18/01/2018 - 18:11

التفكير في المجتمع المدني من وجهة نظر عزمي بشارة

هذا المقال معني بالدرجة الأولى بإبراز أنماط التفكير حول واقعة وفكرة المجتمع المدني في سياقات تاريخية مختلفة، فيمكن القيام بذلك عبر التطرق بشكل سريع، لكنه مكثّف معرفيا، إلى ثلاث لحظات تحليلية يمكن اعتبارها بمثابة تقاليد معرفية قائمة

التفكير في المجتمع المدني من وجهة نظر عزمي بشارة

ارتبطت استعادة مفهوم المجتمع المدني في النظرية السياسية الحديثة بسياق التحول والتغيير الذي عرفته بلدان أوروبا الشرقية مطلع السبعينيات ونهاية الثمانينيات، حيث كان للحركة النقابية والجمعوية دور بارز في صناعة وتأطير التحولات الثورية الجارية حينها. وتشهد مجتمعاتنا العربية اليوم أمرا شبيها بتلك التقلّبات إثر ثورات الربيع العربي التي انطلقت شرارتها في تونس في 17 ديسمبر 2010، وتحولت الحرية والديمقراطية فيها إلى مطلب شعبي جماهيري بارز، واجهه النظام الاستبدادي العربي بعنف كبير. لكن كان من الملاحظ في هذا الحراك غياب شبه تام لأدوار المجتمع المدني بل سلبيته إزاء التغيرات الحاصلة في بعض الأحيان، إذا استثنينا الحالة التونسية وفاعلية الاتحاد العام التونسي للشغل فيها. وهو ما يتطلب إعادة التفكير في مجتمعنا المدني العربي الذي تم اختزاله في منظمات غير حكومية ميزتها الأساسية "الاسترخاء خارج السياسة وإدارة الظهر للعملية السياسية".

والمجتمع المدني من دون سياسة وخارج المعركة من أجل الديمقراطية هو عملية إجهاض كما يقول المفكر عزمي بشارة. إذن فالإشكال الرئيسي الذي ينبغي التوجه إليه بالتحليل ذو بعدين أساسيين: أولهما النشأة أو الصيغة المشوّهة لنشأة المجتمع المدني في ظل الدولة العربية الحديثة وتسخيره كأداة من أدواتها، وثانيهما مراجعة المواقف العربية من المجتمع المدني والتي اتسمت بطابع ميكانيكي غير جدلي ونقدي، أسهمت بقصد أو بغير قصد، في دعم منظور الدولة العربية للمجتمع المدني كحالة محايدة إزاء كل ما هو سياسي. ولتجاوز هذه الحالة الانفصامية لواقع المجتمع المدني العربي لا بد من عملية تفكير نقدي في المفهوم وفي تاريخيته وسياقات نشأته وتمفصلاته.

يمكن القول إن كتاب المفكّر العربي عزمي بشارة "المجتمع المدني: دراسة نقدية[1]" يمثل حالة فريدة من الكتابات العربية حول فكرة المجتمع المدني ومفهومه، لما انطوى عليه الكتاب من صناعة نظرية ونقدية تعيد إلى الأذهان ما جرى عند مناقشة المفهوم غربيا بُعيْد الثورات التي عرفتها أوروبا الشرقية نهاية الثمانينيات، حيث نشأ حيّز عام لا تتحكّم فيه السلطة قائم على علاقة جدلية ونقدية مع الدولة والسوق، وبمعنى آخر مشتبك مع العملية السياسية، هو الذي تمّت تسميته بالمجتمع المدني. وذلك بعد أن ظل المفهوم غائبا عن الأدبيات والنظريات السياسية لفترة طويلة نسبيّا.

ولأن هذا المقال معني بالدرجة الأولى بإبراز أنماط التفكير حول واقعة وفكرة المجتمع المدني في سياقات تاريخية مختلفة، فيمكن القيام بذلك عبر التطرق بشكل سريع، لكنه مكثّف معرفيا، إلى ثلاث لحظات تحليلية يمكن اعتبارها بمثابة تقاليد معرفية قائمة، من شأنها أن تبين للقارئ العادي تمفصلات المفهوم في علاقته بالدولة والجماعة والمجتمع، وانزياحاته حتى وصل إلى هذه اللحظة، التي بات فيها المجتمع المدني يستخدم لوصف أي حيز عام غير الدولة والسوق، وبالتحديد ذلك القطاع الثالث المسمى منظمات غير حكومية، لكن الأهم من ذلك أن تكشف للقارئ عن طبيعة المفهوم في سيرورته كدينامية متصاعدة لعملية الدّمقرطة في الغرب، وهو الجانب الذي غاب عن تناول المفهوم عربيا كفكرة ورهان. وتلك هي الأطروحة الرئيسية التي انتبه إليها الدكتور عزمي بشارة، وجعلها محور كتابه المشار إليه آنفا.

اللحظة التحليلية الأولى: فلسفة العقد الاجتماعي ومماثلة المجتمع المدني للدولة كمجتمع سياسي

بالعودة لتراث فلسفة العقد الاجتماعي باتجاهيها "الدولاني" مع هوبز و"الليبرالي الديمقراطي" مع جون لوك، يتبين أن المجتمع المدني لم يكن منفصلا عن الدولة، أو المجتمع السياسي، فهو تعبير عن حالة نقلة من مجتمع طبيعي بلا دولة إلى مجتمع مواطنين للدولة، على اختلاف بينهما في تصور طبيعة ذلك الاجتماع في حالة الطبيعة، حيث يعتبره هوبز مثالا لحالة حرب الكل ضد الكل، بينما يعتبره جون لوك مثالا لمجتمع مدني حر قائم بذاته لكنه حالة لا يمكن أن تستمر.

وواضح أن العقد الاجتماعي في كلا التصورين هو تسوية بين نموذجين من الحكم أحدهما دكتاتوري مطلق هو الذي نظّر له هوبز، بينما النموذج المقابل له هو نموذج حكم ديمقراطي ليبرالي تمثيلي يتنازل فيه المواطنون عن بعض حريتهم، وليس عنها كلها، لصالح جهاز الدولة، التي هي المجتمع المدني كحالة سياسية لسلطة متمركزة داخل المجتمع وبمعزل عنه في الآن نفسه. لكن العنصر المهم في هذه اللحظة هو ميلاد المواطنة كمحتوى سياسي عمومي جديد في إطار الدولة وليس في إطار دولة المدينة الأرسطية والأفلاطونية، التي كانت المواطنة فيها استحقاقا فقط لأرباب البيوت من الرجال من غير الغرباء عن المدينة.

اللحظة التحليلية الثانية: التقليد الليبرالي الهيغلي والتقليد الماركسي

مثلت هذه اللحظة منعطفًا مهما، حيث سيقوم هيغل وماركس، لأول مرة، بحصر المفهوم في تحديدات وأطر اجتماعية واقتصادية خاصة. فعند هيغل سيصبح المجتمع المدني تعبيرا عن لحظة السَّلْب بما تحمله من تناقض للمصالح، فالمجتمع المدني عند هيغل هو مجتمع الأفراد المنقسم على نفسه، ويعتبر نظام السوق وعلاقاته النموذج المثالي لصورته، ولذلك لا يُعتبر المجتمع المدني عند هيغل غاية في حد ذاتها، وإنما هو تمهيد لمرحلة الدولة التي تتضمن مكاسبه وتتجاوز مثالبه.

إن أهمية هذه اللحظة التحليلية هي تعميق علاقة مفهوم المجتمع المدني بمفهومي المجتمع والدولة، حيث لا يمكن وعيه، أو إدراكه، بمعزل عن تلك العلاقة ذات المنحى الديالكتيكي "التطوري" عند هيغل، ففي حين تشكل لحظة الأسرة والجماعة الأولية لحظة بروز أواصر التعاطف والمحبة والتكامل على أساس شعوري، فإن لحظة المجتمع المدني على النقيض من ذلك تمثل لحظة بروز رابطة المصلحة التي تجعل من وحدات المجتمع أفرادا بالمعنى الواقعي للكلمة. فيقول هيغل إن "في هذا الشكل الجديد لوجودهم الاجتماعي (البشر) يصبحون واقعيا أفرادا، وهكذا وهم مستقلون ومعزولون يتخذون من أنفسهم غاية لنشاطهم، وبصفتهم أعضاء في المجتمع المدني يكونون أشخاصا خاصين وغايتهم مصلحتهم الخاصة"، وبالتالي فإن المجتمع المدني عند هيغل حقيقة اقتصادية أنانية بالدرجة الأولى، لكنه في جانب آخر هو الذي تتحقق فيه واقعة أن يكون الإنسان فردا بما تعنيه الفردية في العصر الحديث من حرية، وبما تومئ إليه من استقلالية وإنتاجية اقتصادية.

أما في التقليد النظري الماركسي فنجد مطابقة شبه تامة بين المجتمع المدني والمجتمع البرجوازي، ويعني ذلك أولاً ربط المفهوم بالواقعة الاقتصادية وبالأخص بالنشاط الاقتصادي للمجتمع البرجوازي، وثانيا جعل مفهوم المجتمع المدني بمؤسساته وأجهزته جهاز قسر وقمع بيد الطبقة البرجوازية ضد الطبقات الأخرى، وهذه الإشارة هي ما سيلتقطها أنطونيو غرامشي ليستأنف القول الماركسي في المجتمع المدني، الذي تم إهماله في النظرية الماركسية، لارتباطه بآليات السيطرة المادية للمجتمع البرجوازي، وليس هذا مقام التفصيل في أفكار غرامشي حول المجتمع المدني.

اللحظة الثالثة: المفهوم الليبرالي للمجتمع المدني أو في أدوار الحماية والتوسط.

قبل أن يزحف السوق على كل حيز عام مستقل عن الدولة، كان المجتمع المدني مرتبطا بتوسيع حقوق المواطنة عند توكفيل الذي جعل المجتمع المدني خطا دفاعيا ضد تجاوزات الدولة غير المبرّرة على حقوق الفرد وحرياته، التي نالها حديثا والمنظمة بواسطة الجمعيات الطوعية، وهنا سوف يتحدد المجتمع المدني باعتباره مجموع الترابطيات المنظمة ذاتيا والمتميزة عن الدولة والتي تلتزم بأهداف ومُثُل تتعلق بمقاومة الاستبداد وحماية حقوق الأفراد والعمل على تجسيد "المجتمع الصالح"، عبر تعميم قيمتي الثقة والتعاون. في هذه اللحظة اعتُبر المجتمع المدني ترسا حاميا للديمقراطية. لكن ههنا يقفز إلى الذهن سؤال جدير بالتأمل، وهو لماذا غاب المفهوم عن التداول طيلة الفترة الممتدة تقريبا من تاريخ الحرب العالمية الأولى حتى مرحلة الحرب الباردة وثورات بلدان أوروبا الشرقية الاشتراكية؟ نجد عند عزمي بشارة إجابة لهذا التساؤل تتمثل في أن خصوصية المفهوم زالت مع تحققه في مفاهيم السوق والمواطنة والديمقراطية التمثيلية والفضاء العام وغيرها من المفاهيم، التي أصبحت متداولة بشكل كبير حينها، قبل أن يستعيد المفهوم من جديد فاعليته ويوقظ من سباته مع الثورة البولونية التي قادتها نقابات مدنية في حركة التضامن التي ضمت مئات الآلاف من المواطنين والمثقفين.

هكذا إذن يمكن القول مع عزمي بشارة إنه قد "تحققت مفاهيم مختلفة تاريخية للمجتمع المدني، وبعد كل تحقق له كان يظهر من جديد بمعنى جديد أي كحامل لمطالب جديدة، أي أنه وليد لفرز جديد كل مرة، أو لتمفصل جديد للوحدة الاجتماعية – السياسية السائدة"[2].

هذه التمفصلات التاريخية للمفهوم كانت محل مناقشة دقيقة في كتاب بشارة، الذي يمكن اعتباره إسهاما، غير مسبوق عربيّا، في التفاعل والاشتباك مع مفهوم المجتمع المدني، وكشف علاقاته المركبة مع الدولة والجماعة والأمة القومية، بحيث يجوز لنا أن نقول إن المجتمع المدني في السياق الغربي كان بمثابة صيرورة دمقرطة أخذت أشكالا وصيغا عديدة، ويمكن النظر في كل من الفصل الأول من الكتاب "في حدود المفهوم وتاريخيته" والفصل الثاني منه "من اللفيتان إلى يد السوق الخفية" والفصل الثالث "انفصال المجتمع المدني عن الدولة لكي يعود إليها"، للاطلاع بشكل أعمق، حيث اعتمدنا على هذه الفصول لإبراز تلك اللحظات الثلاث التي تعبّر عن تكوينية المفهوم بما هو سيرورة من التمفصلات في سياق المجتمعات الغربية الحديثة.

ختاما، فإن استعادة قدرة المفهوم التفسيرية ومفعوله النقدي مرتبطة بالوعي بهذه اللحظات التي مر بها المفهوم والتمفصلات التي عرفها حتى أصبح على ما هو عليه الآن، وليس من المطلوب أن تخوض المجتمعات العربية نفس تلك المراحل التاريخية – لأن ذلك مستحيل – كما يقول المفكر العربي عزمي بشارة، ولكن المطلوب هو أن يوضع رهان محدد على الغاية من مجتمعاتنا المدنية لكيلا تظل عاملا من عوامل إجهاض الانتقال إلى الديمقراطية والقابلية لذلك الانتقال.

*باحث من موريتانيا

(ضفة ثالثة)


[1] عزمي بشارة، المجتمع المدني: دراسة نقدية، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة السادسة، 2012).

[2] عزمي بشارة، المجتمع المدني: دراسة نقدية، (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة السادسة، 2012). ص 23.

التعليقات