05/11/2017 - 17:48

من انتصار الثورة الروسية إلى صعود الاشتراكية الصينية

يتذكر العالم، في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 حدثًا تاريخيًا غيَّر مسار البشرية – إنه انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917 وتأسيس سلطة المجالس – "السوفييت" باللغة الروسية – وهو أول نظام في التاريخ الحديث يجسد حكم الطبقات

من انتصار الثورة الروسية إلى صعود الاشتراكية الصينية

يتذكر العالم، في السابع من تشرين الثاني/ نوفمبر 2017 حدثًا تاريخيًا غيَّر مسار البشرية – إنه انتصار الثورة الاشتراكية في روسيا عام 1917 وتأسيس سلطة المجالس – "السوفييت" باللغة الروسية – وهو أول نظام في التاريخ الحديث يجسد حكم الطبقات المسحوقة ويهدف إلى بناء الاقتصاد والمجتمع على أسس العدالة الاجتماعية.

يمكن أن يقلل البعض اليوم من أهمية هذا الحدث التاريخي، لأن الاتحاد السوفياتي سرعان ما غرق في التناقضات الداخلية، ووقع تحت حكم ديكتاتورية ستالين الدموية، وعندما باشر بسياسة الانفتاح في ثمانينات القرن الماضي، انتهى به المطاف إلى انتحار سياسي لم يسبق له مثيل في التاريخ، وتفكيك هذه القوة العظمى بيد قيادتها وسرقة ممتلكات شعوبها وتحويلها إلى ثروة خاصة لقلة من "الأوليغاركيين".

كان اليوم الحاسم في انتصار الثورة الروسية، هو الـ25 من أكتوبر 1917، وفقًا للتقويم الشرقي، مع استيلاء الجنود الموالين للحزب البلشفي (الشيوعي) على مدينة سانت بطرسبرج، عاصمة روسيا في ذلك الحين. بعد مائة عام بالضبط من هذا الحدث، في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 2017، وعلى بُعد آلاف الكيلومترات، في مدينة بكين عاصمة الصين، تم عقد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني. وهو مؤتمر أكّد آلاف المندوبين المشاركين فيه، باسم تسعين مليون رفيقة ورفيق في هذا الحزب، على عزمهم على السير قدما على طريق الاشتراكية كما رسمها ماركس ولينين وماو.

ليست الصين اليوم دولة "هامشية" تحن إلى أمجاد الماضي، بل إنها القوة الصاعدة على الساحة العالمية، فقد تحوّلت هذه البلد خلال 68 عامًا من الحكم الشيوعي من واحدة من أفقر دول العالم، إلى أكبر وأهم اقتصاد، من ناحية قوته الانتاجية، وتظهر الصين كناشط مركزي في مواجهة قضايا التطوير والحفاظ على البيئة على مستوى العالم. وبهذه المناسبة اختارت مجلة "إيكونوميست" الانجليزية، التي تشكّل رمزا للفكر الرأسمالي، أن تظهر صورة الأمين العام للحزب، شي جين بينغ، على غلافها، تحت العنوان "الرجل الأقوى في العالم".

جوهر الصراع التاريخي

لم يأتِ انتصار الثورة الروسية من فراغ، فقد شهد القرن التاسع عشر، إلى جانب تقدُّم الثورة الصناعية، تنظيم الطبقة العاملة من خلال النقابات المهنية والأحزاب الاشتراكية، كما شهد العديد من الانتفاضات العمالية والشعبية. ولكن الصراع بين البرجوازية والطبقة العاملة قد دخل مرحلة جديدة لدى انتصار الثورة الروسية، لأن العمال في الاقتصاد والمجتمع الرأسمالي مستغلّون ومحكومون، بطبيعة الحال... ومع إنشاء الدولة الاشتراكية صار هنالك، وللمرة الأولى، نظام لا تحكمه الطبقات التي يملك أفرادها وسائل الانتاج. وانتقل الصراع من الدفاع عن حقوق العمال تحت النظام الرأسمالي إلى التحدي الأكبر – تحدّي بناء البديل.

لم يبقَ انتصار الثورة الروسية حدثًا محليًا بل هو حدث هزّ العالم أجمع، وشكل نموذجًا ملهمًا للعديد من حركات التحرر السياسية والاجتماعية في دول المراكز الامبريالية وفي المستعمرات. ولم يغب عن البرجوازية العالمية الخطر الذي يشكله هذا النموذج. فخلال السنة الأولى لحكم المجالس وباستغلال انشغال الحكم الثوري الجديد في حرب أهلية مدمِّرة ضد بقايا حكم الاقطاع المحلي، اجتاحت جيوش من خمس عشرة دولة أرض روسيا الجديدة من كل اتجاه، ونذكر من ضمن الغزاة: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واليابان والهند والصين.

لا شك أن التدمير شبه الكامل لروسيا الاشتراكية، وسفك دماء ثوارها قبل أن يتأسس الحكم الاشتراكي كانا من العوامل التي سببت وسمحت بتغلب النمط البيروقراطي على التيار الثوري... وبالرغم من ذلك استطاع الاتحاد السوفياتي بناء نفسه كقوة اقتصادية وعسكرية تنافس الإمبريالية حول العالم وهَزَم الاجتياح النازي في الحرب العالمية الثانية وساعد على تحرر العديد من شعوب العالم من الاستعمار وسهل بناء أنظمة اشتراكية في بعض الدول.

بيد أن تطبيق النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي والدول المرتبطة به قد تميز بوجود إخفاقات خطيرة مصدرها سيطرة طبقة بيروقراطية ضمنت لنفسها الامتيازات المادية وأبعدت الطبقة العاملة عن دوائر صنع القرار ومنعت، بقبضة من حديد، تطبيق الديمقراطية الشعبية التي وعد بها منظرو الاشتراكية. وسيطرت الرؤية البيروقراطية أيضًا على الصراع العالمي بين "معسكر الامبريالية" و"المعسكر الاشتراكي"، وتم استبدال المبادئ التحررية والاعتماد على الحركات الثورية في حسابات السيطرة وقرارات المركز. هذه الحسابات والقرارات قد أدت إلى سلسلة من الأخطاء وصلت احيانًا إلى مستوى الجريمة، مثل جريمة دعم النظام الصهيوني في أيام نكبة 1948.

وقد استخدمت الأنظمة الرأسمالية إخفاقات الاتحاد السوفياتي ونظامه القمعي كمادة لدعايتها الهادفة إلى إبعاد الطبقة العاملة عن خيار الاشتراكية. فقد لجمت التناقضات الداخلية والخارجية التطور الاقتصادي داخل المعسكر الاشتراكي وأفسدت المجتمع وفسحت المجال لحالة من اللامبالاة والجمود وتكريس المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، وهي التي أدت، في نهاية المطاف، إلى الانهيار.

سقط الاتحاد السوفياتي، ولكن الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية لا يزال هو محور تطوُّر البشرية في العصر الحديث. فقد شهدنا أزمة شاملة لأركان النظام الرأسمالي منذ انهيار البنوك في الولايات المتحدة عام 2008 وأزمة الديون في الاتحاد الأوروبي. ويظهر أن هذه الأزمة ليست من الأزمات الدورية التي تليها مراحل من التطور السريع، بل هي أزمة تتعلق بجوهر مبنى الاقتصاد، ولم تخرج هذه الدول "المتطورة" رأسماليًا من أزمتها إلى الآن. حيث تنجم عن هذه الأزمة الاقتصادية أزمات سياسية وظهور تيارات سياسية لم تملك فرصا للنجاح قبل حدوث الأزمة، على شاكلة اليمين المتطرف وعنصريته المكشوفة، واليسار الاشتراكي الذي يطرح تغيير أولويات الاقتصاد لصالح الطبقات الشعبية. ولا يزال الصراع القائم بين اليمين النيوليبرالي الخاضع للإمبريالية وبين الحركات الشعبية الاشتراكية هو عنوان المرحلة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وجنوب وشرق آسيا.

من الفشل في روسيا إلى النجاح في الصين

حاول المحللون الرأسماليون، من أكاديميين وإعلاميين ورجال سياسة، ممن يسيطرون مسارات تفكيرنا، قراءة سقوط الاتحاد السوفياتي باعتباره نهاية التجربة الاشتراكية، وقد استنتجت افتراضاتهم بأن الرأسمالية هي الطريق الوحيد لإدارة إقتصاد ناجع. وقد قَبِل العديد من القادة في النقابات المهنية والأحزاب العمالية هذا الطرح كمقولة مُنزلة وكأنه حُكم على العمال أن يكون سقف نضالهم متمثلا في تحسين ظروفهم المعيشية داخل النظام الرأسمالي.

ولكن، وفي مواضع مختلفة، لا تزال بضعة دول اشتراكية ترفض السير بإرادتها الى مزبلة التاريخ، وقد حافظت على نظامها، ومن ضمنها الصين وفيتنام ولاوس وكوبا. أما روسيا البيضاء، الكائنة في قلب أوروبا، وبعد إعلان استقلالها عام 1991 إثر سقوط الاتحاد السوفياتي، وبعد أن ذاقت مرارة الرأسمالية، فقد اختارت عام 1994 لوكاشنكو رئيسًا لها، على قاعدة برنامج إعادة النظام الاشتراكي والحفاظ على حقوق العمال والفلاحين المكتسبة منذ عهد السوفيات. وكذلك حافظت بعض الدول الأفريقية، ومنها تنزانيا وأثيوبيا، على أسس اقتصاداتها الاشتراكية، بالرغم من تعاملها مع القوى الغربية والاصلاحات...

في سنة 2000 اجتمع ممثلون عن 191 دولة لمؤتمر حدد "الأهداف الإنمائية للألفية" منها القضاء على الفقر المدقع والجوع، وتعميم التعليم الابتدائي، وتعزيز المساواة بين الجنسين، وتخفيض معدل وفيات الأطفال، الخ. وقد اتفق الجميع على وجوب تحقيق جميع هذه الأهداف السامية حتى العام 2015. وبعكس اعتقاد "علماء" الاقتصاد القائل بأن الرأسمالية هي الأسلوب الأنجع للتطوُّر الاقتصادي فقد شكلت الدول الاشتراكية، وعلى رأسها الصين وفيتنام، رأس الحربة في معركة الإنسانية ضد الفقر والجهل والمرض وحققت الانجازات الأكبر نحو الحصول على الأهداف الألفية.

عاشت الصين بالتحديد مرحلة نمو اقتصادي لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. وقد تحوّلت خلال مرحلة قصيرة من دولة زراعية يعمل معظم سكانها على توفير لقمة العيش (أو الأرز) لأنفسهم إلى "ورشة الصناعة للعالم". وفي خلال السنوات الخمس عشرة الماضية عمّرت الصين مدن حديثة جديدة لثلاثمائة مليون شخص، وهو عمل يشبه في ضخامته بناء ولايات متحدة جديدة أو أوروبا غربية جديدة بأكملها.

ومنذ سنة 2000 أخذ نمو الصين يظهر كعامل مركزي في الاقتصاد العالمي. في المرحلة الأولى شعر الجميع بالأمر من خلال ازدياد طلب الصين على الموّاد الخام للصناعة والبناء والمنتجات الغذائية لإطعام سكانها، ومن جهة أخرى، وفّر الاقتصاد الصيني جميع أنواع المنتوجات الصناعية بسعر زهيد. وعندما كانت الدول الغربية الرأسمالية تتحكم بالاقتصاد العالمي من خلال النظر إلى مصالحها الخاصة وضمان فرص الربح لشركاتها العابرة للقارات، وانتهاجها لسياسة الإملاءات، فإن الصين قد أعلنت موقفها ضد التدخّل في الشؤون الداخلية للغير ومع التعاون للمصلحة المتبادلة مع الجميع. وفي السنوات الأخيرة سرعان ما تحوّلت الصين من مجرد قوة تجارية، إلى مستثمر وشريك مركزي في المشاريع التنموية حول العالم. ونتيجة لهذه التقلبات، فإن العالم، ومنذ العام 2000، يشهد تغييرًا جوهريًا في ميزان القوى الاقتصادي بين المراكز الإمبريالية وبين دول العالم الثالث المستغلة/ النامية.

اعتمد الحزب الشيوعي الصيني منذ أربعين عامًا نهج "الإصلاح الاقتصادي" الذي يشمل الانفتاح على الاستثمار الأجنبي، والسماح بالملكية الخاصة، وتشجيع المبادرات الرأسمالية المحلية، ولكن مع الحفاظ على أولوية القطاع العام، ودور الحزب والدولة المخطِّط والموجّه في تطور الاقتصاد. وقد اعتقد العلماء الغربيون بأن هذه المرحلة ما هي إلا مرحلة مؤقتة، وأن الصين، إن كانت ترغب في استكمال تطورها الاقتصادي، فلا بدّ لها من التخلص من حكم الحزب الشيوعي ومن تفكيك القطاع العام والتحوّل إلى اقتصاد رأسمالي "طبيعي".

وأتى مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني التاسع عشر ليؤكد للعالم أجمع أن الصين فخورة وواثقة بنمط اقتصادها الاشتراكي وقد أعلنت قيادة الحزب انها عازمة على تقوية سمات الصين الاشتراكية التي تعتبرها نموذجًا مطروحا على العالم من أجل حلّ قضايا التنمية والاستقلال.

لماذا يهمنا الأمر؟

تعوّدنا، في أيام الاتحاد السوفياتي وانقسام العالم إلى معسكرين، أن نرى كل صراع محلي باعتباره جزءا من الصراع العالمي. أما الصين فقد اعتزمت منذ أيام دنغ شياو بنغ (زعيمها في السبعينات والثمانينات) أن لا تشعل صراعًا عالميًا على مناطق نفوذ وتحاول انجاز معجزة جديدة في تاريخ البشرية لتُبدِل الولايات المتحدة كقوة عظمى أولى في العالم من دون اللجوء إلى حروب قد تكون مدمّرة للجميع. ولكن التغييرات السياسية والاقتصادية السريعة التي نشهدها في العالم لا تقل أهمية عن التغييرات التكنولوجية والعلمية، حتى دون الصراعات الدموية الدراماتيكية.

حتى بالنسبة لمن لا يهتم بالاقتصاد والعدالة الاجتماعية أو نتيجة الصراع التاريخي بين الرأسمالية والاشتراكية، فإنَّ الفلسطينيين هم من أكثر المعنيين بتغيير النظام العالمي، لأنه لا وجود لفلسطين كدولة، ولا حقوق لشعبها، في إطار النظام العالمي القائم. وما من شك بأن الهيمنة الإمبريالية-الصهيونية على منطقتنا هي جزء من نظام الباكس-أميركانا الذي يعدّ أيامه وسنواته الأخيرة.

ولكننا، في هذا الطور، لن نشهد ظهور قوة إمبريالية جديدة على حساب غيرها لكي تنافسها على استغلال فقراء العالم، بل نشهد صعود نظام اشتراكي يدعو للعدالة الاجتماعية، ويأتي هذا النظام من دولة فقيرة من العالم الثالث، دولة كانت من ضحايا الاستعمار واجتياحاته واحتلالاته. والكثيرين ممن لم يقتنعوا بالاشتراكية من حيث المبدأ والفكر، قد يتأثرون بالنموذج الصيني ويحاولون تطبيق بعض صفاته بسبب انجازاته الملموسة.

إننا، كبشر، نعيش جميعا على ظهر كوكب واحد صغير. لقد أثبتت الرأسمالية بأنها غير قادرة على إدارة هذا العالم وتوفير حاجات سكانه، وقد تنامت الكراهية والعدوانية بين البشر من خلال تقديس المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة، وقد قادت العالم إلى حروب لا نهاية لها، كما قادت إلى تدمير البيئة. ويمكن لنا أن نرى في قيادة الصين للبحث عن طاقة نظيفة مستدامة، مثل التحوُّل إلى استعمال الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية، كبداية الطريق نحو عالم آخر تدير فيه الانسانية أمورها من خلال رؤية علمية وبما فيه مصلحة الجميع.

(*) الكاتب ناشط سياسي ومحرر مدونة "حيفا الحرة"

التعليقات