05/06/2018 - 20:06

عندما تخطئ وكالة الأنباء الفرنسية

ليست وكالة الأنباء الفرنسية مورّدًا عاديًا للأخبار والتقارير والتحليلات، وإنما هي وكالة عريقة وعتيدة، وتستفيد من خدماتها الإخبارية آلاف الوسائط الإعلامية في العالم، بالنظر إلى ما أحرزته من مهنيةٍ عالية، ومن تنوعٍ في مصادرها.

عندما تخطئ وكالة الأنباء الفرنسية

شعار أ ف ب

ليست وكالة الأنباء الفرنسية مورّدًا عاديًا للأخبار والتقارير والتحليلات، وإنما هي وكالة عريقة وعتيدة، وتستفيد من خدماتها الإخبارية آلاف الوسائط الإعلامية في العالم، بالنظر إلى ما أحرزته من مهنيةٍ عالية، ومن تنوعٍ في مصادرها، غير أن ذلك لا يعني تسليمًا مطلقًا بصدقية كل ما تطيّره من منتوج إعلامي، فكثيرًا ما تعوزها الدّقة في موادها بشأن قضايا عديدة، ولا سيما التي تخصّنا، نحن العرب، كما أنها ما زالت تلوّن أخبارًا لها متصلة بالصراع العربي الإسرائيلي باصطلاحاتٍ تخلّ بالتوازن المهني. ونعرف، نحن العاملين في الإعلام، هذه المثالب الظاهرة وأخرى غيرها، لدى الوكالة الفرنسية وغيرها، غير أن هذا الأمر لا يمنع من الإلحاح الدائم على وجوب أن تتخفّف هذه المنصة الإخبارية المهمة، وذات الخدمات المقدّرة في كل حال، من كل العيوب التي تُضعف أداءها، وتؤثر على صدقيتها.

من جديد سقطات وكالة الأنباء الفرنسية ما اشتمل عليه تقرير بثته أخيرًا عن المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة، ضمن إضاءاتها على الأزمة الخليجية بمناسبة اكتمال عام على نشوبها، بزعم أن بشارة "من بين أبرز الأسماء المرتبطة" بالأزمة.

وتقدّم الوكالة كلامها هذا باعتباره حقيقةً بديهية، فلا تنسبه إلى محللٍ أو صاحب رأي، ما بدا أن الوكالة نفسها تعتنق هذه القناعة الغريبة، فيما السؤال البديهي: ما هو بالضبط وجه ارتباط المفكر والباحث عزمي بشارة بالأزمة التي افتعلتها العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر مع دولة قطر؟ وصدورًا عن قناعةٍ لدى الوكالة الفرنسية بهذا "الارتباط"، فإنها تقدّم للمشتركين في تلقّي خدماتها الإخبارية تعريفًا بالدكتور عزمي بشارة بأنه "عُرف بمواقفه المؤيدة للفلسطينيين". وهذا تقديمٌ عجيبٌ لا يليق بوكالة أنباءٍ عالميةٍ كبرى ارتكابه، بالنظر إلى الخفّة الكثيرة في هذا الكلام، فالدكتور بشارة ليس ناشطًا حقوقيًا من المكسيك أو أيسلندا ليوصف بأنه من مؤيدي الفلسطينيين (لا يتم تعريفهم شعبًا!)، وإنما هو ابن هذا الشعب، ومن ألمع مثقفيه ومناضليه وأعلامه، ولا يزاول "تأييدًا" للفلسطينيين، بل يشتبك، من موقع المنتسب إلى شعبه، مع العدو الإسرائيلي في كفاح سياسي مديد. وبذلك لا يجوز تمرير هذه الصفة، وتقديم المفكر بشارة للمشتركين في خدمات الوكالة الفرنسية في العالم بها.

وتمضي الوكالة في تسرّعها، واستعجالها الواضح، فتأتي على قضية الدعوى القضائية التي افتعلتها المؤسسة الحاكمة في إسرائيل ضد الدكتور بشارة، بأنها مبنيةٌ على اتصالاتٍ أجراها مع حزب الله في أثناء حرب تموز/ يوليو 2006. وبعيدًا عن التوصيف لتلك الحرب بأنها كانت عدوانًا إسرائيليًا على لبنان، فإن ذرائع الدعوى أبعد من هذا الاتهام الذي حسنًا فعلت وكالة الأنباء الفرنسية بأنها جاءت على نفي بشارة لها.

وفي إشارتها إلى أن إقامة الدكتور عزمي بشارة في دولة قطر بعد مغادرته وطنه (وليس إسرائيل)، اعتبرت وكالة الأنباء الفرنسية أنه "أحد أبرز محرّكي الإعلام القطري في المنطقة". ومرة أخرى، لا تسند الوكالة قولها هذا إلى أحد، وتسوقه إلى من يستقبلون خدماتها في العالم باعتباره بديهيةً لا تحتاج دليلا لتأكيدها. وذلك كله فيما المعلوم أن عزمي بشارة عمل سنوات في التعليم الجامعي، ومنقطعٌ منذ ثلاثة عقود إلى التأليف في مباحث فكرية وثقافية، ولم يحدث أن اشتغل في الإعلام بالمعنى الحرفي، أو تولى مسؤوليات في أي من مؤسساته، وإنْ ظل حريصا بالطبع على التواصل مع جمهور قرائه ومتابعي نشاطه الفكري بالإطلالات في وسائل الإعلام المختلفة، قبل أن يقيم في الدوحة وفي أثناء إقامته فيها. ومعلومٌ أن مؤسسات الإعلام القطري يتولى إدارتها وتسييرها مسؤولون معلومون، من أهل الخبرة والمعرفة بصناعة الإعلام. ولا يحتاج أيٌّ منهم لمن "يحرّك" عملهم، وهم الأدرى به من غيرهم.

أما استئناس وكالة الأنباء الفرنسية بقولٍ "للخبير في شؤون الخليج"، ثيودور كراسيك، إن عزمي بشارة يلعب دورا رئيسيا في "صياغة نهج قطر في المنطقة والعالم عبر وسائل الإعلام والأبحاث"، فللرجل أن يقول ما يشاء، غير أن في هذا الكلام تزيّدًا ومجازفة ليسا في محلهما على أقل تقدير. ذلك أن عزمي بشارة ينتج فكرًا وأبحاثًا، وقد عمل، من موقعه مديرًا للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، على تشجيع العمل البحثي العربي، وتحفيز الأكاديميين العرب في مختلف مواقعهم، وتنوع قضايا مشاغلهم، على مزيد من الإنجاز العلمي والمعرفي. وليس في دور كهذا أي صياغةٍ لنهج دولة قطر، فهذا من اختصاص مسؤولين يقومون على صناعة القرار الحكومي في دولة قطر، وليس من اختصاص أحد غيرهم.

وإذا كان لوكالة الأنباء الفرنسية أن تأتي في معرض تعريفها بالدكتور بشارة على ما تتقول عنه دوائر وأجهزة إعلامية خليجية من افتراءات وأكاذيب واتهامات، فلا بأس في ذلك، على المستوى المهني، ولكن أن تسمّي الوكالة المحترمة هذه الأصناف من الكلام باعتبارها "انتقادات" فهذا ليس مقبولًا، ولا دقيقًا، فالنقد، ولو وصل إلى منزلة الانتقاد، لا يمثل إساءةً لأحد، بل هو ممارسة ديمقراطية لا يعارضها بشارة. وكان الأوْلى أن تتحرّز الوكالة العتيدة في انتقاء مفرداتها.

ومن عجائب التعريف الذي بسطته وكالة الأنباء الفرنسية للدكتور عزمي بشارة أنه أفرد مساحة لما ترتكبه وسائل إعلام خليجية من كلام ساقط عن شخصه، من دون أن تأتي بإشارةٍ، ولو موجزة، إلى أي من مؤلفاته وأبحاثه الغزيرة، والتي ساهم فيها بتقديم أفكار واجتهادات في الفكر وإضافات نوعية في أسئلة الديمقراطية والمجتمع المدني والعلمانية والثورة والطائفية. لقد اعتنت الوكالة العتيدة بالنعوت الهابطة التي تحفل بها ضد المفكر عزمي بشارة منصات إعلام ومواقع إلكترونية وحسابات في وسائل التواصل الاجتماعي، معلومة الأغراض والتوجيه، من دون أن تكترث بشيءٍ من التوازن، فتأتي على ما يذكره مثقفون ومفكرون وإعلاميون عرب، لكل منهم مكانته وإنجازه، بشأن مجهود بشارة. ولم يكن كافيًا منها أنها أوردت قول الباحث أندرياس كريغ عن التضخيم الذي تمارسه وسائل إعلام خليجية بشأن "دورٍ" للدكتور بشارة في التأثير على السياسة القطرية.

وإذا كانت الوكالة قد آثرت أن تأتي على أن عزمي بشارة أصبح من أشد منتقدي النظام السوري وحزب الله، بعدما كان من أبرز مؤيديهما، فإنها أغفلت سبب هذا الأمر، فبدا أن بشارة متناقض في مواقفه، فيما الحال أنه ضد الاستبداد ومع حق الشعوب بالحرية، وفي الوقت نفسه مناوئ لإسرائيل، ومع كل تجربة نضالية ضدها. وإذا ما تم النظر إلى موقف عزمي بشارة هذا فإن تفسير ما توحي به الوكالة من تناقضٍ يصبح واضحًا.

ولا تعني كل هذه الإشارات بشأن التقرير عن عزمي بشارة انتقاصًا من المكانة الخاصة والمهمة التي تحوزها وكالة الأنباء الفرنسية عالميًا، والتي ستبقى محل احترام وتقدير عمومًا.

التعليقات