سبعون عاما على النكبة (1 و 2)

قبل سبعين عاما ابتدأ عام النكبة، وفِي هذه الأيام دخل عام جديد ينذر بأننا ندخل عقدا جديدا من حياة شعبنا في الوطن والشتات، وما زالت قضيتنا تزداد تعقيدا، ويصبح شوكها أكثر وأكبر، ويبتعد الحل فلا نراه في الأفق القريب

سبعون عاما على النكبة (1 و 2)

مقدمة:

لست مؤرخا، ولا ادّعي ذلك، وربما لا أعرف جلّ ما كان عام النكبة، وما أنا من ذلك الجيل الذي كان حاضرا وذاق من الشرّ الكثير، من مرارة فقدان الأمل وضياع الوطن، إلى خسارة البيت ومكان السكن، والانتقال إلى المجهول المرعب، والتحول إلى حالة اللجوء، والبحث عن مأوى جديد في أرض غريبة وإن كان يقطنها "الأشقاء العرب".

بل أنا من جيل "أولاد المنكوبين"، هؤلاء الذين "ضرسوا" من أثر "الحصرم" الذي أكله آباؤهم وأمهاتهم، وسمعوا القصص الرهيبة عمّا كان وحدث، تلك الأحاديث التي نخرت عظامنا، وتحولت إلى جزء لا يتجزأ من سيرتنا الذاتية، المستمدة من تراث الأهل والجيران والأصحاب.

نحن الجيل الذي تعرض للصدمة الكبرى بعد الانفجار العظيم الذي قضى على كل ما يملكه الأهل، من وطن وبيت وأرض وعزة وكرامة، ونحن صدى صرخة الظلم والهوان الذي تعرض لهما أسلافنا أبناء جلدتنا، فما وجدنا أنفسنا إلّا في معمعة من شظف العيش، وذقنا الأمرّين من الفقر والخوف من الدنيا، وما كانت تخبئ لأهالينا في جعبتها، والخوف من المجهول ومن الوحش الرابض على أرضنا ويتحكم بِنَا كما يشاء ويريد، فيَسّن القوانين ويصدر الأحكام ويصادر الأراضي ويهدم البيوت ويشن الحروب ويخفي المعالم التي خلفها أصحاب الأرض الأصليون خلفهم، عندما تَرَكُوا قراهم ومدنهم، مرتعدة فرائصهم بسبب ما سمعوا من جرائم قامت بها العصابات الغاصبة المدججة بأسلحة حديثة فتاكة، في مواجهة "حفنات" من المجاهدين الذين يمتلكون بنادق قديمة لا تستطيع صدّ الدبابات المصفحة، ولا يمكنها أن تصيب الطائرات المحلقة المدججة بأسلحة تلك الأيام.

أنا من الجيل الذي ولد عندما كانت النكبة "فتية"، وكان الناس لا يزالون يهابونها ويخافون فاعليها، وفِي نفس الوقت، يبحثون عن الاستقرار في مكان ما يستطيعون العيش فيه بكرامة، أو ما يتوفر منها، ليبدأوا حياتهم من جديد، دون أحلام العودة السريعة إلى الأرض والوطن، فهذه الأحلام ابتدأت تتبدد شيئا فشيئا، فالعدو قوي وشرس، ولديه خطة واضحة ودقيقة، عمل على تحضيرها خلال عشرات من السنين، و"الأشقاء العرب" ضعفاء ومتفرقون وليس لديهم الحد الأدنى من التخطيط لدرء الخطر الذي داهمهم "على حين غرة" من جهلهم وتآمر بعضهم مع عتاولة الاستعمار، حتى نفذ مشروعه، ومن ثم يحاولون بكل قوتهم الاستئثار بالقضية العربية الجديدة واحتواء "حطبها" واستعماله في إيقاد نار حماسة الشعب في دعم حكامه، وإلهاء الجماهير وتحويل أنظارهم عن الظلم اللاحق بهم، إلى قضية "العرب الأولى"، والتي لم يفعلوا شيئاً يذكر من أجل إيجاد حلّ سريع لها.

هناك من يحيي ذكرى النكبة في ذات اليوم الذي يحتفل به المغتصب بما يسمى "الاستقلال"، وهناك من يحييها في منتصف أيار، ذكرى ليوم أعلن به المحتل قيام دولته المزعومة، ولكنها -أي النكبة- ابتدأت مباشرة بعد إعلان قرار التقسيم المشؤوم، والذي أعطى حصة لمن لا حصة له، وأخذ من صاحب الحق حقه، ومن ثم جعله فريسة سهلة لعصابات شجعة مجرمة، كانت جاهزة لهذه اللحظة "التاريخية" فهجمت على البلاد وأذلت العباد، وزحفت إلى القرى والمدن، فسقطت الواحدة تلو الأخرى، وما كان الإعلان عن قيام الدولة و"استقلالها" إلا تتمة لعمل دؤوب ابتدأ قبل بداية العام 1948 واستمر حتى ضمنت حكومة الانتداب انتصار المغتصب، فأعلنت نهاية حقبتها لتعطيه -اي المغتصب- الفرصة لتكوين دولته رسميا.

قبل سبعين عاما ابتدأ عام النكبة، وفِي هذه الأيام دخل عام جديد ينذر بأننا ندخل عقدا جديدا من حياة شعبنا في الوطن والشتات، وما زالت قضيتنا تزداد تعقيدا، ويصبح شوكها أكثر وأكبر، ويبتعد الحل فلا نراه في الأفق القريب أو ربما البعيد، والمحتل يزداد عنفا وشراسة، "والأشقاء العرب" غارقون في دوامات لم نشهدها من قبل، لا نحن ولا آباءنا، جيل النكبة.

سأعمد خلال هذا العام، على أن اكتب عن النكبة، بمناسبة مرور سبعين عاما عليها، وستكون لي فيها عجالات وشطحات، ليست تاريخا ولا رأيا ولا موقفا، ليس لهذه الأفكار إطار واحد معيّن، أو صورة واضحة، ولا موضوعاً معيناً غير موضوع النكبة.

سأكتب عن وطني فلسطين وشعبنا الفلسطيني وبلدي صفورية، وأهلي وعائلتي وأهل بلدي والقرى المهجرة واللاجئين والثوار والمجاهدين، وربما أروي قصة أو رواية تحكي أحداثا مترابطة أو متفككة، سأحاول من خلالها أن اصرح عن مشاعري أو مشاعر آخرين أو أعبر عن شيء في داخلي، أو أقول قولا صادقا في موقف أو مجموعة أو حدث.

سبعون عاما على النكبة (2)

عملية نهلال 1931

ليس صدفة اختياري لعملية مستعمرة "نهلال" في الحلقة الأولى حول نكبة الشعب الفلسطيني، فكما أسلفت سأقوم بإختيار ما هو قريب مني أحيانا، بدون أي تسلسل تاريخي وبعشوائية.

تقع مستعمرة "نهلال" على بعد عدة كيلومترات من مدينة الناصرة، وتحاذي "أراضيها" الممتدة على مساحة 8700 دونم، أراضي بلدي صفورية المحتلة والتي كان يمتلك أصحابها أكثر من 180 ألف دونم أو ربما مئتي ألف من الأراضي الواسعة الفسيحة، والغنية بالمياه، والخصبة للزراعة.

كما أن "نهلال" تعد من المستعمرات اليهودية "الطلائعية"، بل إنها تعتبر "مستوطنة العمال" الأولى على الإطلاق في "أرض الميعاد" والتي أقيمت على الأسس التالية: الأرض مملوكة من جميع سكان المستعمرة. لا ملكية فردية للأرض، ولذلك لا تُقسّم بين السكان. سكان المستعمرة وحدهم يعملون في الأرض. يتفق المزارعون بينهم على نوعية المحاصيل، بحيث لا يكون هناك "تضخم" في منتوج زراعي معين. شراء المعدات الزراعية يكون مشتركا بين الجميع، ويكفل المزارعون بعضهم البعض بكفالات متبادلة.
كان لهذه الشروط الأثر الأكبر في جذب يهود شرق أوروبا الذين رأوْا في هذه الأسس ما يتلاءم مع مفاهيمهم "الاشتراكية"، حتى وإن كان هذا على حساب أصحاب الأرض الأصليين.

حكاية الاستيطان في المنطقة المحاذية لمعلول والمجيدل وصفورية والناصرة وغيرهما، وتأسيس ما سُمٌي بنهلال لاحقا، في مكان ما بين هذه البلدان لم ينتبه إليه أحد، مليء بالمستنقعات التي تجذب بعوضة الملاريا، التي هرب الناس منها ذعرا وهلعا في تلك الأيام، هي نفسها حكاية الاستيطان الصهيوني في فلسطين: الدولة أو حكومة الانتداب تغض النظر عن القادمين الجدد بحجج مختلفة، إلى بلاد "السمن والعسل"، كما صورت الحركة الصهيونية بلادنا لليهود في أنحاء العالم، "سمن وعسل" يحتاج إليه "شعب بلا أرض" في "أرض بلا شعب". وكذلك فعل قبل بريطانيا "الرجل المريض" كما أسمته "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، ولكنه، أي الرجل المريض، لم يفعلها كجزء من "أمرٍ دُبِّر بليل" كما فعلت "بريطانيا العظمى" من أجل إنشاء كيان صهيوني يضرب المصالح العربية ويحمي مصالحها الاستعمارية في المنطقة.

عام 1878 كان عدد اليهود الفلسطينيين 15 ألفا، وعدد المهاجرين الجدد فقط 10 آلاف، أي أن عدد كل اليهود مجتمعين كان يعادل 5% فقط من سكان فلسطين، مقابل 450 ألف عربي فلسطيني، حسب إحصائيات الدولة العثمانية. عندها كان العرب يتهربون من تسجيلهم في تعداد السكان خوفا من الجندية ودفع الضرائب، أي أن عددهم كان أعلى من ذلك بكثير حسب الاعتقاد السائد.

بحلول العام 1922، أصبح عدد السكان اليهود، بـ"فضل" الهجرة، حوالي 84 ألف نسمة، أي ما يعادل 11% من السكان. وفِي العام 1932 تحول هذا الرقم ليصبح 192 ألفا، أي ما يعادل 18% من سكان فلسطين عامة. وفِي العام 1940 أصبح 460 ألفا (30%). أرقام مهولة جدا، تبين حجم المؤامرة البريطانية التي أفسحت المجال لكل هذه الأعداد الكبيرة من استيطان بل استعمار بلادنا.

وبالعودة إلى "نهلال" التي تمت أقامتها عندما كان العام 1921 يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويولي إلى غير رجعة، وقد جاء إنشاؤها في فترة "ازدهار" الهجرة اليهودية الاستيطانية إلى فلسطين، كما نلاحظ من الأرقام السابقة، ولذلك لم يغفل عنها رجال الشيخ عزّ الدين القسام، والٌذين سبقوا الآخرين برؤيتهم النافذة للخطر الزاحف إلى بلادنا، وقرٌروا أن ينفذوا عملية نوعية، تخيف المستوطنين وترتعد لها فرائصهم، وتكون بمثابة صرخة مدوية في وجه الاستعمار.

عملية نهلال

أخيرا قرر رجال القسام أن ينفذوا عمليتهم الجريئة، وذلك قبل انطلاقة الشيخ الشهيد في ثورته بأربعة أعوام تقريبا.

كان أحمد الغلاييني، وهو من سكان حيفا وأحد رجال القسام، يصنع بنفسة عبوات ناسفة كبيرة، وقام بإعطاء عبوتين منهما للحاج صالح أحمد طه من بلدة صفورية، والذي كان يملك ثلاث بنادق من أسلحة جماعة القسام. أعطى الحاج صالح أحمد طه بندقيتين من بنادقه الثلاثة لمصطفى علي الأحمد والشيخ أحمد توبة، وانطلقوا جميعا، تحت جنح الظلام، من بلدة صفورية باتجاه مستعمرة "نهلال" في 27/12 1931، واستمروا في مسيرتهم حتى وصلوا "نهلال" قبيل بزوغ الشمس، وهناك ألقوا قنبلتهم على أربعة حراس يهود، فقتل منهم اثنان، الأول توفي على الفور، والثاني توفي متأثرا بجراحه، أما الاثنان الآخران فقد أصيبا بإصابات بالغة.

عاد ثلاثتهم إلى صفورية، ولَم تستطع القوات البريطانية الوصول إليهم إلّا عن طريق الصدفة، وذلك بعد ثلاثة أشهر من الحادثة، فقد قامت شرطة الانتداب بتطويق بيت الشهيد مصطفى علي الأحمد للتفتيش عن بندقية، فوجدوا عبوة ناسفة كالقنبلة التي ألقيت في "نهلال"، فقاموا باعتقاله وتعذيبه حتى اعترف، مما أدّى إلى اعتقال شركائه في العملية، الشيخ أحمد التوبة والحاج صالح أحمد طه، بالإضافة إلى أحمد الغلاييني صانع القنابل، وخليل محمد العيسى، والذي لُقِّب فيما بعد بأبي إبراهيم الكبير (من قيادات الثورة).

أسفرت التحقيقات ومحاكمات المتهمين عن تبرئة ثلاثة منهم، والحكم بالإعدام على مصطفى علي الأحمد، وقد نُفِّذ بحقه الحكم لاحقا، كما وحكمت المحكمة على أحمد الغلاييني بالإعدام، ولكنه حصل على شفاعة الأمير عبد الله، أمير شرق الأردن، فتحوّل الحكم إلى المؤبد، قضى منها خمسة عشر عاما.

المراجع:

كتاب صفورية والمجاهد والفتى - غازي التوبة – 2011؛

كراسة تأسيس مستوطنة العمال - أليعزر يافا – 1919؛

البديل - تعرف على جذور سرقة الصهيونية والاستعمار للأراضي الفلسطينية - محمود عبد الحكيم

التعليقات