04/02/2018 - 14:33

دعوة لقراءة الثورات العربية بعيدًا عن المحاور

لم يبدأ طموح الإنسان العربي في التقدم والتطور والحرية، مع انفجار الثورات العربية المهولة التي أطلق شرارتها المواطن التونسي محمد بوعزيزي وفجرها الشباب، أواخر عام 2010، ولا مع بداية الغزوة الصهيونية وإقامه إسرائيل في فلسطين، بل قبل أن يقوم هذا

دعوة لقراءة الثورات العربية بعيدًا عن المحاور

سواء نجت إسرائيل أو لم تنجُ، وكل الدلائل تُشير إلى أنها لن تنجو كونها كيانًا فاقدًا للشرعية التاريخية والاخلاقية، واختارت الاستيطان الاستعماري في قلب وطن عربي يصل تعداد سكانه اليوم إلى نحو 400 مليونًا، وتواصل ممارسة الظلم على مدار الساعة، سيظل الإنسان العربي، من المحيط إلى الخليج، يهجس بحريته وتحرره من التخلف والاستبداد والفقر والخوف، ويكرر انتفاضات التغيير حتى النصر. أي حتى لو انتصر على المشروع الاستعماري الصهيوني، لن يرضى بأقل من الحرية والكرامة. لن يقبل بأن تواصل الأنظمة استعماره بعد التخلص من الاستعمار الخارجي. بل أصلا يحاجج المفكرون والعديد من الناس العاديين أنه قد يستحيل بعد اليوم هزيمة الاستعمار الخارجي الممتد إلى الداخل بدون ترتيب البيت الداخلي.

لم يبدأ طموح الإنسان العربي في التقدم والتطور والحرية، مع انفجار الثورات العربية المهولة التي أطلق شرارتها المواطن التونسي محمد بوعزيزي وفجرها الشباب، أواخر عام 2010، ولا مع بداية الغزوة الصهيونية وإقامه إسرائيل في فلسطين، بل قبل أن يقوم هذا الكيان الكولونيالي في بلادنا بكثير. أي منذ أن اكتشف العرب والمسلمون تقدم الغرب وتأخرهم هم، بعد أن كانوا رواد حضارة عالمية يتعلم منها الآخرون. ولقد وصف البعض هذا الاكتشاف بالصدمة الحضارية عندما جاء نابليون إلى مصر غازيًا ومعه العلماء والاختراعات الحديثة. ويُحدد المؤرخون العرب بداية هذا الطموح، أوائل القرن التاسع عشر، أي قبل أكثر من 200 عام، وهو بداية النهضة العربية، وظهور مشروع محمد علي باشا والي مصر، ولاحقًا ظهور عشرات النهضويين والمصلحين العرب في مصر وبلاد الشام والمغرب العربي، أيام حكم الإمبراطورية العثمانية ومن ثم تطوره إلى حركات وطنية وإصلاحية في القرن العشرين، الذي ظهر فيه مئات، بل الآلاف من المثقفين والأكادييين المصلحين والمناضلين في مواجهة الموجة الاستعمارية الجديدة. وهو مشروع حاول المناضل الراحل جمال عبد الناصر تجسيده في أكبر دولة عربية من خلال انقلاب وطني قام به هو ومجموعه من الضباط في 23 تموز/ يوليو 1952 اعتبر ثورةً لعظمة الإصلاحات الاجتماعية والتعليمية والوطنية التحررية التي قام بها. غير أن هذا المشروع العروبي الكبير انكسر، رغم تحقيق إنجازات ثورية جبارة في العقد الأول من الثورة. ويعود هذا الانكسار إلى قصور في فهم مقومات بناء الدولة العربية الحديثة، دولة المواطنين، وأهمها الديمقراطية والتعددية، بالإضافة إلى تآمر الاستعمار الغربي والصهيوني متوجًا في عدوان عام 67. إذا، منذ 200 عام يحاول العرب النهوض الحضاري دون جدوى، وقد جاءتهم الفرصة تلو الفرصة لينهضوا، ولكنهم أخفقوا في اقتناصها. وأقصد فشل النخب وأيدولوجياتها، القومية واليسارية والدينية. وقد أخفقت هذه النخب في إيجاد المعادلة الخلاقة التي تجمع بين العروبة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية والثقافة الإسلامية مع الديمقراطية والتعددية. وقد ثبت أن المشروع الديمقراطي يحتاج إلى ديمقراطيين.

وجاءت الثورات العربية غير المسبوقة من حيث ضخامتها وشموليتها وشعاراتها وشجاعة روادها، خاصة الشباب، لتطلق مجددا الوعود الكبيرة وتحيي الأحلام التي تكسرت مرارًا. ولم تمر أشهر من الأداء الرائع والمبهر لجماهير الثورة وشبابها، في الشوارع والميادين، حتى بدأنا نشهد مآلاتها المأساوية، وكأن الإنسان العربي يخوض معركة سيزيفية. لكن هل يصح اعتبار كل ما جرى حتى الآن فشلا مطلقا ودفنا أبديا للأحلام والوعود التي أطلقتها هذه الثورات! حتما لا.

بعد هذه الثورات العربية التي خلخلت أنظمه الاستبداد وأطاحت برؤوس بعضها وألهمت أكثر من 5000 مدينة عالمية لاحتلال الميادين، باتت الأجيال العربية الجديدة أقل تأثرًا بحملات التضليل والخداع والتدجين، التي دأبت على اعتمادها وسائل إعلام الأنظمة، سواء الملكية النفطية الوراثية أو الجمهورية التي غدت أيضًا وراثية وأشد استبدادًا وتوحشًا. ويؤكد ما يعتمل في أحشاء المجتمعات العربية، وما يظهر منها، أن الهزائم التي تتعرض لها الثورات العربية، والخسائر الفادحة التي تتكبدها وكذلك دولها، والتي نجمت عن همجية أنظمة الاستبداد وقوى التكفير الدينية لن تغير من قناعة الشعوب، خاصة الأجيال الشابة، بالحاجة إلى التغيير، إذ غدت وجودية بالنسبة لهذه الأجيال التي تعيش غالبها في بؤس وفقر وحرمان ومهانه وغياب الأفق. ورغم الهزائم، فإن الثورات أحيت قيمًا أخلاقية وأنتجت مخزونًا معنويا، ووعيًا جديدًا، سيكون سندها في موجات الفعل الثوري القادمة أو مسار الإصلاح الذي لن يستطيع أي نظام بعد اليوم تجاهله.

بين اليأس واستمرار الفعل الثوري

تعيش هذه الأيام أعداد كبيرة من شباب الثورة في حاله يأس، وخيبات أمل مريره بسبب ما آلت الية هذه الثورات. ويتحدث منهم عن ابتعاده عن العمل السياسي، بعد أن صُدم من وحشية الأنظمة الاستبدادية، والتي شردت عائلاتهم وقتلت أصدقاءهم في المظاهرات السلمية وأخفت آخرين، واعتقلت وعذّبت بوحشية منقطعة النظير الآلاف من شباب الثورات في السجون التي هي أدنى من زرائب الحيوانات. كما أنهم يعيشون المرارة جراء ركوب قوى غير ديمقراطية، دينية أو علمانية، موجه الثورات التي فجرها هؤلاء الشباب. أما المثقفون والإعلاميون الذين وقفوا مع أنظمة الاستبداد فقد أضافوا إلى خيبات الأمل المزيد من الشعور بالمرارة والخذلان. ويعود تهميش الشباب ودورهم البطولي في الثورات، جزئيا، إلى عدم جاهزيتهم بصوره كافية، تنظيميا وفكريا، وهو ما انتبه إليه لاحقا طلائعهم الثورية.

إن الشعور باليأس بعد تعثر الثورات أمر طبيعي، فكما يقول المؤرخون وعلماء الاجتماع، إن كل الثورات تبدأ بالأمل والأحلام الكبيرة وتنتهي بخيبات أمل ويأس. ويطمئن أساتذة وباحثون رواد الفعل الثوري أن معظم الثورات التي حصلت في الماضي لم تنتصر من المرة الأولى، بل إن أعظم الثورات، كالثورة الفرنسية التي هزت العالم آنذاك (1789)، تولدت عنها انقلابات دموية ورجعية وخيبات أمل شديده، مرورًا بثلاث ثورات أخرى في العقود اللاحقة إلى أن استقرت الجمهورية الفرنسية، دولة ديمقراطية تعددية وحديثة. لقد استمرت تلك الحقبة ما يزيد عن ثمانين عاما. ولكن هذا لا يعني أننا نحتاج إلى ثمانين عاما لإحداث التحول الديمقراطي.

في المقابل، ورغم الانقسام الأفقي والعامودي الذي ينعكس في الاحتراب الطائفي والمذهبي والجهوي، وما يتمخض عنه من كوارث إنسانية واجتماعية ومادية في بلدان الانتفاضات العربية، فإن الحراك الفكري والثقافي والسياسي والميداني من أجل تجديد الفعل الثوري والإصلاحي لا يتوقف، وسيجد المنخرطون في مهمة التغيير أنفسهم، بعد حين، أمام نضوج جديد لمقدمات الثورة القادمة، إذ أن الثورات المضادة فاقمت الوضع الاقتصادي والاجتماعي، وازدادت وحشية ضد الشعب.

هناك الكثيرون ممن لم يهزمهم اليأس، ومن هم منغمسون في المراجعة والنقد الذاتي بهدف مواصلة المسيرة، ومنخرطون في أشكال مختلفة من النشاط والفعل. لا شك أن مهمة استعادة زمام المبادرة والحفاظ على التماسك المعنوي ليست سهلة، فالثورات الفاشلة لا تترك آثارًا مدمره للبلد فحسب بل ايضًا للمشروع الثوري ذاته.

إن غياب القيادة الموحدة حول رؤية موحده واستراتيجية عمل سليمة، وغياب المشروع الثوري الواضح، وخطة لاستلام الحكم، والتحول إلى اقتتال داخلي وإلى الاستعانة بالأجنبي، كل ذلك من عوامل الإخفاق الذريع، وأسباب المحنة التي تمر فيها الثورات، وبلادنا العربية بما فيها فلسطين. والمراجعات المعمقة التي تصدر تباعًا على يد مراكز أبحاث عربية جدية، ومثقفين وأساتذة جامعات، قضوا معظم شبابهم الأول في العمل السياسي المقاوم، ستكون رافعة توجيهية لقوى التغيير. فهل يغرف منها الشباب الصاعد ما يزودهم بالمعرفة وبأدوات جديده للتغيير؟

التخلص من الثنائية القاتلة والعودة إلى العقل

أشد الآثار السياسية والفكرية والأخلاقية الخطيرة التي أفرزتها الثورات العربية، هي الثنائية القاتلة، للعقل والبصيرة وللأخلاق. فمنذ بدايات الثورات، وقبل أن تتحول إلى حروب أهلية وطائفية، تبلورت ثنائية قاتلة بين محورين، أحدهما جمهوري استبدادي وآخر نفطي رجعي، حيث تم طمس تيار ثالث (غير منظم) يشمل قوميين ديمقراطيين، ويساريين ديمقراطيين، وإسلاميين متنورين ذوي نزعة ثورية أخلاقية، وهو تيار ظل متمسكا بمطلب الحرية والتحرر والعيش بكرامة وفِي ظل أنظمة ديمقراطية رحيمة تتبنى العدل في التوزيع. يتبنى هذا التيار اُسلوب النضال السلمي، ثورات شعبية غير مسلحة، ورفض التدخل الخارجي، وعسكرة الثورة، ويدين القوى التكفيرية الفاشية التي قاتلت الثورة أكثر مما قاتلت الأنظمة.

هذه الثنائيات القاتلة بظلالها على جموع المواطنين في البلدان العربية، بما فيها أهل فلسطين في الداخل والخارج، وعطلت لدى الكثيرين فرصة التعلم من خبرة الثوار والثورات وضرورة فهم الربيع العربي فهمًا ثوريًا باعتباره حركه شعوب دفعتها السياسات الاقتصادية النيولبرالية، والفجوات الاجتماعية الفاحشة إضافة إلى الاستبداد السياسي، وكذلك الفشل في تحرير فلسطين، وأراضي عربية أخرى محتلة، إلى الخروج إلى الشوارع كاسرة حاجز الخوف والإرهاب. بل حتى أوساطا واسعه من اليسار، نسيت ما معنى الثورة، وما معنى اليسار، باعتباره فكرا ديمقراطيا يطالب بالعدالة الاجتماعية، ويناهض الاستبداد والظلم، وينحاز إلى جانب الفقراء والعمال والعاطلين عن العمل والفلاحين المفقرين جراء السياسات النيولبرالية التي يعتمدها تحالف رأس المال والعسكر.

لماذا انطلقت الثورات العربية؟ هل كله هذه التضحيات والخسارات تستحق خوض هذه الثورات؟ وهل أصلا يمكن توقع أو التحكم بتوقيت أي ثورة؟

نسي الكثيرون لماذا انطلقت الثورات العربية، ولماذا تحدث أصلًا الثورات. فتجد من ينتقد الخروج الأول للجماهير الشعبية، وتفجير غضبها، ويحملها المسئولية بناء على النتائج الراهنة. لا يعرف هؤلاء المنتقدون أن التاريخ لم يعرف ثورة عرف المنخرطون فيها موعدها أو توقعوا حجمها. إن الثورات تحدث عندما تتراكم عوامل الحرمان والفقر والاستبداد، وعندما يصبح الإصلاح من داخل النظام مستحيلا. حتى أول المنخرطين فيها لم يتوقعوها، وفوجئوا من ضخامتها، وعنفوانها. طبعا تكون عادة مقدمات معروفه للثورات تسبقها هبات وحراكات متقطعة وردود فعل قمعية أكثر وحشية من قبل أجهزة الأمن.

لماذا نحن الفلسطينيين بحاجه للتوقف مجددا أمام هذه الثورات؟

نحن، الفلسطينيين، خاصة الجيل الشاب، بحاجة إلى إعادة قراءة الثورات العربية، في سياقها التاريخي، ومن خلال مقارنتها مع ثورات القرن العشرين، وثورات القرن التاسع عشر التي غيرت وجه أوروبا، وأنتجت أنظمة ديمقراطية راسخة، متنوعة، وتسمح بخوض نضالات اجتماعية دون قمع متوحش أو محاكمات صورية. لقد أقعدتنا مآلاتها المأساوية، عن المتابعة الجدية لهذا الحدث العربي التاريخي، وعن التفاعل مع مخاضاته، ومتابعة الأدبيات النقدية الغزيرة التي تصدر تباعا. واستسلم الكثيرون لليأس. وهناك من أسكرته الانتصارات الوهمية (على الشعوب العربية)، ظانا أن تحرير فلسطين بات قاب قوسين أو أدنى.

لم تقع فلسطين ضحية الاستعمار الصهيوني الاستيطاني إلا لأن المنطقة العربية، بأنظمتها السياسية، وبُناها الاجتماعية، قابله للاستعمار. ومع أن قيادة الثورة الفلسطينية التي استلمت قيادة منظمة التحرير، منذ أواخر الستينات، كانت قيادة شابه وتتمتع بالحيوية والشجاعة، وحققت إنجازات وطنية في مجال إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني تحت قيادة حركة تحرر حديثة وفِي مجال الوصول إلى الرأي العام العالمي، والتواصل مع حركات التحرر العالمية، غير أنه تبين لاحقا أن بنيتها الذهنية (الاجتماعية الثقافية) لا تختلف كثيرا عن بنية الأنظمة العربية الوطنية العسكرية في طريقة إدارتها للثورة، والدليل هو ما نحن عليه. لقد انتهجت القيادة الفلسطينية في مرحلة لاحقة نهجا إقليميا، بحجة القرار الفلسطيني المستقل، على حساب التواصل والتفاعل مع الشعوب العربية وحركاتها الاجتماعية والتضامن مع مطالبها اليومية، ونضالها ضد القمع والاستبداد. وانتهى الأمر بحركة التحرر الوطني الفلسطينية، بسبب هذا النهج وهذه العقلية، إلى أن تصبح وكيلا للنظام الكولونيالي في فلسطين. كانت حركات التحرر العالمي في السابق متضامنة ومتواصلة مع بعضها البعض، باعتبار أن انتصار أي حركة هو دعم للأخرى.

لدينا نظام سياسي (فلسطيني) يشبه الأنظمة العربية، ولكن بدون دولة. في الأشهر الأولى للثورات العربية، وبعد نجاح الثورة التونسية والمصرية في إسقاط رأسي النظامين، انطلق، وبوحي من ذلك، حراك شبابي فلسطيني، من رام الله، كذلك في قطاع غزة، مطالبا بإنهاء الانقسام وتجديد المقاومة الفلسطينية. لكن النظام الفلسطيني الأوليجاركي (حكم فئة صغيرة)، ذو الطبيعة الكومبرادورية والمتقادم، استعمل نفس ادعاءات الأنظمة العربية، بأن هؤلاء الشباب تحركهم مؤامرة خارجية، فمورس ضدهم القمع والاحتواء إلى أن تم إنهاء المبادرة، وبذلك تم وأد أول مبادرة شبابية خلاقة كان من شأنها أن تجدد الحياة السياسية الفلسطينية وتحيي المقاومة الشعبية. هكذا تم قتل أمل الأجيال مرة أخرى.

ولذلك نحن نحتاج إلى استعادة نظرتنا القومية والثورية إلى الحراكات الثورية في العالم العربي، وأن نعتبر أنفسنا، بل أن نسعى لأن نكون جزءا من حركة الفعل الثوري في الوطن العربي، بل من حركة التغيير الاجتماعي والسياسي العالمية المناهضة للنيولبرالية والاستغلال، والحروب الإمبريالية، والداعية إلى إقامة نظام عالمي أكثر عدلا.

نحتاج من أجل التقدم في مسرة الوعي والتحرر إلى فهم علمي، ومعمق لمفهوم الثورة، وللثورات العربية، مقدماتها، بنية أنظمة الاستبداد، كيفية اشتغالها، وبنية مجتمعاتنا، ومحاولة استشراف مآلاتها، وكيفية انعكاسها على قضية فلسطين التحررية.

نحن شعب لا يزال يرزح تحت نير نظام كولونيالي عنصري منذ سبعين عاما، وقد فجر ثورات متلاحقة خلاقة، ونجح في تثبيت قضيته، كقضية عادله، ولكن يظل السؤال الكبير الذي نحتاج إلى الجواب عالية، ليس نظريا فحسب بل عمليا، هو لماذا لم ننتصر حتى الآن؟ هذا هو التحدي أمام الأجيال الشابة حاليا.

..

التعليقات