27/11/2017 - 14:36

القراءة فرضٌ وليست خيارًا...

القراءة هي المقاوم النبيل والجميل للتعصبات بكل أنواعها وتجلياتها الطائفية والعشائرية والمذهبية والقومية والجنسية والحزبية وتحمينا من أنفسنا ومن المتربصين بنا، وهي سلاحنا الأقوى في مواجهة التحديات بأشكالها كافة.

القراءة فرضٌ وليست خيارًا...

إذا كانت كلمة اقرأ هي أول كلمة نزل بها الوحي على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وبفعل الأمر فهذا يعني أن القراءة ليست خيارًا، بل هي فرض وأهم عمل ممكن أن يعمله الإنسان المسلم،لأنها سبقت الفروض والواجبات الدينية الأخرى، فالقراءة ستؤدي إلى علم الإنسان بأمور لا يعلمها، ستخرجه من ظلمات الجهل بالشيء إلى نور معرفته، ولو أن المسلمين يطبقون فريضة القراءة ويشددون على ضرورتها مثلما يشددون على واجبات دينية أخرى، لكان وضع العالم كله مختلفًا جدا.

مهم جدًا الإشارة إلى أن القراءة التي أمر الله بها رسوله ليست فقهية فقط، فالآية الكريمة تتحدث عن خلق الإنسان والتعلّم بالقلم. إلا أن المشكلة هي في فهم البعض بأن العلم المقصود مقتصر على العلوم الدينية الفقهية، وبهذا لعب فقهاء السلاطين دورًا كبيرًا، فشجّعوا التبحّر في الأبحاث الفقهية حتى صار لدى الأمة ملايين من طلاب الفقه والفقهاء والمتفيهقين، وصار لكل آية وكلمة تفسير على وجوه كثيرة، معاني ظاهرة وأخرى باطنة وإلخ، حتى صار البعض يكفّر البعض ويتهم الآخرين بالردة أو الزندقة والكفر، وكل فرقة صارت تدّعي أنها الفرقة الناجية الوحيدة والبقية إلى النار. وعبر تاريخ المسلمين قُتل مئات الآلاف من المسلمين في حروب ومعارك مذهبية، ادعى كل طرف فيها أنه صاحب الطريق القويم. وما عاد يجرأ مواطن على التفكير الحر خشية على مصدر رزقه أو حتى على حياته.

وفي المقابل أُهْمِل الحثُّ على العلوم العملية الأخرى، مثل الطب والفلك والسياسة والكيمياء والفيزياء والبيولوجيا والصناعات والعلوم الإنسانية والفلسفة بشكل خاص، بل وحرّم البعض الفنون أو ألوانا منها، ونشأت منافسات في المغالاة والتشدد في الشكليات لإشغال الناس بما هو هامشي جدًا عما هو جوهري في حياتهم ومصائرهم، وقويت الدعوات لرفض كل ما هو مستورد، والمقصود هو الفكر. فالاستيراد الاستهلاكي مسموح جدًا ومرحب به، أما الفكر فهو أجنبي ويهدد قيمنا وأخلاقنا إلخ من ترهات يقصد بها الإبقاء على الحاكم وطريقة حكمه وعدم الخوض فيها وتركها لأولي الأمر بحسب فقه السلطان.

ورغم ذلك فهناك حاكم يختلف عن آخر، فمنهم المنفتح ومنهم الأشد رجعية وانغلاقا، ومنهم الظالم ومنهم من يحاول العدل، طبعًا كل هذا يأتي بعد مبايعة الحاكم، فهذه لا نقاش فيها إلا بالحرب وسقوط الضحايا.

في الحقب التي أتيح للمسلمين فيها الإبداع والتعلم وترجمة العلوم والفلسفات والآداب وخصوصًا الإغريقية منها، حققوا إنجازات كبيرة بفضل رفد ما لديهم بعقول وأفكار من شتى أرجاء الأرض فتقدموا وتفوقوا.

أما حيث حوصر الإبداع ومنع التفكير أو التساؤل أو الشك، وكُبح جماح العقل وحل السياف والجلاد والرقيب الفقيه، فقد ذبلت الأفكار واقتاتت من نفسها وتلاشت القدرة وحتى الرغبة على الإبداع. وفي المجال الفكري صاروا نسخات مكررة عن سابقيهم بدون أي جرأة على التعديل. واكتفى الناس بما يقدم لهم من قبل الحاكم ومفتي دياره وهم صاغرون حتى تأقلموا على الذل والخوف، وصار يحكمهم لصوص ومجرمون يفرضون عليهم المبايعة والولاء غير المشروط أو العقاب والحرمان وحتى الإبادة.

عندما نقول حرية الإبداع والتفكير فهذا يشمل كل جوانب الحياة، فإذا أنقصت عاملا واحدا مسست بالعوامل الأخرى وبصحتها وحيويتها. فحرية الفكر تشمل البحث والشك بالنظريات العلمية والروحية والمسلّمات وبشرعية الحكم والحاكم والمسؤول وعلاقات الإنتاج والظواهر الاجتماعية، وتسعى لتعزيز النقد والرقابة على أجهزة الحكم وتعميق الشفافية.

هناك أنظمة غير عربية دكتاتورية وعربية ادعت التقدمية فرضت الرقابة المشددة على الفكر، بل وهناك من يحاول فرض احتلاله على الآخرين وهو يدعي الديمقراطية والحرية، ويوجه تهمة الإرهاب لمن يقاومه رغم انفتاحه في اتجاهات ومجالات أخرى.

في السنوات الأخيرة بدأت تظهر في المكتبات العامة في قرانا ومدننا نوادي قراء. أنا شخصيا عضو في اثنين منها في نحف ومجد الكروم. وهناك نوادي عديدة أتابع نشاطها على الفيسبوك. هؤلاء القراء من مختلف الشرائح الاجتماعية والأجيال من عمال وربات بيوت وموظفين وأصحاب مهن حرة وطلاب مدارس من مختلف المراحل.

الهدف من هذه اللقاءات التي أدعو لتوسيعها هو تحويل القراءة إلى ثقافة عامة وظاهرة جماهيرية وإيجاد مسارب مفيدة لصرف وقت الناس فيها. فكلما زادت القراءة اتسعت الثقافة وتعمقت الرؤية وابتعدنا أكثر عن الصغائر التي تتحول بسرعة إلى عنف.

بالقراءة نحارب العنف في مجتمعنا بأشكاله الكثيرة وهذا يشمل العنف ضد النساء.

القراءة زاد روحي نحتاجه في مواجهة ما يسمى ضغط مستوى الحياة، فتهدئ وتريح من وطأة المادية الباردة الصفيقة.

في الوضع الدولي والإقليمي والمحلي الذي لا نحسد عليه فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ودوليا نحتاج إلى القراءة لتمنحنا شيئا من التفاؤل والأمل والتعلم من تجارب الآخرين.

القراءة هي المقاوم النبيل والجميل للتعصبات بكل أنواعها وتجلياتها الطائفية والعشائرية والمذهبية والقومية والجنسية والحزبية وغيرها.

القراءة تحمينا من أنفسنا ومن المتربصين بنا، وهي سلاحنا الأقوى في مواجهة التحديات بأشكالها كافة.

التعليقات