14/11/2021 - 15:14

نفقٌ في الفوضى: قصص مقاومين سمعتها في السجن

نفقٌ في الفوضى: قصص مقاومين سمعتها في السجن

Vicnt | Getty Images

 

قصص موازية

استحوذ مسلسل «فوضى» على اهتمام فلسطينيّ واسع للغاية العام الماضي، وقد توصّلت إلى أنّ ما سعى المسلسل الإسرائيليّ إلى عرضه، كنت قد سمعت قصصه الموازية خلال لقاءاتي المكثّفة والموسّعة مع أسرى سياسيّين في سجون الاحتلال. لم يكن المسلسل وثائقيًّا، بل مسعًى إلى الدمج بين أحداث قد وقعت وبين خيال المخرج، أو ما سمعه في تحقيقاته الّتي أجراها مع «الشاباك» والجيش؛ كي يبني السيناريو.

التقيت خلال سنوات سجني أسرى من «انتفاضة القدس والأقصى» (الانتفاضة الثانية)، ومعظمهم من «كتائب شهداء الأقصى» (فتح)، و«كتائب القسّام» (حماس)، و«كتائب أبو علي مصطفى» (الشعبيّة)، و«كتائب القدس» (الجهاد الإسلاميّ)، بينما الغالبيّة من بينهم تعود إلى الفصيل الأوّل («شهداء الأقصى»)، وقد سمعت منهم قصصًا فاقت كلّ خيال إخراجيّ وسينمائيّ.

قصّة حين تسمعها تفصيليًّا - وما أكثر التفاصيل! - تشعر في ما بعد بأنّ «فوضى» لم يكن سيّد الخيال، بل لا يمكن أيّ مخرج أن يتقمّص شخصيّة المقاومين ونفسيّتهم...

من تلك القصص ما شمل سَرْد أدقّ التفاصيل عن عمليّة تصفية الوزير الإسرائيليّ رحبعام زئيفي؛ أنت ترى مشهدًا يحدث من مرحلة الفكرة ثمّ التحضيرات، ما قبل المخطّط التنفيذيّ ذاته حتّى عمليّة الخروج من الفندق الّذي شكّل مسرح الأحداث، وتعطُّل السيّارة المُقِلَّة، وحتّى الاختفاء تحت أعين الوحدات الخاصّة بأجهزتها وأعدادها الغفيرة، وحتّى في كيفيّة حبس النفس وكلاب الاحتلال تنبح في وجهك من مسافة الصفر، وتحافظ على هدوئك وأنت محاصَر بين الكلب العسكريّ المدرَّب وبين زاوية حائط السدّة في بيت لا تعرف أصحابه ولا يعرفونك، وحتّى الوصول إلى برّ الأمان المؤقّت، والشعور بأنّ رجليك لا تطآن الأرض، بل تحلّقان في السماء، بعد أن تجاوزت كلّ الحواجز في سيّارة عموميّة، ولاحقًا الاعتقال. قصّة حين تسمعها تفصيليًّا - وما أكثر التفاصيل! - تشعر في ما بعد بأنّ «فوضى» لم يكن سيّد الخيال، بل لا يمكن أيّ مخرج أن يتقمّص شخصيّة المقاومين ونفسيّتهم؛ ضحايا احتلال دولته، وربّما يكون المخرج، وجزء من الممثّلين والممثّلات، جنودًا وضبّاطًا سابقين.

 

مخابئ الأمّهات

في قصص أخرى، وتحديدًا «كتائب شهداء الأقصى» في منطقة نابلس وطولكرم وجنين، كنت أرى بأمّ عيني ما تسمعه أذني وأنا أصغي كالولد المستمتع بحكايات أمّه أو جدّته، وكنت أذكر في تلك اللحظات «لعبة المغزل» للكاتب الإرتيريّ حجي جابر، وتلك الصرخة من موظّفة شعبة الأرشفة: "لا تنسوا قصص الجدّات"، و"حافظوا على قصص الجدّات". كانوا بالعشرات في «سجن الجلبوّع»، ومعظمهم محكومون بالسجن المؤبّد مدى الحياة، والمكرّر مرّات عديدة.

إنّهم عشرات الآن، إلّا أنّهم كانوا بالمئات يقاومون الاحتلال في الانتفاضة الثانية والاجتياح والمطاردات، الّتي تصل لأشهر طويلة واحيانًا لسنوات. كلّ واحد منهم حمل روحه على راحته، وليس في ذلك استعارة من الشاعر المناضل عبد الرحيم محمود فحسب، بل من أرض الواقع وتطبيقًا حقيقيًّا للمقولة. كلّ مَنْ بلغ بهم الأمر إلى سجن الاحتلال، هم الّذين لم يستشهدوا في ساحات الوطن والشوارع والأزقّة والقصبة والمخيّم. لم تكن ملاجئ يذودون بها عن النفس عند الضائقة، سوى مخابئ الأمّهات. الأمّهات اللاتي تبنّت كلّ واحدة منهنّ جميع المقاتلين، واعتبرت كلًّا منهم ابنًا لها. لم يُكْتَب عنهنّ الكفاية، ليس فقط لأنّ هذا حال المرأة في قصص الشعوب، بل لأنّ قصصهنّ أسيرة في سجون الاحتلال، تنتظر تحرّر أصحابها كي يرووها. ثمّة مَنْ لم يَعُد مشغولًا بهذه القصص إلّا إذا امتلكت الجرأة وسألته أن يفتح ذاكرته.

 

فَتْح الذاكرة

فتح الذاكرة لدى الأسير مسألة صعبة وأليمة، والسؤال ليس مجرّد سؤال عابر بل يتطلّب منه أن يستعيد لحظات تخلّ بتوازنه الوجدانيّ، وهو يقارن وضعه في السجن بتلك اللحظات غير العابرة، الّتي حمل فيها وعلى كتفيه حلم تحرير الوطن والشعب. وبالأحرى، لم يكن حلمًا بل مشروعًا يحقّقه.

كانت عمليّة الإيقاع بضابط جهاز الأمن العامّ «الشاباك»، واستخدام عملائه لإطلاق النار عليه من بُعْد صفر، وذلك لتطهير أسمائهم، ذروة في الإحكام، وقد وصفها الأسير المقدسيّ، ابن السواحرة الشرقيّة حسام شاهين، في كتابه «زوبعة الفنجان»...

 

في السجن يكون فتح الذاكرة أحيانًا بمنزلة فتح الجرح المفتوح، فيبدأ بالحديث عن رفيقه الّذي استشهد، وعن والدة رفيقه الّتي اهتمّت بالذخيرة، وبتوفير الحماية، وزاد يكفي لزمن من المطاردة إلى حين المطاردة الّتي تليها. كما تزوّده بأهمّ ما ينتظره منها، ألا وهو البركة.

كانت عمليّة الإيقاع بضابط جهاز الأمن العامّ «الشاباك»، واستخدام عملائه لإطلاق النار عليه من بُعْد صفر، وذلك لتطهير أسمائهم، ذروة في الإحكام، وقد وصفها الأسير المقدسيّ، ابن السواحرة الشرقيّة حسام شاهين، في كتابه «زوبعة الفنجان»، بشكل دقيق، وبما أمكن من كشف للتفاصيل، بينما تجد إلى جانبك الأسير الّذي كان القائد والعقل المدبّر لهذه العمليّة، والّذي يقضي حكمًا بالمؤبّدات وبالإهمال الطبّيّ الانتقاميّ، رغم حرج حالته الصحّيّة ومشاكل القلب الّتي تشكّل خطرًا على حياته.

 

تلاطم الموج

هكذا أيضًا مع أسرى «كتائب القسّام» و«كتائب القدس»، والّذين حسب قصصهم ترسم خريطة تربط خيوطها ما بين الجغرافيا والعمليّات والأشخاص؛ فما كنت أسمعه قبل السجن، وأتابعه في الأخبار، بات سماعه من مصدر أوّل، لكنّه منقوص بمفهوم أنّ أغلب أصحاب القصّة قد سقطوا شهداء.

عدد كبير ممّن بقوا وُجِّهَت إليهم تهم التخطيط وإرسال استشهاديّين، بينما الحكم معروف مسبقًا؛ فثمّة تسعيرة إسرائيليّة للأحكام، أقلّها المؤبّد «العاديّ»، بينما لا فرق حقيقيًّا ينتجه عدد المؤبّدات. التفاصيل هنا هي القصّة، وهي قصّة أخرى من مسلسل قصص المستحيلات الفلسطينيّة؛ فكيف ترسل صديقًا لك إلى عمليّة بحزام ناسف، وهو يدرك أنّ الوداع وداع؟ وكيف يودّع أمّه دون أن تعرف شيئًا، وكذلك أبوه وإخوته وأخواته؟ لكنّ لغة الجسد والحدس والأمومة كانت تجعل الأمّ تشعر برهبة اللحظة، حتّى لو لم يفصح بما عنده، ولم تفصح بما تشعر به. كانت المشاعر صاخبة حين يحدّثك الأسير عن عمليّة خطّط لها وراح ضحيّتها شخص تعرفه أو قريب أو جار، فتصطدم روحك بروحك لترتدّ على شوارع حيفا وأحيائها، وتحضر لحظة التمعّن المأساويّة المتلاطمة بالمأساة، كما التلاطم العبثيّ للموج بالموج. وربّما لا يكون عبثيًّا، فهذا التلاطم يمنع الموج من أن يتصرّف كأنّه إعصار يحتلّ الأرض أكثر ممّا هي محتلّة؛ ففي السجن تلتقي القصّة الإنسانيّة وقصّة القساوة والقهر والعبث، وجميعها من صفات الإنسان الّتي تعصف به في مساحات روحه؛ فيحلّ الصمت بثقله، لكنّه لا يدوم؛ إذ لا مجال للصمت لزمن طويل، فأحاديث الزنزانة لها وتيرتها وطقوسها وقوانينها، حتّى للصمت قوانينه وطقوسه، ولا مجال إلّا أن تواصل حياتك الاعتقاليّة بكلّ تفاصيل قصصها.

 

فوضى محرِّرَة

ينتمي محمود العارضة إلى «الجهاد الإسلاميّ»، ويمتلك حنكة الّذي يحدّد الهدف بدقّة، وصاحب الجَلَد والتنفيذ دون إبداء أيّ تردّد، ودون الحديث عمّا يجول في خاطره، لكن إصراره على الحرّيّة لا يعرف الحدود، ويبثّ الثقة في نفوس زملائه، إنّه المقاتل الصلب والمتواضع والمحنّك معًا. لم تكن المسافة طويلة عنده بين ما يجول في خاطره وبين التنفيذ؛ فالحرّيّة عنده هي السير في الشعاب الّتي تؤدّي إليها، وهي شقّ الطرقات كي يصل مبتغاه، وإن احتاج إلى حفر الطرقات تحت الأرض كي يسمو فيفعل.

بات النفق الّذي عشناه قبل أسابيع هو الحقيقة الأكثر سطوعًا، تضفي على المرحلة والشعب والوطن معنًى يؤكّد أنّ على هذه الأرض وتحتها ما يستحقّ الحياة. لا بدّ من أن تُعْرَف تفاصيل القصّة، ومن لسانه هو وزملائه الخمسة، وليس من الإعلام الإسرائيليّ الاحتلاليّ، الّذي لا تتجاوز روايته حدود روح الاستعلاء، الّتي تغدر بأصحابها وتجعلهم أسرى إخفاقهم؛ ليس بسبب الحفرة، بل لأنّ الحفرة هي هندسة فلسطينيّة، ومن ذهن مَنْ يُحْكِمون قبضتهم عليهم، ويفرضون سيادتهم المستعمِرة على روحهم، هكذا يظنّون، أو هكذا كانوا يظنّون حتّى وقعوا في الحفرة.

عصف نفق الحرّيّة بثلاث حالات، أهمّها حالة الغطرسة وسطوة منظومة السيطرة الإسرائيليّة، وفي المقابل عصف بِتردّي الحالة الفلسطينيّة المهيمنة الّتي لا تنتج أملًا، فجاءها الأمل من تحت الأرض الأسيرة، وعصف بـ «فوضى»...

في مسلسل «فوضى»، لم يتجاوز الخيال الإسرائيليّ حدود استعلائه، بل التزم بها، وأظهر نفسه بأنّه القادر القدير على كلّ شيء، وبأنّ الفلسطينيّ خاضع له، مهما حاول خلاف ذلك، ومهما كان ذهنه بارعًا.

لقد عصف نفق الحرّيّة بثلاث حالات، أهمّها حالة الغطرسة وسطوة منظومة السيطرة الإسرائيليّة، وفي المقابل عصف بِتردّي الحالة الفلسطينيّة المهيمنة الّتي لا تنتج أملًا، فجاءها الأمل من تحت الأرض الأسيرة، وعصف بـ «فوضى»، الّذي مثّل لحظة التجلّي والتفوّق الإسرائيليّ الّذي يَقهر ولا يُقهر؛ ليقلب النفق الفلسطينيّ الحرّ خيال المستعمِر، ويعيث في طيّاته فوضى محرِّرة.

 


 

 

تسمية

 

 

أسير سياسيّ فلسطينيّ محرّر. عمل قبل اعتقاله مديرًا لـ "اتّجاه - اتّحاد الجمعيّات الأهليّة"، كما شغل منصب رئيس لجنة الحرّيّات المنبثقة عن لجنة المتابعة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

التعليقات