18/05/2021 - 16:36

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

عنوان المعركة: وعي جديد يفكّك وعيًا مريضًا

باب العامود

 

لم يتخيّل أحد يومًا أنّ جيلًا فلسطينيًّا صاعدًا يمكنه أن يكسر الحواجز المشيّدة، ما بين طوباويّة الأحلام وإكراهات الواقع، بكلّ هذا القدر من العنفوان والتصميم على الانتصار، وكأنّ الأمر أمر حياة أو موت؛ لتصبح إكراهات الواقع تعبيرًا فاضحًا عن وحش بلا مخالب. والمفارقة أن يحدث ذلك كلّه مع إحياء الفلسطينيّ لذكرى نكبته للمرّة الثالثة والسبعين، وما يعتبره الصهيونيّ ذكرى استقلاله وقيام كيانه عام 1948، ذلك على الرغم من فائض القوّة الّتي يتباهى بها الكيان الصهيونيّ الغاصب لأرضنا ومقدّراتنا، في مقابل فائض الأمل المقيم في المخيال الفلسطينيّ، وكأنّه العشرون مستحيلًا الّذي أشار إليه ذات تفاؤل الشاعر الراحل توفيق زيّاد.

وأمّا الوعي فهو شبقاء على قيد الحلم، ومعركتنا الأهمّ في سياق كلّ مدلول يمكنه أن يخطّ ملمحًا تقريبيًّا لحركة الضحيّة وهي تتحرّر من وصفها المقيّد.

بيد أنّ الأمر ليس مجرّد انعكاس لبطولة عرجاء لم تسر يومًا على قدمين: قدم الحقّ، وقدم الوعي، فأمّا الحقّ فهو مأوًى لتاريخ انخرط مبكّرًا في صراع على هويّة المكان، وأسئلته الشاخصة في بلاغة مجاز الخرافة وكتب التراجيديا؛ وأمّا الوعي فهو بقاء على قيد الحلم، ومعركتنا الأهمّ في سياق كلّ مدلول يمكنه أن يخطّ ملمحًا تقريبيًّا لحركة الضحيّة وهي تتحرّر من وصفها المقيّد.

 

حجر داود وحجر فارس عودة

هكذا يبحث الفلسطينيّ عن ضرورة إعادة اختراع المعنى، معنى إضافة ورقة أخرى لرزنامة الوقت، على نحوٍ يمكّنه من شقّ طريق الخروج الآمن من هوامش أزمنة وأحداث فرضت عليه جملة من المعادلات الظالمة، ليس فقط على صعيد الأولويّات وترتيبها وفق بلاغة الهزيمة وفلسفتها المشوّهة لكلّ حقّ، وإنّما أيضًا على صعيد الهويّة الفرديّة ومفاهيمها المصلوبة على مقصلة لعبة هندسة المصائر؛ فهل نجح؟ لا أدري تمامًا، ولكنّي على يقين بأنّ الأيّام القادمة حبلى بغير اقتراح واحد، لإجابات شافية لغير سؤال جارح.

في المقابل، تخبرنا كتب التاريخ بأنّ إفرازات فائض القوّة، لا تعبّر بالضرورة إلّا عن إفلاس مركّب، مرّة يستدعي كلّ قوى الجذب العكسيّ لكلّ معيار أخلاقيّ، شرطًا أساسيًّا لإثبات هويّة الفرد الوافد وعلاقته بالمكان، ومرّات يقفز في حركة بهلوانيّة لا تنتج إلّا جملة أسئلة في لحظة توتّر، ممتدّة منذ أُرْسِل إلى هذه الأرض للمرّة الأولى، وإلى يومنا هذا، أسئلة يصوغها ضمير الغائب: مَنْ أنا؟ وأين؟ وماذا أفعل هنا؟ الأمر الّذي يمكننا ملاحظته بوضوح كامل الدسم في إقرار قانون القوميّة العنصريّ الّذي أفرزه هذا الكيان الصهيونيّ الهشّ؛ لا لينظّم شكل الحياة، ولكن لأنّه ليس واثقًا تمامًا بعلاقته بالمكان.

ويبرز ذلك أيضًا داخل هذا الكيان الغاصب، منذ اعتقد متوهّمًا أنّه كلّما امتدّ في علاقة مجاورة تَجذّر في أرض غريبة، وكأنّنا في حضرة متواليات جائرة، عادة ما تتمرّد على سؤال الوجود، وتسقط في امتحان البطولة؛ فتصبح العلاقة ما بين السؤال والامتحان، علاقة تعاقديّة تتجاوز كلّ أبجديّات المطلق والمشروط في تعبيرات الدولة الفاشلة، خاصّة حينما يكون الصراع صراع لعنة، لا تُفاضل بين حيّ وميّت، ولكنّها تعقد كلّ مفاضلة ممكنة بين حجر وحجر، "حجر داود الّذي قتل به جالوت، مقابل حجر فارس عودة الّذي قتل به دبّابة الاحتلال"، وفق تعبير الروائيّ اللاجئ أحمد أبو سليم.

 

الوعي في دور البطولة

من هنا يمكننا أن نفهم تمامًا، لماذا يؤدّي الوعي دور البطولة في صراع من نوع خاصّ؛ صراع ما زالت أطرافه على جبهتَي المواجهة، ترى النكبة وهي تدور دورتها الكاملة منذ سبعة عقود ونيّف، دون نتائج حاسمة، وهو ما يمكننا معاينته حتّى في الأدبيّات اليهوديّة ما بعد قيام ما تسمّى بـ «الدولة»؛ فهذا اعتراف واضح بهذا المعنى من الكاتب الإسرائيليّ آري شبيط في كتابه «أرض ميعادي» وهو يقول: "أثبتت السنوات الأخيرة، وحتّى اليوم، أنّ الحواجز العالية والجدران القويّة تؤدّي دورها. لكن مع مرور الوقت فإنّ إستراتيجيّة الجزيرة المحاصرة سوف تستنفد نفسها، وذات يوم ستجد الصخرة المحصّنة القويّة نفسها، عرضة لأمواج غاضبة من تسونامي إقليميّ" (ص 470).

هكذا كان لوعي الهزيمة لدى العربيّ الفلسطينيّ دور مهمّ، في سياق محاولاته الدؤوبة لإعادة اختراع المعنى، معنى أن أكون غريبًا في وطني، أن تمارس ضدّي كلّ مظاهر التحريض والاضطهاد والعنصريّة والتهميش ومحاولات التهجير...

لم يتمثّل هذا التسونامي، سواء على صعيد الشكل أو المضمون، حتّى اللحظة، إلّا في هبّة أصحاب الأرض الأصلانيّين، وليس من الإقليم كما تنبّأ شبيط؛ لا لأنّ بعض أعضاء هذا الإقليم أُغْرِق وأُرْهِق في قضاياه الداخليّة فحسب، ولا لأنّ بعضه الآخر تخلّى عن قناعه الزائف وفقط، ولكن لأنّ الفلسطينيّ أدرك أنّه أضاع سنوات وسنوات وهو يبحث عن طريق انتصار، نُقِشَت ملامحه في كفّ اليد.

هكذا كان لوعي الهزيمة لدى العربيّ الفلسطينيّ دور مهمّ، في سياق محاولاته الدؤوبة لإعادة اختراع المعنى، معنى أن أكون غريبًا في وطني، أن تمارس ضدّي كلّ مظاهر التحريض والاضطهاد والعنصريّة والتهميش ومحاولات التهجير، سواء من الطبقة السياسيّة أو الاجتماعيّة المستعمِرة، وهو وعي بأنّ جميع محاولات الترويض في أراضي 48 المحتلّة، ما هي إلّا محاولة فاشلة لذرّ الرماد في العيون.

وهكذا يمكننا أن نفهم ما يدور اليوم من مواجهة عنيفة وغير مسبوقة، بوصفها شكلًا أكيدًا وواضحًا من أشكال معارك الوعي، وهو ما لا تُخْطِئه عين المراقب حينما ينتبه لحالة الوحدة الشعبيّة الّتي تحرّرت من فئويّتها الحزبيّة والمناطقيّة لصالح قضيّتها المركزيّة، وهو ذات المبرّر الّذي يتّكئ عليه هذا الحضور اللافت لفلسطينيّي أراضي 48 في إحدى جوانبه أو أسبابه؛ وهو ما يعني أنّ وحدة الشعور الجماهيريّ العامّ، تقول بشكل واضح لا لبس فيه، بأنّ المعركة اليوم، ليست معركة طرف دون آخر من أطراف الفسيفساء الفصائليّة أو المناطقيّة الفلسطينيّة.

وهنا تتلخّص أزمة الكيان الصهيونيّ الغاصب للجغرافيا والتاريخ معًا، خاصّة أنّه عمل لسنوات طويلة، وبحرص شديد، وبكلّ ما يملك من أدوات ذاتيّة وأخرى حليفة، على تثبيت فكرة الفصل في وعي الجماهير العربيّة بعامّة والفلسطينيّة بخاصّة، وقد نجحت إلى حدّ بعيد على كلا الجبهتين، فكانت ظاهرة محاولات فصل القضيّة الفلسطينيّة عن بُعْدِها العربيّ؛ وهذا ما أنتج موجة التطبيع الأخيرة تحت شعار «فلسطين ليست قضيّتي»، وكذا في ما يخصّ التيّارات السياسيّة الفلسطينيّة ومرجعيّاتها الفكريّة والعقائديّة؛ فكان الانقسام ودلالاته على الأرض على الجبهة الداخليّة الفلسطينيّة، وما بين النموذجين من مشكلات فئويّة وحزبيّة طغت على سطح غير محطّة من محطّات تاريخ الثورة الفلسطينيّة الحديثة.

 

المثقّف والمعركة

كلّ ذلك ينهار، ولا يزال، بشكل دراماتيكيّ في معركة الوعي الأخيرة، الّتي كان فيها للمثقّف الفلسطينيّ دور مهمّ وحيويّ على امتداد عقود طويلة، على الرغم من اتّهامه من قِبَل الجماهير بالتقصير طيلة هذه المدّة، وهو ما يفنّده محمول السرد الفلسطينيّ، الّذي عمل بشكل حثيث وتراكميّ على إعادة صياغة أربعة عناوين رئيسيّة وأساسيّة في المسألة الفلسطينيّة، وهي عنوان الذاكرة، سقوفها وتجلّياتها، فضلًا على خطاب الهويّة وتحوّلاته، وكذا المكان بين تاريخ الجغرافيا، وجغرافيا التاريخ، وصولًا إلى المحمول الثقافيّ والمعرفيّ ما بين ثقافة المجتمع ومجتمع الثقافة، على البُعدين الفرديّ والجماعيّ.

كلّ ذلك ينهار، ولا يزال، بشكل دراماتيكيّ في معركة الوعي الأخيرة، الّتي كان فيها للمثقّف الفلسطينيّ دور مهمّ وحيويّ على امتداد عقود طويلة، على الرغم من اتّهامه من قِبَل الجماهير بالتقصير طيلة هذه المدّة...

وقد تناولنا هذه العناوين الأربعة في كتاب «وعي الهزيمة – إعادة اختراع المعنى»؛ لا لنضيف كتابًا جديدًا للمكتبة الفلسطينيّة أو العربيّة، بعد مخاض طويل أدخلتنا فيه أوهام السلام فحسب، ولكن لينتبه الفلسطينيّ أوّلًا ومن ثَمّ العربيّ، لما رصدته نخب الثقافة الفلسطينيّة، على صعيد التحوّلات العميقة الّتي مرّت بها وعليها القضيّة الفلسطينيّة، وتبيان خيطها الأبيض من الأسود، وانعكاس ذلك الرصد والتفكيك والمراجعة على الوعي الفرديّ والجماعيّ لأبناء الشعب الفلسطينيّ، في كلّ مركز من مراكز تجمّعاته داخل الوطن وخارجه، نحو عمل ثوريّ جماهيريّ وحدويّ يملك المؤهّلات اللازمة لإنجاز تحرير الجغرافيا والتاريخ بوعي جديد، طازج وحيّ، يمكنه تفكيك كلّ وعي مستلب ومريض.

 

 

أحمد زكارنة

 

 

كاتب وإعلاميّ فلسطينيّ، يعمل مذيعًا في «الهيئة العامّة للإذاعة والتلفزيون الفلسطينيّة»، صدرت له مجموعة شعريّة بعنوان «ما لم أكنه» بالإضافة إلى كتاب «وعي الهزيمة». كتب العديد من المقالات في الشأنين الأدبيّ والسياسيّ في عدد من الصحف العربيّة، وواظب على كتابة عمود سياسيّ في صحيفة «الحياة الجديدة».

 

 

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

نروي الهبّة: من الشيخ جرّاح إلى غزّة | ملفّ

12/08/2021
«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

«إِنْ أَنْ قَدْ آنَ أَوانُه»... فنّ يفضح

04/06/2021
محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

محمّد الكرد... شاعر من القدس يكتب عن رِفْقَة | حوار

28/06/2021
جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

جدليّة شَبابْنا مْلاح وْبَناتْ بِتْأَرْجِلْ

04/08/2021
في مديح الْجَدْعَنَة

في مديح الْجَدْعَنَة

03/07/2021
«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

«جمل المحامل»... يعود شابًّا وملثّمًا في غزّة

27/05/2021
خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

خوارزميّات الموت والاضطهاد: الحزن، التفاعل التشاركيّ، البعثرة الخورازميّة في السوشال ميديا

16/05/2021
في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

في الجَناح يا عمّي: معجم المواجهة والاشتباك

14/06/2021
هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

هبّة من أجل القدس: ثقافة الرفض وأفعال المقاومة

30/05/2021
ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

ابن العنف: سارتر والاستعمار وفلسطين

07/06/2021
مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

مستشفيات إسرائيل... احتفاء واهم بالتعايش

04/07/2021
مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

مغترب أمام حدث وطنيّ اسمه «الهبّة»

24/06/2021
 قواعد الاشتباك الأربعون

 قواعد الاشتباك الأربعون

25/05/2021
"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

"هبّة القدس"... ثوريّة البذاءة

26/07/2021
نروي الحكاية، نستعيد الجبل

نروي الحكاية، نستعيد الجبل

27/06/2021
مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

مستحيلات المكان وأعجوبة السمكة

02/06/2021
هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

هستيريا جماعيّة: انفجار نظريّة العرق في وجه أصحابها

14/05/2021
الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

الهبّة... عودة الفنّان إلى شارعه

30/06/2021
معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

معركة «سيف القدس»: صحف أوروبّا وأمريكا تنحاز لسرديّة إسرائيل

19/05/2021
للحارات شباب يحميها | شهادة

للحارات شباب يحميها | شهادة

27/05/2021
"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

"أسبوع الاقتصاد الوطنيّ"... تنظيم الذات الفلسطينيّة

25/06/2021
حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

حيفا إلنا: ما بين الحارة، والمحطّة، والمحكمة | شهادة

25/05/2021
مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

مظاهرة هارتفورد: الهتافات، والشرطة، واللغات

21/05/2021
لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

لنضع ذكرياتنا في الحقيبة... جاءت الحرب | شهادة

29/05/2021
التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

التضامن مع سلوان... وجهة نظر معلّمة

26/07/2021
الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

الصراع في ضوء الهبّة: الرواية والزمن والتدويل

01/06/2021
الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

الجسد حين يقاوم: تأمّلات في سياسات الموت والحياة

18/05/2021
الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

الاحتلال متقدّم في قياس حالة الطقس!

19/06/2021
الصور الّتي لن تفارقنا

الصور الّتي لن تفارقنا

21/05/2021
لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

لأنّ حياة الفلسطينيّين أيضًا مهمّة

05/07/2021
واجبنا أن نغضب | ترجمة

واجبنا أن نغضب | ترجمة

22/05/2021
جغرافيا من مسنّنات

جغرافيا من مسنّنات

13/08/2021
مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

مراكز غزّة الثقافيّة ومكتباتها... هدفٌ دائم لإسرائيل

21/06/2021
«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

«أجمل ما فينا»... قيم الهبّة ومعانيها

21/06/2021

التعليقات