15/03/2023 - 10:23

كيف سيستخدم الصحافيّون "تشات جي بي تي"؟

يستكشف المقال الاستخدام المحتمل لنموذج لغة الذكاء الاصطناعي "تشات جي بي تي" من قبل الصحفيين وغرف الأخبار، ويعتمد الكاتب في بياناته على تجربة غرف الأخبار التي تستخدم الذكاء الاصطناعي منذ سنوات لإنشاء محتوى آلي لتقارير الرياضة والأموال ولزيادة الزيارات

كيف سيستخدم الصحافيّون

(Getty)

إذا بقينا على المسار الحاليّ، فمن المعقول تمامًا أن تبدأ أدوات لغة الذكاء الاصطناعيّ في الاندماج في سير عملنا اليوميّ، على غرار ما فعله محرّك بحث غوغل وبرنامج غوغل للترجمة. عملت أوكلاند تريبيون، في أواخر التسعينيّات، بالطريقة الّتي عملت بها الصحف لعقود، مع بعض الإضافات الأخيرة، إذ صار الكمبيوتر المكتبيّ الّذي عمل عليه كلّ المراسلين مزوّدًا بإمكانيّة الوصول المباشر إلى الأرشيفات الرقميّة الخاصّة بالصحيفة، والوصول لأخبار شبكة أ ب، وحساب البريد الإلكترونيّ. كان أيضًا في غرفة الأخبار نفسها، جهاز كومبيوتر آخر متّصل بالإنترنت، ولم يستخدمه أحد.

ولننتقل سريعًا إلى عام 2002: كان هذا هو العام الّذي أشارت فيه مجلّة وايرد Wired إلى الاستخدام الجماعيّ لكلمة «غوغل» بوصفها «فعلًا"، أي أن تقول لأحدهم (غوغلها Google it)، وكانت في طريقها لدخول قاموس أكسفورد الإنجليزيّ في يونيو 2006. عمل آلاف من المراسلين والمحريّين وكتّاب التلفزيون والراديو خلال السنوات اللاحقة، بهدوء وسرعة، ودون قرار واع، بإدماج بحث غوغل وبحث الإنترنت ضمن مهامّ سير عملهم الإعلاميّ.

بعد أن واصلت عملي في إعداد التقارير الإخباريّة العامّة والتحرير من خارج غرف الأخبار، كنت قادرًا على ملاحظة دخول أدوات البحث الأساسيّة عبر الإنترنت إلى تلك الغرف بطريقة طبيعيّة وتدريجيّة، كما أنّها وصلت للعاملين في المهنة، المتمرّسين منهم في مجال التكنولوجيا وغير المتمرّسين، والّذين يشكّلون الغالبيّة العظمى في عالم الأخبار.

ونظرًا لامتلاك الجميع لأجهزة الكمبيوتر، ولأنّ غوغل تطوّر تدريجيًّا، وصار أكثر ذكاء مع مرور الزمن، لم نمرّ نحن بلحظة (قبل وبعد) من تلك اللحظات الّتي شهدتها الأجيال السابقة: استبدال الآلات الكاتبة ببرنامج الوورد، التحويل من التصوير بالفيلم إلى التصوير بالكاميرا الرقميّة، أو التحوّل الآيفون، والّذي فتح الطريق إلى إمكانيّات غير نهائيّة لالتقاط الصور والأصوات.

اختلفت طريقة جمع المعلومات في مهنة الصحافة، كما البحث عن الأفكار وتقصّي الحقائق بعد انتشار الإنترنت. لا تسأل كيف اعتدنا فعل ذلك، أو كيف تعلّمنا أن نفعل ذلك بالطريقة الجديدة. حدث التحوّل فحسب، تسلّل إلى عظام مهنتنا دون دورات تدريبيّة أو كتيّبات إرشاديّة أو أيّ نقاش مهمّ حول المعايير والأخلاق.

على النقيض من ذلك، كان الإصدار العامّ لتشات جي بي تي في 30 نوفمبر 2022 لحظة فاصلة للغاية، وقد سأل الكثير منّا (قبل الإعلان، هذه المرّة!) كيف يمكن تغيير وظائفنا وصناعتنا مع ظهور وظائف اللغة الطبيعيّة للذكاء الاصطناعيّ. وليس من المستغرب بعد أشهر عديدة على إطلاق البرنامج، وعلى أشهر من النفخ والتخويف الإعلاميّين، صار النظر تشات جي بي تي وغيرها المنصّات المماثلة ينقسم إلى الساخر منها، أو المخوف منها وكأنّها لحظة نهاية العالم، أو إلى الخائف منها؛ لأنّها ستأخذ وظيفته. كلّ التنبّؤات والتجارب على الذكاء الاصطناعيّ لا تزال مؤقّتة، أيّم حكومة باللحظة الّتي نعيشها، حيث تتطوّر التكنولوجيا بسرعة، ولا يزال يتعيّن عليها اكتشاف العديد من التطبيقات الّتي يمكننا استخدامها.

تأتي مساهمتي هذه في أولى أيّام انتشار الذكاء الاصطناعيّ، حيث وجدتني ودون قرار واع أستخدمه في على مدار العقد الماضي في وظيفتي كمؤسّس مشارك ومحرّر لمجلّة وورلد كرنش Worldcrunch، والّتي تنشر نسخًا إنجليزيّة لأهمّ القطع الصحافيّة المكتوبة باللغات الأجنبيّة. قبل انطلاق المجلّة في عام 2011، سألنا كثيرًا من الناس عن توظيفنا للذكاء الاصطناعيّ (لم يكن اسمه هكذا)، حيث أراد جميع المستثمرين والشركاء المحتملين والزملاء المحرّرين والتقنيّين منّا أن نجيب عن سؤال «ما الفرق بينكم وبين ترجمة غوغل؟»

رأى البعض في ازدهار الترجمة الآليّة تهديدًا لنموذج أعمالنا، ورأى آخرون في ذلك بمثابة هبوط حتميّ لجودة منتجنا التحريريّ، وكانت ردّة فعلي وقتها في استبعاد الاعتماد على الآلة في العمل، والإشارة بعض أخطائها الفادحة والتأكيد على أنّها لن تكون جيّدة بما يكفي لتحلّ محلّ الترجمة البشريّة بنسبة 100%.

عملت في السنوات الأولى للمجلّة إلى حدّ كبير مع مترجمين مستقلّين، ووجدت نفسي «أصطاد» أحيانًا أولئك الّذين كنت أشكّ في أنّهم يستخدمون الترجمة الآليّة، حيث كانوا يقدّمون نصوصًا غير متماسكة، وتحتوي أحيانًا على أخطاء فاضحة (كأن يترجموا أسماء الأشخاص)، وفي بعض الأحيان كنت أرتاب من سرعة تسليم المترجمين للنصوص المطلوب. ما أقوله لا ينفي أنّ بعض أفضل المترجمين لدينا كانوا يستخدمون الآلة بالفعل... ولم يكن أكنّ أتمكّن من معرفة الأمر. لقد كانت أداة، وقد عرف المحترفون سبل استخدامها لتعظيم إنتاجهم وجودة عملهم (ونعم، بأسرع ما يمكن)، أم من أساءوا استخدامها، رصدوا بسرعة، ولم يعملوا معنا لوقت طويل.

تعتمد إيرين كاسيلي، الصحفيّة المخضرمة والمحرّرة في فريقنا والّتي تتحدّث خمس لغات، على أدوات الترجمة الآليّة منذ سنوات، حتّى قبل تطوّرها البديع، وتقول: «كنت أستخدم أحيانًا ترجمة غوغل، عند ظهورها لأوّل مرّة، لتساعدني في ترجمة الكلمات الأساسيّة والبنية إلى اللغة الجديدة ووضعها على الصفحة، ولكن توجّب عليها بعدها التحقّق من كلّ كلمة».

وعلى الرغم من تطوّر الترجمة الآليّة تطوّرًا كبيرًا في السنوات الماضية (تفضّل إيرين استخدام DeepL بدلًا من غوغل اليوم)، إلّا أنّها صارت تعرف تمامًا متى وكيف تستخدمه. ما تنتجه الترجمة الآليّة يكون أقوى في مجالات الصحافة والسياسة والمعلومات (لغة واضحة)، ويكون ضعيفًا في الأعمال الكتابيّة والقصص الّتي يكون للّغة فيها أكثر من مستوى وبعد دلالي. وفي اللغة الّتي تجندر الضمائر، أو تحذفها مقابل ضمائر مستترة (مثل الإيطاليّة والإسبانيّة والفرنسيّة، وغيرها) يميل اختيار تطبيقات الترجمة الآليّة لاستخدام التذكير بشكل افتراضيّ، ولكنّ كاسيلي تقول إنّها التطبيقات صارت تتطوّر أكثر مؤخّرًا، وتكتشف أحيانًا التأنيث بناء على السياق.

لذلك تقول كاسيلي إنّها بينما كانت تستخدم التكنولوجيا قبل 10 سنوات لتقليل وقت الكتابة، فإنّها اليوم تستخدم منتجات الترجمة الآليّة كمسوّدة أولى يمكن الاعتماد عليها وتطويرها ومراجعتها وتعديلها واكتشاف الأخطاء فيها وتعديلها.

عندما أطلقت لوموند طبعة باللغة الإنجليزيّة العام الماضي، أطلقتها عبر توظيف منهجيّ لإحدى منصّات الترجمة المدعومة بالذكاء الاصطناعيّ في عمليّة التحرير مع إشراف بشريّ. واكتشفنا نحن خلال سنوات عديدة في مجلّتنا دور الترجمة الآليّة في عملنا كمحرّرين. صارت الآلة، في العديد (وإن لم يكن كلّ) اللغات الّتي نترجم منها، جيّدة بما يكفي بحيث يمكنني الرجوع إليها عند محاولة إعادة صياغة جملة غير منطقيّة في قطعة مترجمة من لغة لا أعرفها. ربّما أكثر استفادة حقّقناها من الآلة مؤخّرًا هي في قدرتنا مؤخّرًا على تصفّح صحف بأكملها بأكثر من لغة، وفي شعور بالثقة في تخصيص بعض القصص لمترجمين لا يعرفون بالضرورة نوع القصص الّتي نريدها، ويمكن لهذا أن يوفّر علينا الكثير من الوقت والطاقة الذهنيّة.

ما يزال الكثير من المترجمين من كلّ الأعمار يختارون عدم استخدام الترجمة الآليّة، حتّى مع تطوّرها. وسأفضّل دائمًا الحصول على عروض قصصيّة من صحفيّين متمرّسين يتحدّثون أكثر من لغة. أتخيّل أنّه قريبًا سيشيع استخدام أدوات اللغة الطبيعيّة للذكاء الاصطناعيّ إلى حدّ كبير لأغراض السرعة والاختصار، وسيختلف ذلك إلى بناء على القناعات الفرديّة وعادات العمل.

بدأنا نرى أمامنا التغييرات المحتملة الّتي يحدّثها تشات جي بي تي لإنتاج الأخبار والصحافة، وجميع الصناعات الإبداعيّة، ورأينا أنّها تتجاوز السرعة، وثمّة اختلاف كبير بين تحوّلنا إلى الإنترنت قبل عقدين، وبين تحوّلنا إلى الذكاء الاصطناعيّ اليوم.

كانت الجولة الأولى من التجارب العامّة ممتعة للمشاهدة، وتولّدت العديد من الأسئلة الأخلاقيّة الأوّليّة أمام شركات الأخبار في مواجهة القرّاء. وضعت ميديوم Medium سياسة أولى حول «الشفّافيّة والإفصاح وإرشادات النشر» لاستخدام أدوات الذكاء الاصطناعيّ. وإذا واصلنا المسير في هذا الاتّجاه نفسه، فسنشهد اندماج أدوات لغة الذكاء الاصطناعيّ في سير عملنا اليوميّ، على غرار ما فعله محرّك بحث غوغل وبرنامج غوغل للترجمة وهذا أمر جلل.

تصل نماذج اللغة الآليّة المتقدّمة هذه إلى جوهر ما نقوم به، أو على الأقلّ نصفه: الكتابة، وتوليف المعلومات، وصياغة القصص الّتي تجعلنا دائمًا نتأكّد من إنسانيّتنا، ومن قدرتنا على كتابة هذه القصص الفريدة. وضعت غوغل وفيسبوك مصدر رزقنا على المحكّ. والأمر أعمق من مجرّد الكتابة، ويرتبط بالإيغو. هل سنتحوّل إلى مدقّقين لما تنتجه الآلات؟

أمّا النصف الآخر من الأخبار والصحافة، وهو ما يجعلنا بشر حقًّا، وما تعجز عنه الآلة، فهو بعيد عن متناول قواعد البيانات والخوارزميّات، لأنّنا نعمل ونشر بأنّنا على قيد الحياة عند اكتشافنا لأمور كثيرة لأوّل مرّة. يمكن أن يكون عالمنا الرقميّ، والإبداع نفسه، مشتقًّا للغاية بحيث يمكننا أن ننسى أنّنا هنا؛ لأنّ كلّ يوم تحدث أشياء جديدة، ولكنّ جزءًا من طبيعتنا أنّنا نرى أمورًا لا يراها غيرنا، ونقيم روابط وعلاقات لا يقيمها غيرنا، ونعمل وفق المبدأ الشهير في الصحافة الحقيقيّة: «نشر ما لا يريد شخص آخر نشره». ولتهدئة غرورنا الهشّ، يمكننا التعلّم من مقولة قديمة أخرى: إذا كانت الصحافة هي المسوّدة الأولى للتاريخ، فلن تذهب الآلة إلى أيّ مكان بدوننا.

فيما يلي بعض الأفكار، المستقاة من تجربة مجلّتنا مع الترجمة الآليّة، والّتي قد تكون قابلة للتطبيق على استخدام أدوات اللغة الطبيعيّة للذكاء الاصطناعيّ:

- يتطلّب تعظيم الاستفادة من الأتمتّة تفكيرًا إبداعيًّا بشريًّا قبل اللجوء للآلة، وللإشراف البشريّ (الّذي قد يشمل المزيد من التفكير والإبداع) بعد أن تنتجه الآلة.

- لا تفرض استخدامها: من الأفضل ترك الأدوات واستخدامها في أيدي الأفراد.

- سيتعيّن على المحرّرين الاعتماد على نفس غرائزهم الطبيعيّة في اكتشاف الإهمال والكسل والانتحال وما إلى ذلك (توجد أدوات للمساعدة في هذا أيضًا!)

- اعتقد جلسات تدريبيّة منتظمة وتحدّث بانفتاح حول الطرق الجديدة لاستخدامه والمزالق المحتملة..

- إذا كانت الأدوات قويّة وموثوقة بما يكفي لدمجها في عمليّة التحرير، فإنّ تصنيف العمل على أنّه «منتج باستخدام الذكاء الاصطناعيّ» سيكون بلا فائدة في النهاية.

- كن واعيًا بعامل التحسين الأسيّ في الجودة والدقّة.

- كن واعيًا بعامل ضروريّة الرقابة البشريّة على الدوام.

- السرعة مهمّة.

- الجودة تتجاوز السرعة في الأهمّيّة.

- والدقّة هي الأهمّ..

التعليقات