03/04/2018 - 10:24

عودة غزة..

في أوسلو تخلصت إسرائيل من السكان، وأحكمت سيطرتها على الأرض، وفي خطة فك الارتباط عزلت القطاع وأحاطته بالأسلاك الشائكة، وفي الحالتين أخضعت الجغرافيا للديمغرافيا عبر تنويع أشكال السيطرة على الأرض الفلسطينية وتحويل القيادات الفلسطينية إلى وكلاء محليين

عودة غزة..

إذا كان " فخ أوسلو"، الذي قطع أوصال الضفة الغربية، وحولها إلى "كانتونات" مفاتيح بواباتها الإلكترونية مع الاحتلال، هو خطيئة فلسطينية، فإن مصيدة "فك الارتباط مع غزة " التي حولت القطاع إلى سجن كبير هي كارثة، أنقذنا شارون لأسبابه الخاصة من وزر التوقيع الفلسطيني عليها.

المفارقة أن الحدثين سوقا على أنهما انتصار فلسطيني أقيمت على شرفهما الاحتفالات، ورفعت الأعلام ولعلع الرصاص في الهواء، وفرشت البسط الحمراء تحت أقدام الزعماء الذين اختلفوا بشأنهما، وما لبثوا أن انقسموا واختلفوا على حكم موهوم وملك مزعوم تمخض عنهما تحكم الاحتلال بأدق تفاصيله.

في أوسلو تخلصت إسرائيل من السكان، وأحكمت سيطرتها على الأرض، وفي خطة فك الارتباط عزلت القطاع وأحاطته بالأسلاك الشائكة، وفي الحالتين أخضعت الجغرافيا للديمغرافيا عبر تنويع أشكال السيطرة على الأرض الفلسطينية وتحويل القيادات الفلسطينية، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى وكلاء محليين لإدارة شؤون السكان دون أن يتمتعوا بأدنى سيطرة على الأرض.

وقد نجحت الإستراتيجية الإسرائيلية التي انطلقت من حالة السيطرة الكاملة على فلسطين التاريخية بعد احتلال 67، في إسباغ الشرعية على الاحتلال عبر إيجاد صيغ جديدة تحظى بتغطية دولية، وتلقى دعما عربيا ومشاركة فلسطينية، وهو ما تحقق لها في أوسلو، واستكمل في خطة فك الارتباط، التي بدت للوهلة الأولى وكأنها انسحاب بدون شروط من القطاع بعد تفكيك المستوطنات، وهي، في الحقيقة، ليست أكثر من وسيلة للتخلص من مليون ونصف فلسطيني، وضرب الوحدة الجيوسياسية بين الضفة والقطاع، وإحباط الإمكانية المحتملة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.

عندما يجازف الفلسطينيون بمواجهة الموت ليعبروا الجدار الحدودي من القطاع، أو من الضفة الغربية إلى داخل الخط الأخضر، أي إلى إسرائيل التي "ناضلوا" للانفصال عنها وإقامة الدولة المستقلة، بغض النظر عما إذا كان هذا "العبور" تحت شعار حق العودة أو غيره، فهذا يعني أن وضع "الاحتلال المجرد" الذي كان قائما قبل "أوسلو" وقبل "فك الارتباط"، هو أفضل من الوضع الحالي، وأن هذه الصيغ التي جرى ابتداعها في أوسلو وما بعد أوسلو، وإن كانت قد منحت الفلسطينيين سلطة وهمية، فإنها قطعت أوصال جغراقيتهم السياسية، وعزلتهم عن وطنهم الأم، دون أن تمنحهم أدنى مقومات الاستقلال الاقتصادي والسياسي الذي يوفر لهم العيش بكرامة.

إنها حدود من طرف واحد، كما يقول الحقوقي الإسرائيلي إيال غروس، ردا على الدعوات التي ارتفعت تنادي بـ"حق إسرائيل في الدفاع عن حدودها" أمام المتظاهرين الغزيين، في وقت تنتهك فيه الأخيرة الحدود البرية مع القطاع، وتواصل السيطرة المطلقة على أجوائه وعلى مياهه الإقليمية، حتى بعد الانفصال عنه، وهي بهذا المعنى تفرض حصارا بريا وبحريا وجويا متواصلا عليه.

إسرائيل أقامت عمليا سجونا كبيرة تحيطها الأسلاك الشائكة، وتغلقها بوابات الكترونية، تفتح من طرف واحد هو الطرف الإسرائيلي، الذي يتحكم بحركة الدخول والخروج منها، ليس باتجاه إسرائيل فقط، بل وعبر البوابات الحدودية مع مصر والأردن أيضا، وهي بهذا المعنى تمتلك السلطة بإطلاق النار على كل من يحاول تجاوز الجدران والأسلاك الشائكة التي تحيط بتلك السجون وقتله، كما يحدث في هذه الأثناء على حدود غزة، وتبرر ذلك من خلال حديثها عن "الحدود" بالاتفاقات الموقعة أو غير الموقعة مع الفلسطينيين، اتفاق أوسلو وخطة فك الارتباط، اللذين ينصان فعلا أو ضمنا على احترام الحدود مع إسرائيل.

ضمن هذا الفهم فإن مسيرة العودة التي انطلقت من غزة، وإن كانت تعيد الحكاية الفلسطينية إلى بدايتها الأولى، عام 1948، فإنها تعبر عن حالة تمرد فلسطيني على الصيغ المصطنعة التي ابتكرتها إسرائيل لإطالة عمر الاحتلال وتجميل وجهه، وجاءت لتقول إذا كنا لا نستطيع العودة إلى فلسطين فلنعد إلى إسرائيل، إلى الاحتلال، أو لتعيد رسم المعادلة الواضحة إما الاستقلال وإما الاحتلال، وأن تضع إسرائيل مجددا أمام مسؤولياتها الدولية كدولة محتلة عن الشعب الواقع تحت الاحتلال.

مسيرة العودة من غزة جاءت لتعلن أن غزة ترفض مخططات عزلها، وتعلن إصرارها على العودة إلى حضن الوطن مستقلا كان أم محتلا، خاصة وهي ترى أن حل الدولتين يتبخر، والانقسام الفلسطيني يتعمق سياسيا وجغرافيا، وأن إسرائيل ماضية في توحيد الوطن الفلسطيني تحت الاحتلال وفي عزل غزة وسلخها عن سائر الجسد الفلسطيني.

الصورة القادمة من غزة والتي عبر عنها أسلوب النضال الجديد وظفت في خدمة الإستراتيجية، فعوضا عن صورة المواجهة بالصواريخ والطائرات التي تميز كيانين مستقلين حلت صورة المدنيين الذين يواجهون النيران بأجسادهم العارية، وهم يحاولون العودة والتي تعبر عن الكيان الواحد والوطن الواحد الواقع تحت الاحتلال، وهي صورة تنسجم على ما يبدو مع إستراتيجية المرحلة المتمثلة بالدولة الواحدة، التي بدأت تأخذ مكان حل الدولتين.

التعليقات