللواء انتقامه.. هذه الليلة سيتم الانتقام لكل أيام حزن حلف المحاصرين".

ليس من الواضح هنا ما هو داعي الانتقام ولأي سبب، ربما بسبب صعوبة وضراوة القتال في المراحل التي سبقت المعركة ضد الجيش المصري والخسائر الجسيمة التي تكبدها الطرفان الإسرائيلي والمصري.

وعلى ما يبدو فإن حقيقة كون المذبحة في الدوايمة أُرتكبت بقيادة إسحاق سديه، قائد لواء "البلماح" سابقا، والذي عرفت عنه حساسيته تجاه مسائل الأخلاق و"طهارة السلاح"، خلقت حالة من الارتباك والحرج.

من جهته قام يسرائيل غاليلي، رجل حزب "مبام"، والذي كان من المقربين جدا لبن غوريون في تلك السنوات، بتقصي وفحص ما جرى في الدوايمة وتوصل إلى الاستنتاج بأن "الكتيبة 89 نفذت في الحقيقة هذه الأعمال الفظيعة"، غير أنه أعرب عن رأيه قائلًا بأنه سيكون "غريبا وسخيفا إلقاء تبعة ما حدث على عاتق سديه".

وادعى أنصار اليسار (الإسرائيلي) من جانبهم، بصورة علنية وغير مباشرة، أن المتهمين بارتكاب المذبحة هم عناصر من منظمة "ليحي" سابقا، جرى ضمهم إلى صفوف الكتيبة 89، وهو ما شكل مصدر فخر واعتزاز لدى سديه. غير أن الإدعاء بأن أعضاء "ليحي" سابقا هم الذين ارتكبوا المذابح، ليس صحيحا وليس مبررا. فالمذبحة التي وقعت في قرية عين زيتون، ومذبحة مدينة اللد- وليس هاتين المذبحتين فحسب- نفذتهما وحدات تابعة لقوات "البلماح"، التي تضم "خيرة أبناء الشبيبة".

لقد طُرحت قضية مذبحة الدوايمة في جلستين على الأقل من جلسات الحكومة الإسرائيلية. ففي يوم 19 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948، أي بعد 20 يومًا من وقوع المذبحة، كلف رئيس الحكومة ديفيد بن غوريون، المستشار القانوني للحكومة يعقوب شمشون شابيرا (الذي تولى لاحقًا منصب وزير العدل) بالتحقيق في "الأحداث" التي وقعت في القرية. وقد كان ذلك هو نفس اليوم الذي نَشَرَ فيه ألترمان قصيدته "حول ذلك". غير أن النتائج التي توصلت إليها لجنة التحقيق المؤلفة من رجل واحد، ما زالت حتى الآن سرية يُحظر نشرها. فالتقرير الذي يتضمن نتائج التحقيق المذكور موجود في أرشيف الدولة، إلا إنه لا يسمح للباحثين بالإطلاع عليه، وذلك بموجب قرار أمين محفوظات (أرشيف) الدولة واللجنة الوزارية الخاصة، وبإذن ومصادقة من المحكمة الإسرائيلية العليا. كذلك فإن التقرير الذي أعده إيسار باري ما يزال مغلقًا وسريًا حتى الآن.

في الظاهر، يبدو أن قصيدة ألترمان تتحدث عن أحداث اللد التي وقعت قبل ذلك بأكثر من أربعة أشهر. غير أن مناحيم فينكلشتاين ادعى في كتابه "العمود السابع وطهارة السلاح" أن قصيدة "حول ذلك" لم تكتب عن المذبحة التي وقعت في اللد، وإنما عن مذبحة الدوايمة التي وقعت في 29 تشرين الأول/ أكتوبر 1948، قبل فترة قصيرة من كتابة القصيدة.

ويضيف فينكلشتاين أن الترمان علم على ما يبدو من سديه عن المذبحة التي راح ضحيتها عدد كبير من أهالي القرية، وتوفرت لديه معلومات عنها أكثر بكثير مما أتت به القصيدة، إلا إنه لم يرغب في أن يحرج ويمسّ سديه، الذي كان صديقا مقربا منه، ولربما أيضا خشي من أن يؤدي كشف الحيثيات والوقائع الكاملة للمذبحة إلى دفع الرقابة العسكرية للتدخل من أجل منع النشر.

مع ذلك، لا يرى الجميع في القصيدة إدانة قاطعة للمذبحة. فقد كتب يتسحاق لاؤور، الذي يَعتَبر ألترمان شاعر بلاط معروفًا، بأنه "ليس من المستبعد أن القصيدة نُظِمت بطلب مسبق". وفي رأيه فإن "القصيدة كتبت لغرض تربوي". ويعتقد حنان حيفر، الباحث المختص في شؤون الأدب، أن الترمان يعرض في قصيدته صوتا يهوديا صهيونيا يدين في الواقع ما أُرتكب من أعمال قتل وحشية فظيعة، ولكنه مع ذلك لا يجرؤ على إلقاء اللوم على الزعامة السياسية، وعلى صديقه بن غوريون، الذي قاد سياسة الاحتلال والطرد.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن ابراهام فيرد، الذي كان أحد قادة العملية في قرية الدوايمة، روى في عام 1996 قصة احتلال القرية، وسخر فيها من ألترمان الذي كان جنديا في اللواء الثامن، إلا أنه (أي ألترمان) سرعان ما أُستبعد من صفوف القوة المقاتلة نظرا لأن الحرب لم تتسق مع مصادر إلهامه الشعرية. وقد كتب فيرد وقتئذ قائلا: "لربما تناهت إلى مسامع الشاعر أثناء تجواله داخل ثكنات اللواء العسكري، قصص جرى تداولها آنذاك حول احتلال الدوايمة، الأمر الذي شكل صدمة له، لا سيما في ضوء التهويلات والمبالغات في رواية ما حدث في القرية، ووجد في ذلك فرصة سانحة ملائمة لنشر وثيقة دفاع عن رجال البلماح أيام عملية داني في اللد".

وقد أثارت القصيدة أصداء واسعة وحظيت بتقدير وإعجاب كبيرين في الفترة التي نشرت فيها، وكذلك فيما بعد. واقتبست صحيفة "هآرتس" القصيدة بأكملها وكتبت: "إن صرخة ألترمان تمس صميم الحرب والوسائل التي اتبعت فيها". ورأى المفكر شموئيل هوغو برغمان، من رجالات "ميثاق السلام" المعتدلين، في توزيع القصيدة على الجنود "حدثا مهما جدا"، وأشار أيضا إلى قصة "الأسير" لـ س. يزهار (يزهار سميلانسكي) التي صدرت في تشرين الثاني/ نوفمبر 1948، بينما كانت الحرب ما زالت مندلعة. وأضاف برغمان: "إن حقيقة كون مثل هذه المؤلفات قد نشرت في دولتنا أثناء الحرب، يشكل شهادة رائعة على حرية التفكير السائدة لدينا. من هنا فإنني أرغب في أن تشكل حرية التفكير هذه أساسًا ننطلق منه".

كذلك فقد كتب الباحث الأدبي باروخ كورتسويل بانفعال وتأثر في مقال له نشر تحت عنوان "أُسس إنسانية في الشعر المعاصر" ("هآرتس"، 4/2/1949) قائلا: "إن حقيقة ظهور هذه القصيدة على صفحات جريدة شبه رسمية أثناء الحرب، يشكل علامة مشجعة ومصدر فخر لأدبنا". وامتدح كورتسويل القصيدة بقوله: "إن القصيدة بأكملها عبارة عن صرخة ضمير... الضمير الإنساني بأكمله"، وهي في الوقت ذاته "صوت الضمير اليهودي".

كذلك فقد أكد الناقد الأدبي دوف سدان على السمة الإنسانية المميزة للقصيدة، التي تحولت إلى علامة فارقة في الثقافة الإسرائيلية المتشكلة. ووصف سدان قصة س. يزهار "الأسير"، بأنها "الوجه الآخر النثري" لقصيدة ألترمان.

جلسات الحكومة الإسرائيلية

في الجلسة الأولى للحكومة الإسرائيلية المؤقتة التي عقدت في 14 تموز/ يوليو 1948، في أعقاب مذبحة اللد، نوقشت بموجب جدول الأعمال عدة مواضيع وذلك على النحو الآتي: أ. الرقابة؛ ب. إيجازات؛ جـ. صلاحية المحاكم الدينية اليهودية (الحاخامية)؛ د. المحكمة العليا.

ولغاية الآن- عام 2016- أي بعد مرور 68 عامًا، ما زال جزء كبير من بروتوكول تلك الجلسة خاضعًا لحظر النشر من قبل الرقابة. وفي الجزء العلني من البرتوكول (الذي يبدأ من الصفحة 26)، ورد على لسان بن غوريون، الذي زار عددًا من المواقع والأماكن التي احتلتها القوات الإسرائيلية، ومن ضمنها مطار اللد (وليس المقصود هنا مدينة اللد نفسها) قوله: "لقد حدثت أمور تكاد لا تصدق، أمور كانت حتى يوم الخميس موضع تفكير. لقد تحولت إلى واقع لم يكن واردا في الحسبان، إذ إن الخريطة لا تكشف ذلك". ويضيف بن غوريون مستندا إلى ما تحقق من نجاحات: "لقد تعلمت شيئا إضافيا، وهو أن الحرب ليست هدرا أو خسارة فقط، فقد كسبنا شيئا لن يكون في مقدور إسرائيل أن تقيمه طوال السنوات العشر المقبلة، ألا وهو مطار اللد، والذي لم يلحق به أي ضرر تقريبا، ما عدا الضرر الذي تسبب به الهجوم الذي شنه جيشنا، وهو ضرر بسيط جدا. إن قيمة هذا المطار تقدر بالملايين".

اختفاء وثيقة

أحد الأصوات البارزة التي ارتفعت وقتئذ ضد ما تم ارتكابه من أعمال قتل في كل من اللد والدوايمة، كان صوت وزير الزراعة الإسرائيلي حينئد، أهارون تسيزلينغ، عضو كيبوتس عين حارود الموحد، وممثل حزب "مبام" في الحكومة، والذي أدلى بأحد التصريحات الأكثر خطورة التي لم يسمع مثيل لها على الإطلاق حول مائدة الحكومة.

وجاء على لسان الوزير تسيزلينغ قوله في جلسة الحكومة التي عقدت في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 1948:

"تلقيت رسالة من شخص واحد فيما يتعلق بهذا الموضوع. يتعين عليَّ القول هنا بأنني كنت على معرفة وإطلاع على الوضع في هذه المنطقة لدينا، وقد طرحت هذا الأمر في غير مرة على هذه المائدة. بعدما قرأت ما ورد في الرسالة التي تلقيتها، لم يغمض لي جفن طوال الليل. شعرت أن شيئا ما قد حدث تأذت له روحي وروح بيتي وأرواحنا جميعا هنا. لم أستطع أن أتصور من أين أتينا وإلى أين نحن ذاهبون (...) لم أوافق دائما عندما ألصقوا بالانكليز كنية نازيين. لم أكن أرغب في استخدام هذا التعبير تجاههم، على الرغم من أنهم ارتكبوا أفعالًا كأفعال النازيين. ولكن مثل هذه الأفعال النازية أُرتكبت على أيدي يهود، وهو أمر هز كياني بأكمله. نحن مضطرون للتلوّن أمام العالم، ولذلك فإنني أوافق على أن لا نكشف بأننا نحقق في مثل هذه الأعمال، لكن ينبغي التحقيق فيها".

هذا النص يظهر لدى توم سيغف في كتابه "1949" (الإسرائيليون الأوائل) ويقتبس سيغف من أرشيف "الحركة الكيبوتسية الموحدة"، مع إحالة دقيقة إلى المصدر: (تسيزلينغ)، وحدة 9، صهريج 9، ملف 3.

كذلك يقتبس بيني موريس هذا النص نفسه في كتابه "تصحيح خطأ". غير أننا لم ننجح في العثور على هذه الوثيقة في المكان الذي قرأه فيه سيغف وموريس. كذلك ليس من المعقول أن تكون جلسة الحكومة قد انتهت بأقوال تسيزلينغ، فلا شك في أن وزراء آخرين قد تحدثوا في نفس الجلسة، ولكن كما أسلفنا فإن محضر الجلسة ما زال سريًا يحظر نشره كاملًا.

ليس لديَّ أي شك في أن تسيزلينغ قصد في أقواله المذبحة التي أُرتكبت في الدوايمة قبل 18 يومًا من جلسة الحكومة المذكورة. وعلى الأرجح فإن الأقوال التي أدلى بها تسيزلينغ، قيلت في أعقاب رسالة بعث بها جندي إسمه ش. (شبتاي؟!) كابلان، إلى رئيس تحرير صحيفة "عل همشمار" إليعيزر بيري، بتاريخ 8/11/1948، وتحدث فيها عن مذبحة الدوايمة. ليس في وسعنا أن نؤكد ذلك بصورة قاطعة، نظرا لأنه جرى "تنظيف" أرشيف تسيزلينغ، الذي حُفظت فيه الرسالة.

وتُعتبر رسالة الجندي ش. كابلان، التي كتبت في زمن حقيقي، رسالة مهمة وذات مغزى كبير من نواحٍ كثيرة جدا، ومن هنا فهي تعتبر، كحال الوثائق والرسائل القيّمة، ذات صلة وأهمية في هذا الوقت أيضًا، ولذلك سننشرها هنا للمرة الأولى بأكملها.

يشار إلى أن الجندي الذي كان شاهدا على ما حدث (في مجزرة الدوايمة) قص ما شاهده أمام صديق له، وهذا الصديق ش. كابلان (من أعضاء حزب "مبام")، قام بدوره بنقل الرسالة إلى إليعيزر بيري، رئيس تحرير "عل همشمار" وعضو لجنة الحزب السياسية.

قتلوا الأطفال بسحق جماجمهم بالعصي

هنا النص الكامل لرسالة الجندي:

"الرفيق إليعيزر بيري.. تحية وبعد،

"قرأت اليوم المقالة الافتتاحية لصحيفة "عل همشمار" والتي نوقشت فيها مسألة سلوك جيشنا الذي يستطيع فعل كل شيء ما عدا كبح جماح غرائزه.

"إليك شهادة نقلها لي جندي تواجد في الدوايمة غداة احتلالها. هذا الجندي مثقف وذو صدقية لا غبار عليها، وهو رجل محسوب علينا. لقد أفصح أمامي عما يختلج في صدره بغية إزاحة العبء الجاثم على صدره جراء إدراكه هول حقيقة أن رجالنا المتحضرين يمكن لهم أن يبلغوا هذا الحد من الهمجية، وقد فعل ذلك أمامي نظرًا لأنه لم يعد هناك الكثير ممن لديهم القدرة على الإصغاء. لم يكن هناك قتال ولا مقاومة. لقد قَتَلَ طلائع المحتلين ما بين ثمانين ومئة عربي من النساء والأطفال. قتلوا الأطفال بسحق جماجمهم بالعصي. لم يبق بيت واحد إلا وفيه قتلى. الفوج الثاني من قوات الجيش المُقتحمة للقرية، كان فصيلة ينتمي الجندي صاحب الشهادة إلى صفوفها.

"بقي في القرية رجال ونساء عرب حاصرهم الجنود داخل البيوت وتركوهم دون طعام أو شراب. بعد ذلك جاء خبراء متفجرات وأُمروا بنسف البيوت على رأس من فيها. أحد القادة أمَرَ خبير متفجرات بإدخال امرأتين مسنتين إلى أحد البيوت المزمع نسفها على من فيها. رفض خبير المتفجرات وقال إنه غير مستعد لتلقي الأوامر سوى من قائِدهِ المباشر. عندئذ أمر القائد جنوده بإدخال المرأتين المسنتين لينفذ بعد ذلك هذا الفعل الدنيء. أحد الجنود تفاخر بأنه اغتصب امرأة عربية وأطلق الرصاص عليها. كان ثمة امرأة تحتضن طفلا وضعته في نفس اليوم، أُجبرت على تنظيف الساحة التي يتناول الجنود فيها طعامهم. وبعد مرور يوم أو يومين من عملها أطلقوا الرصاص عليها وعلى طفلها الرضيع. ويروي الجندي أن قادتهم الذين يُنظر إليهم في المجتمع كأشخاص مهذبين ومتحضرين، تحولوا إلى قَتَلة سَفَلة، ولم يكن ذلك في خضم عاصفة قتال أو ثورة غضب، وإنما انطلاقًا من نهج يقوم على الطرد والإبادة. فالمهم والمرغوب هنا بقاء أقل ما يمكن من العرب. هذا المبدأ شكل المحرك السياسي لارتكاب سائر أعمال الطرد والفظائع التي لا يعارضها أحد، سواء في صفوف الهيئة المكلفة بقيادة العملية، أو في صفوف القيادة العسكرية العليا. لقد مَكثتُ شخصيًا في الجبهة مدة أسبوعين واستمعت إلى قصص على لسان جنود وقادة تنم عن تفاخر وتبجح بتفوقهم في أعمال مطاردة وقنص "فرائسهم". كان الإجهاز على العرب، بصورة عبثية وعشوائية، وفي كل الظروف، يشكل مهمة جليلة، وكانت ثمة منافسة على الفوز في هذه المهمة.

"نحن في مأزق... فأي محاولة لإطلاق صرخة احتجاج إزاء ما يجري، من خلال الصحف ووسائل الإعلام، سوف تُفسر على أنها مساعدة لجامعة الدول العربية، ذلك لأن ممثلنا سيرفض الشكاوى بحجج واهية.

"في الوقت عينه فإن الإمتناع عن الرد أو التعليق على ما جرى، يعتبر بمثابة تأييد لمثل هذه الأعمال الدنيئة. لقد قال لي الجندي إن (مذبحة) دير ياسين لا تشكل ذروة الفلتان. وهل يعقل أن نرفع صوتنا احتجاجًا على ما جرى في دير ياسين وأن نصمت تجاه ما هو أفظع بكثير؟!

"يجب إثارة ضجة في القنوات الداخلية، والمطالبة بإجراء تحقيق داخلي ومعاقبة المتهمين.

"كما ينبغي، أولا وقبل أي شيء، إقامة شعبة خاصة في الجيش لكبح جماح الجيش ذاته. إنني أتهم أولًا الحكومة التي لا تعبأ بمكافحة مثل هذه الظواهر، بل ولربما تقوم بتشجيعها بصورة غير مباشرة، فالتقاعس في حد ذاته عن القيام بما يجب، يعتبر تشجيعًا. لقد أخبرني قائدي العسكري بوجود أمر غير مكتوب يقضي بعدم الاحتفاظ بأسرى، والتفسير لـ"أسرى" يعطيه كل جندي وقائد وفق ما يرى. ولذلك فإن الأسير يمكن أن يكون رجلا عربيا، أو امرأة أو طفلا عربيا. وهذا لا يتم فقط في فاترينات العرض مثل المجدل والناصرة.

"إنني أكتب لك ذلك كي يعلموا في المؤسسة والحزب (مبام) الحقيقة، وكي يقوموا بعمل شيء فعال حيال ذلك. وعلى الأقل لا يجوز لهم الانجراف خلف الدبلوماسية المزيفة التي تتستر على الدماء والقتل، كما يجب عليكم في الصحيفة أن لا تمروا على هذه القضية، طالما كان ذلك ممكنا، مرور الكرام.

ش. كابلان"...

هذه الرسالة التي اختفت أيضًا، زودنا بها مشكورًا بيني موريس.

يشار هنا إلى أن أرشيف تسيزلينغ هو أرشيف خاص موجود في "أرشيف ياد تبنكين" (سابقا "أرشيف الكيبوتس الموحد") وذلك تحت مسمى "أرشيفات خاصة". وقد سُحبت من هذا الأرشيف الخاص ليس فقط بروتوكولات جلسات الحكومة قبل عشرات السنين، وإنما سُحبت منه أيضًا رسائل شخصية.

(الضفة الثالثة)

التعليقات