النضال الاقتصادي كإستراتيجية نضال شعبي

الإبداع في النضال وكسر المألوف، مثلما يفعل حاليا شعبنا في غزة، قد يدفع إلى تحريك حالة الركود والإحباط الفلسطينية وتفتح مرحلة جديدة تتوحد فيها كافة فئات الشعب الفلسطيني، في كافة أماكن تواجدها

النضال الاقتصادي كإستراتيجية نضال شعبي

الإبداع في النضال وكسر المألوف، مثلما يفعل حاليا شعبنا في غزة، قد يدفع إلى تحريك حالة الركود والإحباط الفلسطينية وتفتح مرحلة جديدة تتوحد فيها كافة فئات الشعب الفلسطيني، في كافة أماكن تواجدها

يقف مشروع التحرير الوطني الفلسطيني في السنوات الأخيرة أمام مأزق حقيقي يبعده عن تحقيق حلم إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع عزة وعاصمتها القدس. وتتراجع قابلية الشعب الفلسطيني على النضال بشتى أنواعه، خاصة في الضفة الغربية، وتقديم التضحيات في سبيل تحقيق الحرية وإقامة الدولة الفلسطينية. والقيادات الفلسطينية عاجزة عن تقديم أدوات نضال جديدة ترمي إلى تحقيق الأهداف القومية الفلسطينية.

بالمقابل تسعى إسرائيل لفرض حل الأمر الواقع مستغلة تراجع اهتمام المجتمع الدولي بالقضية الفلسطينية، وتستفيد من تفتت الدول العربية المحيطة، ومرتاحة من طلب ود دول الرجعية العربية لها وارتمائهم في أحضانها، ناهيك عن دعم مطلق لرئيس أميركي تبنى مواقف اليمين الإسرائيلي أكثر من أي تيار سياسي في إسرائيل نفسها.

رغم كل هذه الظروف، كلنا على قناعة بأن الشعب الفلسطيني لم يستنفذ كافة مكامن قوته لغاية الآن، أو على الأقل لم يستعملها بشكل كاف، خاصة أدوات النضال السلمي الشعبي، وتحديدا الاقتصادي.

لا نكشف سرا إذا قلنا إن إمكانية مقاطعة فلسطينية شاملة للاقتصاد الإسرائيلي غير واردة بالحسبان وغير قابلة للتطبيق على أرض الواقع. إذ لا يوجد بدائل حقيقية للسلع والمنتجات الإسرائيلية في الأسواق الفلسطينية. اتفاق باريس والسياسات الإسرائيلية على أرض الواقع توفرلإسرائيل السيطرة الكاملة على الأسواق الفلسطينية وتمنع أي إمكانية لنمو صناعات فلسطينية منافسة، ناهيك عن غياب فرص للتجارة الخارجية الحرة. هذا هو الاستعمار بحد ذاته.

إلا أنه وبسبب جشع إسرائيل ورغبتها باستغلال الأيدي العاملة الفلسطينية، هناك عامل قوة هام لدى الشعب الفلسطيني لم يُستغل كرافعة في النضال الشعبي الفلسطيني لغاية الآن، وهو العمال الفلسطينيون في الأسواق الإسرائيلية، خاصة في مجال البناء والبنى التحتية والصناعة. إذ بلغ عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل عام 2017 قرابة 100 ألف عامل بتصريح و 20 ألفا في المستوطنات. بالإضافة لقرابة 50 ألف عامل بدون تصاريح. غالبية هؤلاء العمال يعملون في فرع البناء (وفقا لمعطيات بنك إسرائيل كان عدد العمل الفلسطينيين في فرع البناء قرابة 70 ألف عامل عام 2017 أي قرابة 60% من مجمل العمال الفلسطينيين في إسرائيل والمستوطنات بتصاريح، ويشكلون قرابة 35% من مجمل العمال في فرع البناء في اسرائيل البالغ عددهم قرابة 200 ألف عامل)، وبعدها الصناعة والزراعة. هذه الأرقام ارتفعت في السنوات الأخيرة بشكل كبير نتيجة قرار الحكومة الإسرائيلية رفع عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل وفي المستوطنات، أولا بغية الاستجابة لتنامي الطلب على العمالة ذات التكلفة الرخيصة، وثانيا لترسيخ سياسة "السلام الاقتصادي" وزيادة مستويات الاستهلاك في الاقتصاد الفلسطيني، مما يساهم في نمو الاقتصاد الإسرائيلي، ولتعزيز تعلق أسواق العمل الفلسطينية بالأسواق الإسرائيلية. ويضمن الاحتكار الإسرائيلي للأسواق الفلسطينية استفادة الاقتصاد الإسرائيلي من العمال الفلسطينيين بشكل مضاعف: تكلفة أقل، بدون تأثير ديمغرافي. ويعود غالبية دخل العمال الفلسطينيين عن طريق الاستهلاك إلى الاقتصاد الإسرائيلي. الناتج المحلي الإسرائيلي هو المستفيد الأكبر من هذه العمالة.

تعلق الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي يتضح بشكل جلي من متابعة معطيات التجارة الرسمية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، إذ نجد أنه في العام 2016 (وفقا لمعطيات جهاز الإحصاء الفلسطيني) بلغت الواردات الفلسطينية من إسرائيل قرابة 6 مليارات دولار والصادرات قرابة مليار واحد فقط.

من منطلق أن الضعف يحمل بطياته بذور القوة، أعتقد أن تزايد عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل، تحديدا في فرع البناء، وتعلق الأسواق الفلسطينية بالمنتجات الإسرائيلية، يمكن أن يتحول إلى عوامل قوة ورافعة تأثير حقيقي بأيدي الشعب الفلسطيني، إذا كان هناك قرار سياسي واستعمال صحيح لهذه العوامل. فعلى سبيل المثال، يستطيع الشعب الفلسطيني اتخاذ قرار باستعمال سلاح الإضراب عن العمل في الأسواق الإسرائيلية وإنتاج تباطؤ اقتصادي في الاقتصاد الفلسطيني. إضراب العمال الفلسطينيين عن العمل في الأسواق الإسرائيلية، خاصة فرع البناء، ولو لفترة قصيرة مؤقتة، سيؤدي بالضرورة إلى ضرر في أسواق المنازل والشقق في إسرائيل وتراجع العرض وارتفاع في أسعار الشقق، ومن ثم إلى ضرر بالاقتصاد الإسرائيلي الكلي. أما تباطؤ أو تراجع في الناتج المحلي الفلسطيني سيقلل الاستهلاك والنمو ومنهم تراجع الاستيراد من إسرائيل، مما قد يؤثر سلبنا على الناتج المحلي الإسرائيلي. هذه العوامل معا قد تودي إلى واحد من احتمالين: أن تبدأ الحكومة الإسرائيلية بالتراجع عن سياسات فرض الامر الواقع وتعرف أن الاستعمار مكلف؛ أو تتجاهل النضال الاقتصادي وتحاول كسره بوسائل شتى. إطالة عمر الأزمة قد يشكل عبئا على الاقتصاد الإسرائيلي ويمكن أن يتحول إلى عبء سياسي على الحكومة.

هذا النضال قد يكون مكلف اقتصاديا على كاهل الشعب الفلسطيني، لكنه بالضرورة أقل كلفة من حياة أبناء شعبنا. وهو بالتأكيد بحاجة إلى دعم حكومي وتسهيلات بنكية وإيجاد بدائل في أسواق العمل الفلسطينية، وإلى قرار فلسطيني جماعي بالتضحية الاقتصادية في سبيل تحقيق الأهداف القومية، بشرط ألا تكون هذه التضحية من نصيب الفئات الضعيفة الفقيرة في المجتمع الفلسطيني، وإنما تتوزع على كافة الشرائح. نجاح هذا النضال منوط أيضا بتوسيع استعمال أساليب نضال مبدعة وإلى نضال شعبي وتشبيك بين كافة أنواع النضال في كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة. في نهاية المطاف هي جزء من كل ويجب ألا يكون وحيدا. الإبداع في النضال وكسر المألوف، مثلما يفعل حاليا شعبنا في غزة، قد يدفع إلى تحريك حالة الركود والإحباط الفلسطينية وتفتح مرحلة جديدة تتوحد فيها كافة فئات الشعب الفلسطيني، في كافة أماكن تواجدها، في مشروع نضالي واحد ولو تعددت الأدوات. بالضرورة هذا الحراك أفضل من السكون الحالي. وكما أبدع شعبنا في تاريخ نضاله، بإمكانه دون شك أن يبدع في هذا الزمن الرديء وتحقيق الإنجازات.

**الكاتب هو أمين عام التجمع الوطني الديمقراطي

التعليقات