02/06/2019 - 01:01

في مفتتح الحديث عن "الأستاذ سميح"

في مفتتح الحديث عن

الراحل سميح حمّودة (1960 - 2019)

 

بعد ظهيرة الأحد 26 أيّار (مايو) 2019، تناوب خمسة أشخاص على تأبين اللاجئ الفلسطينيّ سميح طه عيسى حمّودة من قرية لفتا المهجَّرة، بعد دفنه في مقبرة البيرة الجديدة، وهو المولود في بيت لحم عام 1960، والمتوفّى قبل 24 ساعة من هذا التأبين في "المستشفى الاستشاريّ" قرب رام الله، بعد سبعة أشهر عجاف من الصراع مع مرض السرطان، خاتمة الأمراض والأحزان. الخمسة هم واعظ، وقياديّ في فصيل مقاوم، ونقيب العاملين في "جامعة بير زيت"، وممثّل عن مخيّم الأمعري، وقريب للمتوفّى. أُحبّ أن أخاطبه باستمرار "أستاذ سميح".

 وخلال الساعات الأربع والعشرين الّتي فصلت بين وفاته وتشييعه إلى مثواه الأخير، ضجّ موقع التواصل الاجتماعيّ "فيسبوك" بالعشرات، وربّما المئات، من منشورات النعي والرثاء للراحل، وصَفته بالمعلّم، والمفكّر، والأكاديميّ، والباحث، والدكتور، والشيخ، والمجاهد، والأب، والأخ، والقدوة، وغيرها من صفات توزَّعها أهله ومحبّوه وطلّابه وأصدقاؤه بلا تكلّف ولا مجاملة؛ فمن هو هذا الأكاديميّ الفلسطينيّ المُجمع عليه، الّذي فُجع الفلسطينيّون برحيله، وضجّوا بذكره دفعة واحدة.

لن أكتب عن "الأستاذ سميح" في مسعًى لشهادة شخصيّة أو كنواة لسيرة غيريّة له، لكن انطلاقًا من وحي معرفتي المهنيّة والأكاديميّة به وبمشروعه الفكريّ والبحثيّ، تلك المعرفة المتأتّية من خلال التتلمذ على يديه مساعدَ بحث. وإذا كانت هذه المحاولة لا تسعى إلى تقديم شهادة أو التأسيس لسيرة، فهي خطوة تفتح الباب باتّجاه الكلام عن الراحل، من كلّ مَنْ عرفوه من خلال دوائر مختلفة: التدريس، والبحث، والكتابة، والخطابة في المساجد، والعمل الوطنيّ بالمعنى الواسع، إضافة إلى دوائر العائلة والأصدقاء والجوار.

تعرّفت إلى الأستاذ سميح عام 2009، في مستهلّ عملي مساعدًا للبحث والتدريس في "دائرة العلوم السياسيّة"، في "جامعة بير زيت" الّتي كان يرأسها. ومنذ اليوم الأوّل للعمل معه، وجدت نفسي - بصفتي خرّيج لغة إنجليزيّة وطالبًا مستجدًّا في الدراسات العربيّة المعاصرة - مساعد بحث لمؤرّخ اجتماعيّ يدرّس في "دائرة العلوم السياسيّة" ويديرها، مع ما يحمله ذلك من غرابة وسعي للاستكشاف في نفس الوقت. ورغم أنّني أعرفه منذ عشر سنوات، وهي ليست بالفترة الطويلة ولا القصيرة في نفس الوقت، إلّا أنّني وجدت لدى وفاته أنّني لم أكن أعرفه بالشكل الكافي أو الشامل، ولعلّ نوعيّة مؤبّنيه الّذين سبقت الإشارة إليهم، تشير إلى الدوائر المختلفة الّتي انتمى إليها، وشكّلت جزءًا من هويّته وشخصيّته في الوقت عينه: الفلسطينيّ اللاجئ، الإسلاميّ الوطنيّ العروبيّ الثوريّ، الأكاديميّ الجادّ، خطيب المسجد، ورجل الشارع العاديّ ببساطته وتواضعه وقربه ونمط حياته، وربّ الأسرة المتفاني والابن البارّ في الوقت نفسه.

من السنوات العشر الّتي عرفت خلالها الأستاذ سميح، عملت معه نحو خمس سنوات على ثلاث مراحل منفصلة. ومن السنوات الخمس عملت معه لأربع سنوات تقريبًا في نفس المكتب؛ أي في نفس الغرفة حيث اجترح لي مكانًا في غرفٍ صغيرة، حيث انتقلت "دائرة العلوم السياسيّة" الّتي عمل بها لمدّة اثني عشر عامًا، بين ثلاثة مبانٍ في حرم "جامعة بير زيت"، خلال هذه الفترة، كانت تغصّ بالكتب والأوراق والصحف القديمة والزوّار الّذين لا ينتهون من طلّاب وزملاء، وأحيانًا زوّار من خارج الجامعة، من صحافيّين أو باحثين أو أصدقاء، وكانت عبارته المتكرّرة بعد كلّ ازدحام للمكتب بالبشر، وما يرافق ذلك من تشتيت للتركيز: "تآخزناش يا أستاز علي"، يعتذر إليّ وأنا مساعده الضيف لديه، وفي مكتبه ودائرته وكلّيّته!

والمكتب بالنسبة إلى الأستاذ سميح، لم يكن مكانًا يقضي فيه ساعات مكتبيّة قليلة كلّ أسبوع، ينتظر مراجعيه من الطلبة، بل هو بالأساس مكان للقراءة، والبحث، والكتابة، والتحضير، وتصحيح الامتحانات، بعد أن أصبح مكتبه الجامعيّ مكان العمل الوحيد لديه، بينما كان في أوقات سابقة يوزّع ساعات عمله الطويلة على مكتبين إضافيّين: واحد في "مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة"، وآخر في "أرشيف بلديّة رام الله". وإضافة إلى ما سبق، كان المكتب مكانًا لتناول الطعام، والدواء، ومشاركة القهوة والشاي والفواكه والتمر، وغيرها من ضروب الضيافة مع مساعديه وزملائه وضيوفه.

كان الوقت هاجسًا ملازمًا للأستاذ سميح، فهو دائمًا على عجلة من أمره، ويفكّر في الإنجاز بلا "لتّ وعجن"، ودائمًا ما كان يستغرب من إغلاق مكتبات الجامعة ومبانيها مبكّرًا، مقارنًا ذلك بمثيلاتها الأمريكيّة مثلًا حيث درس وعمل، وامتداد العمل فيها إلى وقت متأخّر من الليل. وأحسب أنّ ساعات المساء، من الرابعة حتّى السابعة خلال التوقيت الصيفيّ، كانت الأحبّ إليه في مكتبه؛ إذ يغادر الموظّفون والطلبة ويعمّ الهدوء. وأذكر في صيف 2017، وهو الصيف الأخير الّذي عملت معه فيه، كيف كان يغفو أحيانًا وهو يحاول فكّ رموز مخطوطات من سجلّات "محكمة القدس الشرعيّة" تخصّ قريته لفتا، الّتي كان بصدد إعداد كتاب عنها. كيف لا وهذا العمل يسبقه تدريس ثلاث محاضرات متتالية يوميًّا، في جوّ الصيف الحارّ بين حزيران وآب؟ وأذكر كيف ذُهل أستاذ زائر أتى من الولايات المتّحدة للتدريس، صيف العام الماضي في الجامعة، عندما علم أنّ صديقه المؤرّخ والباحث يدرّس ثلاثة مساقات خلال الفصل الصيفيّ، وهو ما كان يفعله كلّ عام تقريبًا في الفترة (2008 - 2018). وأحسب أنّ داء السكّريّ الّذي أصاب الأستاذ سميح مبكّرًا كان حليفًا له في مسألة الوقت، يوقظه كلّ ليلة قبل الفجر، يتقلّب بين الكتب والأبحاث حتّى موعد استيقاظ العائلة الكبيرة، هو وزوجته وستّة من الأبناء والبنات، والانطلاق إلى العمل والجامعة والمدارس.

لقد كانت رفقة الأستاذ سميح فرصة للتعلّم عبر العمل، فأنا مثلًا لم أحظ بفرصة دراسة أيّ مساق لديه، لكنّني تعلّمت منه من خلال الزمالة والتوجيه الكثير الكثير. وكلّما طال أمد العلاقة وتوثّقت عراها، ما كان يبخل بالنصح والإرشاد على الصعيدَين الشخصيّ والاجتماعيّ. وقد قرأتُ حتّى الآن منشورين على "فيسبوك" لخرّيجَين اثنين من طلّابه، كتبا كيف أسهم في إنقاذهما من الفشل الأكاديميّ والفصل من الجامعة، عبر النصح والتوجيه، رغم ما عُرف به من صرامة ونزاهة وبُعد عن المحاباة، حتّى وصلت سمعته في هذا المجال إلى طلبة الهندسة والعلوم، وغيرهم ممّن لم يكونوا طلّابًا له.

كان يمكن هذه المادّة أن تأخذ منحًى آخر، فأقول لقد كتب الأستاذ سميح كذا وكذا من الكتب والدراسات والمقالات، الّتي تندرج ضمن الحقل الفلانيّ، وتتقاطع مع كيت وكيت من الاهتمامات، وهذا ما لها وهذا ما عليها. لكن كون هذه المادّة مفتتحًا للكلام، ويُرجى منها أن تكون دافعًا لآخرين، ربّما عرفوه أكثر وأعمق منّي، للكتابة عنه وتوثيق تجربته، فقد قصدت إلى أن تشير إلى اختلافه وتميّزه، فهو مثال للمثقّف الشامل، وأرجو ألّا يكون وصفي له تبسيطيًّا أو مخلًّا، وشموله لا يتعلّق بالإحاطة المعرفيّة وتنوّع الاهتمامات البحثيّة والأكاديميّة وتقاطعها فحسب؛ فالأمر متعلّق أيضًا بشمول جمهوره، وهو أمر سعى إليه بلا تكلّف، فكتب الكتب والدراسات المحكّمة، ونشر في مجلّات محلّيّة وصحف يوميّة، ولم يبخل بوقته على الفضائيّات والإذاعات، رغم نفوره من التحليل السياسيّ اليوميّ الفاقد للرؤية الإستراتيجيّة، و"الشغل الخفيف" على حدّ تعبيره، كما كان حريصًا على التطوّع للخطابة والتدريس في مساجد رام الله والبيرة، رغم منع "وزارة الأوقاف" له أحيانًا وسماحها له في أحيان أخرى، وتراه حريصًا على المشاركة في مؤتمر في تركيا، أو السفر إلى عمّان، لإجراء مقابلة شفويّة رغم ما كان يلقاه من تضييق في السفر، كان يطال عائلته أحيانًا، بعد عودته من الولايات المتّحدة عام 2006. كلّ هذا لحرصه - على ما أعتقد - على إيصال الأفكار الّتي لديه إلى أكبر شريحة ممكنة من المتلقّين، بلا نخبويّة أو تقوقع أو ترفّع؛ وهو ما دفعه غير مرّة للبحث عن جهات إنتاجيّة، تتولّى تحويل بعض جهده البحثيّ والأكاديميّ إلى أعمال مرئيّة، على هيئة أفلام وثائقيّة قصيرة.

لا يكتمل ما سبق تناوله من تميّز الأستاذ سميح واختلافه، من غير الحديث عن حرصه على إيجاد جيل من الباحثين المتميّزين بأقلّ القدرات، وهو ما كان يمتدحه في أحد أساتذته القدامى، ويجعله يغفر له قلّة مؤلّفاته. وقد أثار هذا الأمر نظر زميل يعمل في أحد أكبر مراكز الأبحاث العربيّة، من حيث الإمكانيّات والانتشار والتأثير، عندما قال لي ذات زيارة، إنّ الأستاذ سميح نجح في خلق حالة أكاديميّة بحثيّة حوله من لا شيء.

هل عرفنا "الأستاذ سميح"؟ الجواب المبدئيّ: "ليس بعد"؛ وهنا أنقل ما كتبه أسير محرَّر من الضفّة الغربيّة عبر موقع "فيسبوك": "عذرًا أخي سميح حمّودة، وأنت تذهب إلى الله في هذا الشهر الكريم، وأنا لا أعرفك... مرّ اسمك كطيف. لم أكن أعلم أنّك من هنا، من رام الله، كم هو مؤلم أن أكون في هذا الركب منذ عام 87 ولم أعرفك حقًّا! ... اليوم بعد موتك عرفتك. كنت أقرأ على مقدّمات بعض الكتب الّتي كنّا نقرؤها اسمك، وكنت أعتقد أنّك مفكّر محبّ من لبنان أو سوريا... عذرًا؛ فليس هذا أنا مَنْ يتحمّله؛ يتحمّله من لم يخبرونا من أنت، وأيّ منهج تحمل".

في اعتقادي، فإنّ هنالك فسحة من الوقت والجهد الّذي يعوّض ما فات، ويقع على عاتق مَنْ عرفوه وأحبّوه، من طلبة وزملاء وأصدقاء وعائلة، وهو في رأيي يتركّز في جانبين: أوّلًا، توثيق تجربته النضاليّة والأكاديميّة والشخصيّة، عبر مَنْ عرفوه في عديد الدوائر والمجالات في فلسطين وخارجها. ثانيًا، السعي إلى استكمال العمل على المشاريع البحثيّة الّتي كان يعمل عليها، وبعضها جاهز للنشر تقريبًا، ضمن جهد جماعيّ أفترض أنّه يمكن أن يجمع جامعته والمؤسّسات البحثيّة، الّتي عمل معها وطلبته وزملاءه وأصدقاءه وعائلته، حبًّا ووفاء، وخدمة للعِلم الّذي كان أحد طلبته كما كان يصف نفسه، والّذي أضحى فقيده كما وصفه أحد أساتذته.

 

 

علي موسى

 

 

باحث ومترجم فلسطينيّ، طالب في برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعيّة - جامعة بير زيت.

 

 

 

 

التعليقات