16/03/2018 - 09:19

عزمي بشارة.. العرب وسؤال الحرية

التحدّي الحقيقي يكمن في "قدرتنا على مغادرة النقاش الفلسفي عن الحرية، والانطلاق إلى مسألة الحريات وشروط تحقيقها وحدودها والعوائق التي تعرقل تحقيقها في واقع المجتمعات والدول العربية"

عزمي بشارة.. العرب وسؤال الحرية

يحتلّ سؤال الحرية مكانة مركزية في الخطاب الفلسفي وغير الفلسفي المعاصر، خصوصاً في ظلّ الهجمة النيوليبرالية على الديمقراطية. وتحظى مساهمة أكسيل هونيث (1949) في هذا السياق بأهمية، على الأقل في السياق الألماني، كما عبّر عن ذلك في كتابه: "حق الحرية" (2014).

فانطلاقاً من هيغل، ولكن أيضاً في تجاوز له ـ كما فعل أدورنو ـ يحاول هونيث تطوير مبادئ العدالة الاجتماعية اعتماداً على التحليل الاجتماعي، من أجل التعبير عن المبادئ الأساسية لما يسميه هابرماس بالأخلاق الموضوعية الديمقراطية، منافحاً مثل هيغل وضد كانط، بل وضد معياروية منظّرين مثل راولز وهابرماس، ولكن خصوصاً ضد حرية سلبية، تظلّ عمياء أمام المجتمعي، عن نظرية للحرية والعدالة مادية وتاريخية. فالمعايير تظلّ في رأيه مرتبطة بسياق المحايثة، ولا يمكن استنباطها قَبْلياً، بل فقط انطلاقاً من البراكسيس الإنساني Praxis.

إن نقده يذكّرنا بنقد أدورنو لكانط. فضد تصوّر مفارق عن الحرية أو ضد الحرية كـ أوتونوميا Autonomy، يدافع هونيث عن حرية اجتماعية، والتي يفهمها، انطلاقاً من هيغل، كاعتراف. إنّ التحليل الاجتماعي يظلّ في رأيه أمراً لا مندوحة عنه لكل تفكير في العدالة، وهو يقف ضد نظرية للعدالة على طريقة كانط أو لوك، وضد معياريتها المحضة التي لا تأخذ المؤسسات بعين الاعتبار.

فبالنسبة لهيغل، وكما يوضّح هونيث، لا توجد فكرة عن العدالة مفارقة للعالم. إنها تظلّ مرتبطة دائما بممارسات الفعل. وكل نظرية للعدالة لا تتحقّق إلا في العلاقة أو الحياة الاجتماعية، وليس في المفهوم. بلغة أخرى: إن العدالة تتحقّق في المؤسسات أو لا تتحقّق، لأن الأنظمة الاجتماعية تظلّ مرتبطة بشرعنتها عبر القيم الإيتيقية.

إنّ الحرية شرط العدالة، ولكنها حرية اجتماعية، أقتسمها مع الآخرين، وتتحقّق كاعتراف. إنها حرية محايثة، والمعايير العادلة تظلّ في هذا السياق مرتبطة بحرية الفرد، إذ فقط في ظلّ مثل هذه الحرية يمكن تجديد هذه القيم أو مساءلتها. إن الحرية ضمان ضد كل أشكال الدوغمائية، ولهذا يرى هونيث أنه "لم يعد مفهوماً أن نطالب بنظام عادل، دون أن ندافع في الوقت نفسه عن حق الفرد في تقرير مصيره.

يتوجب أن نفهم "العدل" باعتباره ما يحمي ويدعم تحقيق أوتونوميا كل أعضاء المجتمع". ("حق الحرية"، ص. 40)، وفي هذا السياق ينتقد هونيث الحرية السلبية لدى هوبز وسارتر، اللذين يفهمان الحرية كخيار شخصي غير مشروط، وفي الآن نفسه ينتقد فكرة الحرية التأملية التي طورها كانط انطلاقاً من روسو، والتي تفهم كتشريع ذاتي عقلاني، والتي ترى أن وحده من يحدّد قوانين فعله، يمتلك الحرية. لكن هذه الحرية التأملية، تعقل ولا تتواصل.

يقترب عزمي بشارة كثيراً من موقف هونيث، حتى وإن اختلفت منطلقاتهما الفلسفية، وفي الحقيقة، فإن الحرية الاجتماعية، كما يطوّرها هونيث، والتي تطلب التحقّق في المؤسسات الاجتماعية ولكن دون أن تتنازل عن حرية الفرد ـ عكس الماركسية ـ هي قريبة من ذلك الهدف الذي رسمه عزمي بشارة لنفسه في كتابه: "مقالة في الحرية" ("المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، 2016)، وهو يؤكد بأن التحدّي الحقيقي يكمن في "قدرتنا على مغادرة النقاش الفلسفي عن الحرية، والانطلاق إلى مسألة الحريات وشروط تحقيقها وحدودها والعوائق التي تعرقل تحقيقها في واقع المجتمعات والدول العربية".

ينتبه بشارة أيضاً، رغم أنه يطلب الحديث عن الحرية في مجتمعات الاستبداد، لما تعانيه الحرية في مجتمع ديمقراطي أصبح الاستهلاك طبيعته الثانية، وهو يؤكد من وراء ذلك، وإن لم يشر بوضوح إليه، إلى حقيقة أن "نقد الحرية" في سياق الاستبداد لا يمكنه أن يغفل الانتقادات التي وجّهت للحرية في السياق الغربي أو "الديمقراطي"، إذ لا يجب أن ننسى أن أزمات المركز تتّخذ أشكالاً أكثر تطرفاً في بلدان الأطراف أو بلدان الاستبداد، كما يعبر عن ذلك فولفغانغ شتريك، وبلغة أخرى، إنه لا يمكننا التفكير اليوم في العالم العربي إلا في نوع من النقد المزدوج، وهو ما يتطلب لا ريب معرفة مزدوجة أو منفتحة، وهو ما نقف عليه في كتاب بشارة الذي يزخر بأمثلة من التراث الديني والفكري الإسلامي، والتراث الفلسفي الغربي.

وقد لا نبالغ إذا فهمنا الحرية معه باعتبارها "كامنة... في النقص، وفي وعي هذا النقص، وفي توفر إرادة الاختيار لفعل شيء بهذا الخصوص" ("مقالة في الحرية"، ص. 33). وهو أمر يذكّرنا بتنصيص هونيث على ضرورة استمرار الحرية الفردية داخل الحرية الاجتماعية باعتبارها ضمانة ضد الدوغمائية، فوعي النقص هو الذي سيمكننا من فهم الهوية خلال مرحلة التحرر الوطني من الاستعمار كطريق إلى الحرية، وفي الآن نفسه هو الوعي نفسه، الذي يتوجب أن يقف ضد هذه الهوية متى أرادت باسم قيم أو شعارات كبرى إلغاء حرية الفرد.

وكان محمد عزيز لحبابي قد اعتبر بأن تحرراً وطنياً لا يكون الشخص هدفه، سيظلّ تحرّراً منقوصاً، ولا ريب أنّنا نعيش اليوم تبعات اختزال فعل التحرّر في "الجمعي" وكيف انتقلنا عربياً من استعمار خارجي إلى استعمار داخلي أكثر رداءة وقهراً. وفي الواقع، فإن الوعي بالنقص هو نقيض الوعي الناقص أو المدجن الذي تخلقه الأيديولوجيا، وإن الوعي بالنقص هو أولاً وأخيراً وعي تاريخي.

إنه الوعي نفسه الذي سيدفع بشارة في كتابه إلى اعتبار أن كلا التيارين "الإسلامي" و"العلماني" لم يطرحا سؤال الحرية بالجذرية المطلوبة، ولا ريب أن كلا التيارين كانا معنيين بالوصول إلى السلطة والمحافظة عليها فقط، فالإسلامي لا يؤمن بسيادة الشعب في السياسة، أما العلماني فإنه يعتبر نفسه وصياً على هذا الشعب، ويحتقر ثقافته، ويؤسّس، في تماهيه مع الدور الوضيع الذي اختاره له المركز، لما أسماه مناضل مغربي بالدولة الانفصالية.

ينتبه بشارة أيضاً إلى ضرورة تحقيق نوع من "التربية على الحرية" من أجل تحقيق المسؤولية التي تشترطها ممارسة الحرية، ولكن يتوجب الانتباه هنا إلى أن الأنظمة الرسمية العربية ومعها اليعاقبة العرب ظلوا يؤكدون ضرورة مرور الشعب بفترة من الديكتاتورية حتى يتعلّم الديمقراطية، وقد كان المهدي بن بركة (1920 - 1965) قد حذّر من ذلك معتبراً بأن الديمقراطية تتعلّم بالممارسة. كما أن التربية على الحرية لا يمكن أن تتحقّق إلا في نظام حرّ، يدعم تربية كهذه، وليس في سياق ثقافي وسياسي تحكمه خطاطة "الشيخ والمريد". إن الوعي بالمسؤولية هو في نهاية المطاف هبة الحرية وليس العكس.

ولا ينسى بشارة نقد الخطاب الرسمي العربي الذي ينتصر لمفاهيم فضفاضة مثل الوطنية والاستقرار والمحافظة على الأمن ضد الحرية، ووقوفه ضد الحريات الفردية والمدنية باعتبارها أفكاراً أجنبية، هدفها تشتيت جسد الأمة، ولا ريب أن الربيع العربي قد أسقط القناع عن هذا التلاعب بالألفاظ والإيديولوجيات، وعلى رأسها لا ريب شعار "الوطن" المفرغ من معناه، ليؤكد بشارة أنّ "الناس يكونون أكثر وطنية في الدولة الديمقراطية" فقط، وسيستشهد بما كتبه ناصيف نصار (1940) في "باب الحرية" (2003) من أن "الصراع ضد الاستغلال والقهر لا يمكنه أن يخرج من مسلسل الظلم والظلم المضاد ما دام يقصي من مفهومه عنصر الحرية الفردية"، وهي فكرة سبق وذكرنا أن لحبابي كان من أول المدافعين عنها، وهو يدافع عن الشخص، في زمن كان الثوار يلهجون فيه بأسماء كبيرة مثل الوطن والوحدة والأمة، وفي لغة صاحب "مقالة في الحرية": فلقد "ثبت أن مبدأ العدل من دون الحريات يقود إلى الاستبداد".

التعليقات