24/07/2018 - 07:43

هدمُ المنازل العربيّة: امتدادٌ لعقلية "قانون القوميّة"

نعم للأسف، صار هدم المنازل العربية تُراثًا، كي تصون فيه إسرائيل العنصريّة التي وُلِدت من رحم الاستعمار، والتي تتخذها إسرائيل بوصلة في كل خطوةٍ تُقدم عليها.

هدمُ المنازل العربيّة: امتدادٌ لعقلية

قنابلُ غازٍ مُدمِع. ضرب مُبرّح لكل من كان موجودًا. صراخٌ وعويل، وبكاء لا يهدأ، اعتقالٌ واعتداء بكل السّبُل التي يرى "الغُرباء" أنها قد تُجدي نفعًا. أنقاضٌ ستفترش الأرض عمّا قريب، وستتوسّد الوجع. إصابةٌ واحدة، ثلاثُ إصابات، ثماني، ولا يتوقّف الغرباء عن الضرب والشّتم واللعن والاعتداء، إصابةٌ أُخرى لِمسنّة لم تعُد تُجيد النهوض عن الأرض، إصابة خطيرة لشابٍ أثقلت صدره كدمات الهراوات، مطارَدةُ مواطنين بخيول لا تُجيد سوى الدّهس، جرّافات تبتلع الإسمنت، هُتافاتٌ لم تتفق الحناجر التي أطلقتها سوى على أن الوجع واحد، المئات من رجال "الأمن" وعناصر الشرطة يُحاصرون المكان، غبار يتطاير، يُهرول بعض الناس، يصرخ بعضهم، يبكي بعضهم الآخر، وتتعالى الأصوات؛ أنينٌ وبكاء، وفي لحظة، يصمت كل شيء؛ تصمت الحناجر، ويصمت الناس، وتصمتُ الخيول، ويعلو صوت واحد ووحيد. صوتٌ "رآهُ" كل من كان هُناك، وهو صوت الجرّافات التي ما إن سمعت أمر الضابط، حتّى باشرت عملها وبدأت بِنَهش البيت بما فيه من ملابس وأغطية وأدوات منزليّة، وعلب دواء، وبهارات وتوابل، وألعاب وصورٍ وذكريات. كل شيء اختفى في لحظة، وصار سرابًا.

نعم عزيزي القارئ، كلّ ما ذُكِر آنِفًا لم يكن وصفًا لإحدى المعارك التي شهِدها حيّ الشجاعيّة في غزّة، أو مخيّم اليرموك في سورية. كل وصفٍ ذُكِر آنِفا يمثّل جزءا مما شهدته مدينة سخنين صباح أمس المشؤوم، حينما اقتحمَت السلطات الإسرائيلية المدينة، مدجّجةً بالسلاح والحقد والكراهيّة، وهدمت منزل مواطن عربيّ بسيط، لم يقترف ذنبًا سوى أن أمنيته كانت أن يملك بيتًا، يعيش فيه مع عائلته وأبنائه الذين يكبرون أمامه ويرون معركته الدائمة مع السلطات الإسرائيلية، التي لم تُعطِه ترخيصًا للبناء على أرضٍ يملكُها هو! ولم يلجأ إلى خيار البناء عليها بالرّغم أنها ملكه الخالص والخاصّ، إلّا عندما صارت تُمثّل بالنّسبة إليه الخيار الأخير في معركته ضد ضيق الأرض والمسكن.

الآن، تخيّل عزيزي القارئ أنّك أنت صاحب البيت المهدوم/ المُهدَّد بالهدم، ولنطرح عليكَ بعض الأسئلة؛ هل سبقَ لك أن ترى أَحلامَك كُلَّها التي بنَيت تتحولُ إلى سراب؟ هل ذُقت مرارَةَ أن يدوسَ أحَدُهُم على مجهودِ سنينكَ المجبولةِ بالتَّعب؟ هَل جَرَّبتَ الشُّعور بالنَّدم على خطأ لم ترتكِبه؟ هَل اجتاحَتْ مفاصِلكَ نُوبَةٌ من الهيستيريا والبُكاء وأنت ترمق بعينَينِ مُنكَسِرَتَين " تحويشة العُمر" وهيَ تَضيِع منكَ وتُغادِر إلى الهَباء؟ كُلّ الأسئلَةِ السَابقة لا تحتاجُ إلى إجابات، ذلك أنَّ جميعها تُشير إلى إسرائيل، التي لا تقوم لها قائمة دون الاستعمار المرتكن إلى الهدم والإقصاء، وتقويض وجزّ كل ما هو عربيّ، حتّى أن اللغة العربيّة لم تكن استثناءً بالنسبة لحكومة اليمين المتطرّف التي لا تفوِّت فرصة واحدة كي تُذيق العرب الويلات والمرائر.

المنزلُ الذي تمّ هدمه أمس في سخنين، لم يكن استثناءً، وأخشى أنه لن يكون كذلك مُستقبلًا، أوَلَم تشهد الأسابيع الأخيرة، حملةَ هدمٍ مكثفة في أم الفحم وقلنسوة، وطمرة، ومنشية زبدة، ورهط، واللد، والعراقيب، وغيرها؟ أوَلَم نعتَد أخبار الهدم حتّى بات السؤال الذي يُراودنا هو "أين ستكون الضربة القادمة؟"، بدلًا من السؤال "لِمَ ستكون ضربة قادمة أصلًا؟". أعتقد أن إسرائيل تحملُ الإجابات، بل وتُقدِّمُها لنا على طبقٍ من ألم، إذ أنها تفعل - وبكلّ بساطة - أيّ شيء يحلو لها، متّى وأينما شاءت. ثمّ ماذا؟ ما الذي فعلناه، أو نفعله كي نتحدى اليد الإسرائيلية التي طالت حقوقنا البديهيّة؟ لا شيء. نعم، نحن لا نفعل أي شيء، وحينما تتّحد بعض الجهود، قد نُصدرُ بيان استنكارٍ يتّسمُ بالخجل، أو قد نسير في تظاهرة لا يُشارك فيها سوى العشرات.

فِعلُ هدمِ المنزل من حيث الماهيّة، لم يعُد مُستغربًا من دولةٍ لم تسلم الإنسانية من أذيّتها، إلا أنه لا يُمكنُ فصل هذا الفعل عن السّياق الزّمنيّ الذي جاء فيه، إذ أن راهنيّة الهدم تُشير مُباشرة إلى عقلية "قانون القوميّة" الذي سنّته إسرائيل قبل أيّام، والذي ينص على أن "دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي"، وأن حق تقرير المصير في دولة إسرائيل يقتصر على اليهود، والهجرة التي تؤدي إلى المواطنة المباشرة هي لليهود فقط، و"القدس الكبرى والموحدة عاصمة إسرائيل"، واللغة العبرية هي لغة الدولة الرسمية، أما اللغة العربية، فليست بالنسبة لإسرائيل، سوى لغة ثانية، هامشيّة، وفائضة عن الحاجة. يُكرِّس "قانون القوميّة" إسرائيل لليهود فقط، ويذهب أبعد من ذلك، حين يُقصي غيرهم مُجسّدًا بذلك نظام أبارتهايد عنصري، (في الأرض والمسكن واللغة وكل شيء)، لعلّه الأسوأ في تاريخ البشرية الحديث، أوّلًا لأنّ الفصل العنصريّ في هذه الحالة يقع على أصحاب الأرض الأصلانيين، ثانيًا لأن فعل "الفصل العنصري" القبيح والدّنيء يلبس قناع القانون، ما يعني إضفاء الصبغة القانونية على فعلٍ غير قانوني، منبوذٍ في كافة المواثيق والأعراف والدساتير الدولية، بمعنى آخر، وبما أنّ هذا الفعل اكتسب الصفة القانونيّة، يصيرُ الفعل الإنسانيّ المُناقض له (للفصل العنصري)، فعلًا مُنافيًا للقانون، وربّما يستوجب العقاب!

وفي الحقيقة، إذا استثنينا سنّ القانون قبل أيام، سنجدُ بالرغم من ذلك، أن الحكومة الإسرائيلية، سعت، إلى تشريع إقامة تجمعات سكنيّةٍ خالية من العرب، أكثر من مرّة، لعل آخرها كان العام الماضي، حينما اشتمل مُقترح قانون القومية آنذاك بندًا يحمل اسم "الحفاظ على التراث"، ويحقّ بموجبه للدولة، بالسماح لأبناء ديانة واحدة أو قومية واحدة، إقامة تجمع سكاني خاصّ بهم، والمقصود بالطبع استثناءُ العرب الذين لم يُسمح لهم بإنشاء مدينة واحدة أو حتّى تجمّع سكانيّ واحد منذ النّكبة حتى اليوم، وفي ذلك قالت صحيفة "هآرتس" واصفةً القانون وقتها، (لا سيما البند الذي يُتيح إقامة تجمّعات سكّانية خاصة بأبناء كل ديانة أو قوميّة) بأنه "صيانة لتراث العنصرية"، فإذا كان هذا "صيانةً لتراث العنصريّة" فماذا يُمكننا أن نُطلق الآن على هدم منازل العرب، غير "تُراثٌ لصيانة العنصريّة"؟!

نعم للأسف، صار هدم المنازل العربية تُراثًا، كي تصون فيه إسرائيل العنصريّة التي وُلِدت من رحم الاستعمار، والتي تتخذها إسرائيل بوصلة في كل خطوةٍ تُقدم عليها.

(محرر في موقع "عرب 48")

التعليقات