09/07/2020 - 11:02

عِلم بلا حوافّ: في إشكاليّة الفصل بين العلوم وأشباهها (1/2)

عِلم بلا حوافّ: في إشكاليّة الفصل بين العلوم وأشباهها (1/2)

أسطرلاب من القرن السابع عشر الميلاديّ (آلة قياس فلكيّة طوّرها المسلمون)

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"... وتصوّر حقيقة العلم عسير جدًّا".

محيي الدين بن عربيّ[1].

 

تمهيد

في دفاعه عن ثبات الأرض وردّه على مَنْ قال بدورانها، يكتب "أعجوبة الزمان وشرف المهندسين" مؤيّد الدين العُرضي[2] المتوفّى عام 1266 للميلاد: "... فظنّ قوم أنّ الحركة الّتي بها يَظْهَر للكواكب طلوع وغروب، إنّما هي حركة لجرم الأرض ... ولو نظروا إلى سرعة هذه الحركة لعلموا فساد ظنّهم ... وليس يوجد من المتحرّكات ما يتحرّك في هذا المقدار من الزمان هذا القدر من المسافة؛ فكان من الواجب ألّا يُرى السحاب ولا الطير متحرّكًا إلى المشرق ولا واقفًا، لكنّنا نرى الطير والسحاب متحرّكًا إلى جميع الجهات ... ولو رُمي في جهتَي المشرق والمغرب - بقوّة واحدة - حجارة أو سهام لوُجِدَ البعدان مختلفين، لكنّهما يوجدان متساويين؛ فليس للأرض حركة وضعيّة، فهي ساكنة في الوسط"[3].

تلك مقتطفات من نصّ مطوّل في القرن الثالث عشر، يبرّر لثبات الأرض باستحالة دورانها: بالحساب، والمشاهدة، والتجربة الحسّيّة. كم كان العُرضي بعيدًا عن جوهر الفكر العلميّ وهو يفنّد حدسًا مترعًا بالحقيقة يقول بدوران الأرض، ليدافع عن باطل فلكيّ، ويزعم أنّ عالَمنا ساكن في الوسط.

كم كان العُرضي بعيدًا عن جوهر الفكر العلميّ وهو يفنّد حدسًا مترعًا بالحقيقة يقول بدوران الأرض، ليدافع عن باطل فلكيّ، ويزعم أنّ عالَمنا ساكن في الوسط.

مَنْ أحقّ بلقب العالِم هنا: العُرضي الّذي أعمل أدوات التحليل الثقيل ووصل بها إلى خطأ مدوٍّ، أم مَنْ سمح لحدسه الخفيف وخياله الجامح أن يقوده إلى الصواب؟ لعلّنا نهوّن فداحة المسألة عندما نفتتحها بمنازعة حول الألقاب؛ فالسؤال الأعمق باقٍ على حاله: كيف تتعرّف الممارسة العلميّة؟ وأين توضع حدودها؟ وكيف تتعافى المنهجيّة العلميّة بعد مشهد "محرج" كهذا؟ ومِنْ أين نأتي بالجرأة لنتعالى اليوم على أصحاب الحدوس الغريبة والآراء الشاذّة، في ما تاريخ الثورات العلميّة يعجّ بهم؟

لسنا بحاجة إلى الغوص عميقًا في التاريخ كي نتلمّس إشكالات شبيهة في الممارسة العلميّة. عام 1983، طوّر أمريكيّ يُدعى كاري مولوس[4] تقنيّة، أتاحت – من بين أشياء كثيرة - إجراء فحوص التثبّت من الإصابة بالفايروسات كما نعرفها اليوم، ومنها طبعًا فايروس كورونا المستجدّ (Covid-19). كانت تقنيّة مولوس – ولا تزال - جوهرة تجريبيّة للقرن العشرين، وخلاصتها تحديد شطر فريد في المادّة الجينيّة للفايروس، تميّزه عن كلّ ما سواه، ثمّ التحايل على تلك البصمة المميِّزة، بإعطائها سَمِيًّا جينيًّا تلتحم به وتتكاثر معه، إلى أن تغلِب الكثرةُ فيها الصغر، وتَخرج الجرثومة إلى حيّز الإبصار[5]. بعد عشر سنوات، حصد مولوس جائزة نوبل في الكيمياء على حيلته الثوريّة الّتي غيّرت وجه البيولوجيا، ولوّنت الحرب مع الفايروسات من وقتها.

كيف وصل مولوس إلى هذه التقنيّة المركّبة؟ من بين أسباب كثيرة تستحقّ الذكر، لا ينسى مولوس أن ينسب جزءًا من الفضل إلى المخدّرات، مؤكّدًا أنّ تعاطيه لها أفاده بأكثر ممّا فعل أيّ مساق درسه في حياته[6]. ليس لكلام مولوس أن يُؤْخَذ حرفيًّا فهو صاحب باعٍ معروف في الهزل، ولا نعرف حتّى إن كان الّذي قاله تحت تأثير المادّة المذكورة أو لا، لكنّ الأكيد أنّنا في صدد رجل لا يلتزم أصول اللعبة المعلنة في المضمار العلميّ.

كتب مولوس في مواضع مختلفة عن تشكيكه في الاحتباس الحراريّ، وخرج بنظريّات غريبة حول مسبّبات مرض الإيدز، وطعن في فكرة تشكّل ثقب الأوزون[7]، وهي جميعها آراء تبلورت مع الوقت، ضمن ما ينزع كثيرون إلى تسميته بالعلوم الزائفة. ليس مولوس أوّل عالم بقامة شاهقة، يقول ويكتب ما يبدو للكثرة الغالبة إهانة لقامته وخروجًا عن شروطها، لكنّنا قد ننسى أنّ هذا الخروج هو أحيانًا، وتحديدًا، ما يصنع القامة الشاهقة في الأصل. لقد بلغنا، بكلامنا هذا، حقلًا محتومًا للألغام؛ فالحديث يبدو ازدراءً للرصانة العلميّة، وتفلّتًا من معايير الصواب والخطأ، وإنكارًا لمنهجيّة العلوم.

كيف يمكن أن نستلّ منطقًا وسط كلّ هذا؛ وسط أولئك الملتزمين بمقتضى الرصانة العلميّة والتجريب المنهجيّ لكنّهم يزلّون زلّات فاحشة، وأولئك الّذين يشطحون بعيدًا، ولا يلتزمون بصفّ ولا ينتظمون بمنهج، لكنّ حُسْن الطالع يواتيهم في النهاية ويجترحون اكتشافات كبرى؟

كيف يمكن أن نستلّ منطقًا وسط كلّ هذا؛ وسط أولئك الملتزمين بمقتضى الرصانة العلميّة والتجريب المنهجيّ لكنّهم يزلّون زلّات فاحشة، وأولئك الّذين يشطحون بعيدًا، ولا يلتزمون بصفّ ولا ينتظمون بمنهج، لكنّ حُسْن الطالع يواتيهم في النهاية ويجترحون اكتشافات كبرى؟ ليس الطرفان هنا منفصلين بالضرورة؛ فقد يجتمعان معًا داخل الرجل الواحد، والتاريخ زاخر بأمثلة على هؤلاء، من كيبلر المنجّم، مرورًا بنيوتن الخيميائيّ، وليس انتهاءً بمولوس المتعاطي.

إنّ كلّ الأمثلة الفائتة تقع تحت مظلّة عامّة واحدة، هي إشكاليّة الممارسة العلميّة، لكنّ كلًّا منها في ذات الوقت يخصّ مسألة بعينها؛ فزلّات العلماء لا تجعل علومهم أشباه علوم، ولا أشباه العلوم غياب بالضرورة لمنهج في البحث، ولا اختلال شخصيّة الباحث مؤشّر على طبيعة الفكر العلميّ؛ كلّ واحدة من هذه المسائل نسيجُ وحدِها، لكنّها معًا تحيك المشهد العامّ وتحكي معضلة راسخة في القضيّة العلميّة.

 

معضلة التعريف

لم تكن حقيقة العلم يومًا بالوضوح الّذي ترسمه كرّاسات المدارس، وترويه برامج التلفزة الخفيفة. مَنْ هذا المدعوّ "علمًا"؟ وأين يبدأ؟ وأين ينتهي؟ على أهمّيّته، فلهذا السؤال جانب عبثيّ؛ لأنّ العلم اختراع بشريّ متحرّك وليس أمرًا واقرًا في الطبيعة. هو اختراع – تحديدًا - لاكتشاف ذاك الواقر في الطبيعة، وهو خطوط اشتباك رسمها بشر – من لحم ودم - مع الطبيعة من حولهم، ومع المنطق الرابض في أذهانهم، وغيّروها بتغيّر الزمن وتطوّر الاشتباك. ولعلّ التسمية نفسها تصعّب الأمر أكثر، ولا سيّما أنّ قصّتها عربيًّا مختلفة عن قصّتها الأوروبّيّة؛ فبينما صمدت لفظة "العلم" في لغتنا لتتوسّع دلالاتها عبر القرون، وتصبح ناطحة سحاب اصطلاحيّة ترسو فوق أساس لفظيّ واحد[8]، حصل انزياح تامّ في التسمية أوروبّيًّا؛ فبعد قرون من "الفلسفة الطبيعيّة" تصاعد التململ من عبء الفلسفة على فهم الطبيعة، وبالتدرّج، تفجّر هذا التململ لغويًّا وظهر تعبير "العلم الطبيعيّ"[9]، قبل أن تُسْقِط زائدة "الطبيعيّ" نفسها ويصبح للعلم تسميته الّتي نعرفها اليوم[10]. ما من لحظة تاريخيّة بعينها لهذا الانزياح، لكنّ له محطّات فارقة. عندما كتب نيوتن أهمّ أعماله، الّتي بها يُعَرِّف البعض عصر التنوير بأسره، اختار عنوانه بعناية: "المبادئ الرياضيّة للفلسفة الطبيعيّة"[11]. هنا يَنْصُب الجديد كمينه للقديم، ويصبح تَرْييض الفلسفة تفخيخًا لها، وإيذانًا بدفن الأرسطيّة وانتهاج البديل الّذي خطّه غاليليو؛ إذ ليس من علم جدير باسمه إذا لم يخضع لسلطان الرياضيّات وبرهانها[12].

الممارسة العلميّة تتضمّن أصولًا وأمزجة تطبع مكابدتها: الشكّ، والسعي المجرّد إلى الحقيقة، واستعداد دائم للاعتراف بالخطأ، وحياد انفعاليّ تجاه النتائج المنشودة، والبناء على الأعمال السابقة، وتماسك المنطق الداخليّ.

لا ننسى هذه الحقيقة ونحن نقلّب الإجابات الّتي تراكمت زمنيًّا عن ماهيّة العلم وطبيعته. في وسط هذه الكثرة في التعاريف، يبقى الثابت أنّ العلم مكابدة ذهنيّة، يحاول فيها الإنسان مطاولة ظواهر تتمنّع على المطاولة. تبدو هذه عموميّة فادحة لا تصلح لتعريف شيء؛ فهي تكاد تشمل الكتابة الشعريّة والفنون الّتي تلزمها مكابدة مشابهة. لكنّ الممارسة العلميّة تتضمّن أصولًا وأمزجة تطبع مكابدتها: الشكّ، والسعي المجرّد إلى الحقيقة، واستعداد دائم للاعتراف بالخطأ، وحياد انفعاليّ تجاه النتائج المنشودة، والبناء على الأعمال السابقة، وتماسك المنطق الداخليّ. هذا هو العلم كما ينبغي له أن يكون، لكنّه ليس كذلك في واقعه؛ فمُمارسوه بشر وليسوا تروسًا بآلة دوّارة، ولكلٍّ تحيّزاته السابقة وسقفه الذهنيّ وحواسّه القاصرة؛ وعلى ذاك فإنّ العلم هو ما يحصل في النهاية، خلال سعي الإنسان إلى تلك الأصول والأمزجة، بدرجات متفاوتة من النجاح والفشل. وقد لا يكون الأمر نابعًا بالضرورة من انحيازات الإنسان ومحدوديّته؛ فالسؤال حول إمكانيّة المعرفة أساسًا، بلا تحيّزات كامنة وافتراضات عمّا وراء الطبيعة، لا يزال سؤالًا ملحًّا[13]، وقد لا يكون التحلّل من الفلسفة، الّذي بدا كأنّه أُنْجِز أثناء الثورة العلميّة، سوى نقل للعلاقة بها صوب عمق أكبر وتعقيد أشدّ.

لأجل هذا؛ فإنّ كثيرًا من محاولات القرن الماضي للإمساك بجوهر الممارسة العلميّة، سعى إلى أن يلتقط سمة متحرّكة فيه بدل الصورة الثابتة. هذه الظاهرة الأسمى في تعطّش الإنسان للحقيقة الطبيعيّة، والمدعوّة علمًا، لا تُدْرَك إلّا في حراكها وانزياحها، وليس بإمكان لوحة مؤطّرة أو تمثال رخاميّ أن يحتويها.

لعلّ العمل الفكريّ الأهمّ الّذي طبع القرن الماضي في مسألة العلم وطبيعته، كان كتاب توماس كُون الشهير عن الثورات العلميّة[14]؛ ليس هذا عملًا عن حركة العلم فحسب، بل عن أعنف لحظاته الحركيّة، وعمّا يجعلها ممكنة، وعمّا يسبقها ويلحقها[15]. وقبل هذا العمل، لم يجد كارل بوبر مدخلًا لتمييز العلوم عن أشباهها إلّا بسِمَةٍ حركيّة أيضًا: بتحديد آليّة تسمح بنقض النظريّة العلميّة مستقبلًا؛ فليس العلم علمًا بغير سبيل تجريبيّ للإطاحة به، ويجب أن تفضي قابليّة الانهدام هذه دومًا إلى نفسها، فكلّ نظريّة صعدت على أنقاض غيرها يجب أن تكون مُشْرَعَة لهدم تجريبيّ لاحق[16]. بمجازٍ دمويّ؛ فإنّ شرط علميّة العلم أن يكون قابلًا للموت، وشرط العافية العلميّة أن يسعى الجميع دومًا إلى قتله. هكذا، رفض بوبر أن يصنّف التحليل النفسيّ والماركسيّة علومًا؛ فقد بدت له نماذجَ تفسيريّة لا تطرح نبوءات يمكن دحضها بل تنتظر حوادث لتفسّرها، وليس من حادثة تفيض عن ذمّتها التحليليّة، فهي تفسّر الشيء ونقيضه وكلّ ما بينهما[17]. حتّى في النبوءات المحدّدة الّتي طرحها ماركس، فإنّ فشل تحقّقها لم يقد غالبًا إلى مراجعة النظريّة، بل إلى مراجعة الواقع وإعادة تفسيره على نحوٍ يسمح بإنقاذها. هكذا، يصبح حبل نجاة النظريّة مشنقتَها العلميّة، وبينما يعتقد أنصار النموذج أنّهم يدافعون عن صواب نظريّتهم، فإنّهم يحيلونها شبه علم ويحرمونها شرف الخطأ، وهو شرف خاصّ بالعلوم الأصيلة وحدها.

يبقى بوبر أكثر مَنْ انشغل بفصل العلوم عمّا سواها، وبرسْم دائرة تُعَرِّف حدودها. لكن تخوم الممارسة العلميّة كانت أعقد في النهاية من بساطة الدوائر، وأوسع من أيّ بركار، وانجلت مع الوقت أمثلة عديدة لعلوم أصيلة يفشل نموذج بوبر في احتوائها...

يبقى بوبر أكثر مَنْ انشغل بفصل العلوم عمّا سواها، وبرسْم دائرة تُعَرِّف حدودها. لكن تخوم الممارسة العلميّة كانت أعقد في النهاية من بساطة الدوائر، وأوسع من أيّ بركار، وانجلت مع الوقت أمثلة عديدة لعلوم أصيلة يفشل نموذج بوبر في احتوائها، وصار تعداد مثالب مقاربته فاتحة تقليديّة لكثير من أعمال فلسفة العلوم[18]. لكنّ مقتل بوبر لم يكن هنا، بل في أطروحة مركزيّة عُرِفَت بمسألة "دوهيم"[19]، وخلاصتها أنّ الشيطان – كما العادة دومًا - رابض في التفاصيل: ما من تجربة تهدم نظريّة؛ فهذه أجناس مختلفة. وحدها النظريّات ما يهدم بعضها بعضًا، وليس مِنْ مشاهدة تجريبيّة تكفي للإطاحة بنظريّة إذا لم تُلْحَق بها افتراضات، معلَنة كانت أو مضمَرة. وعندما ساق مؤيّد الدين العُرضي تجاربه ومشاهداته لإبطال دوران الأرض، كانت تجاربه مشبعة بفيزيائه الخاصّة وبفهم محدّد "ومغلوط" لمعنى الحركة وشروطها؛ وهكذا تنتهي تكذيبيّة بوبر لقفصٍ دائريّ؛ لأنّ كلّ تكذيب قابل للتكذيب، ويعود العلم وتعريفه آنذاك إلى المربّع الأوّل.

في خضمّ كلّ هذا، لمح فيلسوف العلوم الأمريكيّ، لاري لودان، مفارقة كامنة في المشهد، وأدار مسألة بوبر على نفسها، ليتّهمها بأنّها – هي ذاتها - صارت من "أشباه المسائل"، وأنّه لا طائل في تقصّيها[20]. عند لودان، فإنّ التمييز الوازن الوحيد يكمن في متانة العلوم وضعفها، وبدلًا من ثنائيّة "العلم - اللّاعلم"، ينفرد طيف الممارسة العلميّة على خطّ واحد، ولا يعود السؤال سؤال انتماء إنّما سؤال أداء؛ يذوي سؤال "أينتمي أو لا ينتمي؟" ليحلّ مكانه سؤال "بِكم ينتمي؟".

 

طريد القلعة العلميّة

إذا كان تعريف العلوم – في ذاته - أمرًا مراوغًا، فكيف الحال مع تعريف أشباه لها؟ في القرن الثاني للهجرة، كتب واصل بن عطاء أقدم كتاب نعرفه في الطبقات الإسلاميّة، ضاع الكتاب لكن عنوانه وصلنا: "طبقات أهل العلم وأهل الجهل". يشهد العنوان لسعي قديم لم يتوقّف، من أجل رسم حدّ بين هذين الفريقين، وإن لم يكن علمنا الحاضر هو العلم ذاته الّذي كتب عنه واصل. تغيّرت الأطراف المتوتّرة، وبقي التوتّر على حاله؛ فليس العلم وحده الّذي تغيّر في هذه المواجهة، بل تغيّر الجهل أيضًا. إنّ الخطر الأكبر، الّذي تستنفر في وجهه الممارسة العلميّة اليوم، لا يبدو آتيًا من نقيضها، إنّما من مثيلها. ثمّة أمر مخيف في منافس شبيه يفوق الخوف الّذي يستدعيه منافس نقيض، ورغم ذلك فليست "طبقات أهل الجهل" في عُرْف العلم المعاصر مقصورة على "أشباه العلوم"؛ فقد توسّعت التقسيمات، وصارت "اللاعلوم" و"العلوم الرديئة" و"العلوم الزائفة" تمايزات مستقلّة داخل عائلة واحدة[21].

لم تأت أشباه العلوم، تاريخيًّا، من خارج قلعة العلوم، بل طُرِدَت من داخلها؛ ولذلك، فهي اليوم صاحبة هويّة مركّبة: هي الابن الضالّ، لكنّها أيضًا ربّ الأسرة القديم. لقد تطوّرت الكيمياء من معامل الخيميائيّين وشغفهم بتحويل "الخسيس إلى نفيس"[22]، وتبلوَر علم الفلك من داخل حمى المنجّمين لدراسة الطالع وأقدار الأمم[23]، وأسهم العلاج الخلّبيّ بالمغانط في القرن الثامن عشر، في تكثيف البحث في الظاهرة المغناطيسيّة. من قلب هذه الأشباه، خرجت أصول نسمّيها اليوم علمًا.

إذا تحرّرنا من حمّى الازدراء، وجب الإقرار أوّلًا أنّ كثيرًا من أشباه العلوم - الشائعة في أيّامنا - ليس شكلًا مواربًا للخرافة. هي تحاول استيفاء هيئة علميّة ما، وتقتفي شيئًا من ممارسات العمل البحثي...

لم تولَد تسمية أشباه العلوم عربيًّا؛ ليس لنقص الظاهرة لدينا، بل للغفوة العلميّة المطوّلة الّتي عاشتها منطقتنا منذ أواسط الألفيّة الماضية. أوروبّيًّا، صعد مصطلح "Pseudoscience" بوصفه لقبًا للازدراء لا وصفًا بقصد الفهم[24]؛ هو سُبّة قبل أن يكون تسمية، فمعناه الحرفيّ "العلم الكاذب"؛ ولذلك هو ليس مفردة علميّة في ذاته، ويبدو مناقضًا لقيم المجال الّذي يدافع عنه. وهكذا تُرْجِم المصطلح لدينا "علومًا زائفة" و"علومًا كاذبة" و"أشباه علوم"، وكلّها وَفِيّ – بدرجات متفاوتة - لروح الازدراء في التسمية الأصليّة، لكنّنا إذا تحرّرنا من حمّى الازدراء، وجب الإقرار أوّلًا أنّ كثيرًا من أشباه العلوم - الشائعة في أيّامنا - ليس شكلًا مواربًا للخرافة. هي تحاول استيفاء هيئة علميّة ما، وتقتفي شيئًا من ممارسات العمل البحثي[25]، وإن بدت أقلّ من العلم بشوط، فهي أعلى من الخرافة بأشواط، وهي لا تستحضر آلهة ولا غيلانًا لتفسّر العالم من حولها، ولا تعطي الجمادات أرواحًا مشخّصة. ما نحن في صدده أقرب إلى علم مشوّه منه إلى خرافة محسّنة.

إنّ الإقرار بوجود أشباه العلوم لا ينفي التعسّف الشديد في إطلاق المسمّى، وفي سياقين تحديدًا: الأوّل في الإسقاط الرجعيّ للمصطلح على مجالات بحثيّة لم ينجلِ خطؤها إلّا لاحقًا. بهذا الحكم الراجع، يصبح تعبير "أشباه العلم" خارج التاريخ ويفقد ظرفيّته، ثمّ يعود التعسّف ليظهر في سياق ثانٍ، عندما يُطْلَق المصطلح على فرضيّات بعينها. ليس في فرضيّة، أيّ فرضيّة، ما يكفي من محتوًى لجعلها مادّة للتصنيف الفوريّ بين علم وشبه علم؛ إنّ ما يتلو الفرضيّة، من حركيّة استقصاء وفحص، هو ما يقبل التقييم، وليس لمقطع عرضيّ مسطّح من مجمل الممارسة العلميّة - وهو الفرضيّة هنا - أن يصنع أرضيّة كافية للحكم على علميّة من عدمها؛ ليس بسبب فقر الأدلّة، إنّما لأنّ الجريمة لمّا تحصل بعد، وليس من متّهم نختلف في إدانته وتبرئته.

..........

إحالات:

[1]  ابن عربيّ، الفتوحات المكية، ج1 (بيروت: دار الكتب العلمية، 2011)، ص 142.

[2]  عمل مهندسًا في دمشق، ثمّ طبيبًا للملك المنصور الأيّوبيّ في حمص قبل أن يعيّنه وزيرًا، حتّى وفاة الملك عام 1246م.

[3]  مؤيّد الدين العُرضي، كتاب الهيئة (تاريخ علم الفلك العربيّ)، تحقيق وتقديم جورج صليبا، ط2 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1995)، ص 42-44.

[4] Kary Mullis, 1944-2019.

[5] Polymerase Chain Reaction (PCR)

[6]  R. Schoch, Q&A: A Conversation with Kary Mullis (California Monthly, September 1994), vol. 105, no. 1, p. 20, in: J. Ellens, Seeking The Sacred with Psychoactive Substances: Chemical Paths to Spirituality and to God (Oxford: Praeger, 2014), p.9.

[7] Kary Mullis, Dancing Naked in the Mind Field (New York: Vintage Books, 2000), pp. 107-120.

[8] لمراجعة واسعة للمصطلح وتطوّره التاريخيّ في العربيّة، انظر: فرانز روزنتال، العلم في تجلٍّ، ترجمة يحيى القعقاع  وإخلاص القنانوة (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2019).

[9] Natural Philosophy (الفلسفة الطبيعيّة), Natural Science (العلم الطبيعيّ).

[10] David Wootton, The Invention of Science: A New History of the Scientific Revolution (UK: Penguin Random House, 2016), pp. 23-30.

[11] صدرت الأجزاء الثلاثة للعمل باللاتينيّة عام 1687 تحت عنوان: Philosophiae Naturalis Principia Mathematica.

[12] Edwin Burtt, The Methaphysical Foundations of Modern Physical Science (London: Kegan Paul, Trench, Trubner, 1924), pp. 61-63.

[13] يقول إدون بيرت إنّه "ما من مهرب من الميتافيزيقا [...] المهرب الوحيد من أن تكون ميتافيزيقيًّا أن تصمت تمامًا"، انظر: Edwin Burtt (1924), p. 224.

[14] توماس كون، بنية الثورات العلميّة، ترجمة حيدر حاجّ إسماعيل (بيروت: المنظّمة العربيّة للترجمة، 2007).

[15] يتناول توماس كُون بنية الممارسة العلميّة بين الثورات، ويرى مزايا العمل العلميّ حينذاك في حركيّة "حلّ الأحجيّات"، وقد كانت هذه إحدى نقاط الصدام المهمّة بينه وبين كارل بوبر.

[16] انظر: كارل بوبر، منطق الكشف العلميّ، ترجمة ماهر عبد القادر محمّد علي (بيروت: دار النهضة العربيّة، 1986).

[17] Karl Popper, Conjectures and Refutations (New York: Basic Books, 1962), pp. 34-45.

[18] Imre Lakatos, "History of Science and its Rational Reconstructions," In: Ian Hacking (ed.), Scientific Revolutions (London: Oxford University Press, 1981), pp. 113-115. Also: Sandra Harding (ed.), Can Theories be Refuted: Essays of the Duhem-Quine Thesis, (Dordrecht: Springer, 1976), pp. 1-64.

[19] Pierre Duhem, "Physical Theory and Experiment," and Willard Quine, Two Dogmas of Empiricism," In: Sandra Harding (ed.), Can Theories be Refuted: Essays of the Duhem-Quine Thesis (Dordrecht: Springer, 1976), pp. 1-64.

[20] Larry Laudan, "The Demise of the Demarcation Problem," In: Robert Cohen (ed.), Physics, Philosophy and Psychoanalysis: Essays in Honor of Adolf Grünbaum (Netherlands: Springer, vol. 76, 1983), pp. 111-127.

[21] نستخدم هذه المصطلحات بدلالتها الشائعة في النصّ الحاليّ، وليس بالمعنى الّذي نراه أولى بها.

[22] Lawrence Principe, "Alchemy Restored," Isis, vol. 102, no. 2 (2011), p. 306.

[23] Alexander Boxer, A Scheme of Heaven: Astrology and the Birth of Science (London: Profile Books, 2020).

[24] Michael Gordin, The Problem with Pseudoscience, EMBO Report, vol. 18, no. 9 (2017), pp. 1482-1485.

[25] David Hecht, Pseudoscience and the Pursuit of Truth, In: Allison Kaufman & James Kaufman (ed.), Pseudoscience: The Conspiracy Against Science (Massachusetts: MIT Press, 2017), pp. 3-6.

 

 

لقراءة الجزء الأوّل من عِلم بلا حوافّ: في إشكاليّة الفصل بين العلوم وأشباهها (2/1).

 

 

عوني بلال

 

 

كاتب مهتمّ بتاريخ العلوم وفلسفتها، العربيّة منها على وجه الخصوص. مختصّ بالكهروديناميكا التطبيقيّة من جامعة بيرمنغهام بالمملكة المتحدة، وله كتابات عدّة في مجموعة صحف ومواقع عربيّة حول مسائل ثقافيّة  مختلفة.

 

 

التعليقات