10/01/2022 - 23:56

عمران ضدّ العربيّة

عمران ضدّ العربيّة

مجمّع تجاريّ في القاهرة

 

 أوجدت النيوليبراليّة عمرانًا لا ينتمي إلى طابع هويّاتيّ أو تاريخيّ محدّد، بل ينتمي إلى هدفها الأوّل، وهو الربح، حيث يمثّل ركنًا أساسيًّا تستند إليه النيوليبراليّة وأدواتها، نظرًا إلى الأرقام الربحيّة الضخمة الّتي تحقّقها من خلاله.

وفق المعماريّ العراقيّ رفعت الجادرجي، فإنّ العمران فقد دوره الاجتماعيّ القائم على مراعاة التجانس بين المكوّنات المختلفة في المجتمع الواحد من حيث أدوات الثقافة والمعرفة والانتماء[1].

نرغب في هذه المقالة تسليط الضوء على أثر العمران النيوليبراليّ في تشكيل ممارساتنا اللسانيّة، بما يشمل من لغة ولهجة، متّخذين من الحالة المصريّة نموذجًا.

 

لسان العمران

العمران النيوليبراليّ المشيَّد في مصر، خاصّة في القاهرة والمدن الجديدة، فرض نمطًا لسانيًّا ينتمي إلى هويّة تبتعد عن الأصالة المصريّة؛ فقد شُيِّدَ برمزيّة انتمائيّة تستبعد اللغة العربيّة وتحتضن لغات أخرى كالفرنسيّة والإنجليزيّة، بل حتّى إن احتضنت العربيّة، فيجب على اللسان أن ينطق لهجةً مدينيّة، ويستبعد تمامًا أيّ لهجة تُنْقِص من هذه المدينيّته، فلا تُبَيِّن ريفيّته أو فلاحيّته أو صعيديّته.

العمران النيوليبراليّ المشيَّد في مصر، خاصّة في القاهرة والمدن الجديدة، فرض نمطًا لسانيًّا ينتمي إلى هويّة غير ذات أصالة مصريّة...

الممارسات المتبادلة بين الإنسان المصريّ بتنوّع أصوله وثقافاته، والعمران المتمثّل في الفنادق والشركات والقرى السياحيّة والمجمّعات التجاريّة الفخمة والحديثة، تتجلّى في منهجيّة اللسان الناطق (lingual methodology)؛ فالعاملون في تلك الأماكن يتحدّثون الإنجليزيّة، فضلًا على استخدامهم أنظمة تشغيل وتسجيل باللغة الإنجليزيّة أو الفرنسيّة، في إقصاء تامّ للعربيّة؛ فلو تحدّث أحد الزائرين إلى فندق فخم بالمفهوم العمرانيّ للنيوليبراليّة، وأراد بدء الحجز أو المغادرة، وجب عليه التعامل لسانيًّا بالرمز الثقافيّ الّذي فرضه الحيّز العمرانيّ[2]، وهو الإنجليزيّة، أو العربيّة المدينيّة، لا الريفيّة أو البدويّة أو الصعيديّة، والمدينيّة هنا هي الّتي يقتحمها من حين إلى آخر اللفظ الإنجليزيّ.

تُعَدّ درجة تمكّن اللسان من النطق بالرمز الثقافيّ الّذي فرضه العمران، ممثّلى للأمان الداخليّ لدى الإنسان، الّذي بدوره، يُشْعِرُه بالتواصل الإنسانيّ الجيّد، كما استحقاق الوجود في ذلك الحيّز العمرانيّ، المصمَّم حصرًا للفخامة والتعالي فوق ما يُعَدّ دونًا أو رجعيًّأ من حيث اللغة واللسان.

قياسًا على فضاءات أخرى، في المطاعم والمجمّعات المنتمية إلى مرجعيّات أجنبيّة، الّتي تقدّم محتوى طعامها وشرابها باللغة الإنجليزيّة والفرنسيّة، ثمّة ما يستدعي عند الكثيرين ارتجاجًا ثقافيًّا وتوتّرًا نفسيًّا؛ لأنّه، وإن توفّرت الأموال للاستهلاك في هذه الفضاءات، فإنّه يجب أيضًا اللجوء إلى ثقافة لسانيّة للتعامل مع شروطها، فلو كان الإنسان متحدّثًا بارعًا بالعربيّة الفصيحة، إلّا أنّ معرفته بالإنجليزيّة بسيطة، فأراد الوجود في فضاء ما من هذه الفضاءات، وتبيّن ارتباكه وعدم معرفته بالرمز اللسانيّ المهيمن، أي الإنجليزيّة، سيُنْظَر إليه أقلّ استحقاقًا للوجود في هذا الفضاء، بل قد يُدْمَغ بالجهل وعدم الرقيّ.

 

عقدة الخواجة

هذه الإشكاليّة تقابل الكثير من المصريّين، خاصّة المهمّشين منهم والمنتمين إلى طبقات فقيرة، والقادمين من الأقاليم والعشوائيّات؛ للتسبّب بشعورهم بأنّهم أقلّ، وسعيهم نحو التصنّع لإخفاء ما يظنّونه نقصًا رمزيًّا لديهم؛ نقص لغويّ أو لهجويّ، في هذا الفضاء أو ذاك. وهذا ما يصعّب الأمر على الكثير من الفئات الفقيرة، الّتي تقصد هذه الفضاءات العمرانيّة بهدف التسوّق، طامحين إلى نيل الاعتراف والاندماج وسط التجمّعات ‘الراقية‘[3]. لكن، يعرقل وجودهم، فضلًا على هيئاتهم، ألسنتهم الناطقة الّتي توضّح أنّهم لا ينتمون إلى أولئك الّذين صُنِعَ العمران حصرًا لجذبهم، من فئات اجتماعيّة وطبقيّة متمكّنة اقتصاديًّا.

مؤخّرًا، تجلّى هذا دراميًّا في أحد مشاهد مسلسل «خلّي بالك من زيزي»، المعروض في شهر رمضان من عام 2021، عندما عرفت التلميذات أنّ من بينهنّ تلميذة اسمها «عطيّات»، وكان دلعها «تيتو»، لتبدأ رحلة التنمّر على الفتاة بسبب اسمها، بل تعايرها إحدى الفتيات أنّهنّ؛ أي التلميذات، عرفن اسمها الحقيقيّ «عطيّات» وأنّها فلّاحة، في دلالة واضحة على الرمز الثقافيّ الراسخ، والمتعارف عليه شعبيًّا بـ «عقدة الخواجة»[4]، في أذهان تلاميذ المدارس الخاصّة والأجنبيّة، أنّ الأسماء العربيّة، خاصّة القديمة منها، تدلّ على انعدام الرقيّ، والفلّاحيّة البدائيّة، بما أنّها تنتمي إلى الريف والأرض، ولا تنتمي إلى معمار ‘الكومباوند‘ و‘المول‘.

الأسماء العربيّة، خاصّة القديمة منها، تدلّ على انعدام الرقيّ، والفلّاحيّة البدائيّة، بما أنّها تنتمي إلى الريف والأرض، ولا تنتمي إلى معمار ‘الكومباوند‘ و‘المول‘.

حادث آخر، في شباط (فبراير) من عام 2021، تضمّن نظرة دونيّة لمَنْ لا ينتمي إلى المدنيّة، عندما تهكّم المذيع المصريّ تامر أمين على أبناء الصعيد والقرى، متّهمًا إيّاهم بأنّهم ينجبون أولادهم ليس بهدف تعليمهم وتربيتهم بشكل لائق، بل من أجل أن يهاجروا إلى المدن؛ كي يعملوا ويكسبوا أموالًا ويصرفوها على آبائهم، وهو ما أدّى وقتها إلى استياء كبير ممّا قاله المذيع، واتّخذ المجلس الأعلى للإعلام قرارًا بوقفه، ومع هذا الضغط، خرج أمين معتذرًا، مبرّرًا أنّه لم يقصد الإهانة لأهالي الصعيد والريف المصريّ[5].

 

مدارس أجنبيّة

ومع ولع فئات كثيرة بالانتماء إلى العمران النيوليبراليّ، بما يتضمّنه من فنادق ومجمّعات تجاريّة وسكنيّة تحيطها الأسوار، وقرى فندقيّة على سواحل المدن، تشكّلت ثقافة لسانيّة تجعلهم قابلين إلى الانتماء لهذا العمران، وقد انسحبت هذه الثقافة على فضاءات اجتماعيّة أخرى، كما يرصدها أستاذ الاجتماع الفرنسيّ يان سبورك[6]، ويُعَدّ الاجتماع الأسريّ أهمّها، حيث لم تحظَ معظم الأجيال المتقدّمة سنًّا؛ أي الوالد والوالدة، على ثقافة لسانيّة رمزيّة تصنّف بأنّها عليا، ما وجب عليها تعويضها في الأبناء، من خلال تنشئتهم على لسان أجنبيّ، يتنصّل من العربيّة؛ لأنّها دونيّة، أو على الأقلّ ليست أفضل من الأجنبيّة، الإنجليزيّة والفرنسيّة تحديدًا.

ومن هنا، قد نفهم تضاعف عدد المدارس الدوليّة في مصر بين عامَي 2011 و2020، من 168 إلى 785 مدرسة[7]. ما يعني الإقبال والتصميم على إلحاق الأبناء الصغار وتنشئتهم في المدارس الأجنبيّة أو ذات اللغات التجريبيّة، الّتي تُدَرّس موادّها بلغات أجنبيّة، أو على الأقلّ تعطي حيّزًا وقدرًا مهمًّا من اللغات الأجنبيّة عن العربيّة، فتتشكّل العادات اللسانيّة اليوميّة، مثل التحيّة، وكلمات الثناء والعقاب باللغات الأجنبيّة، انتهاءً إلى مجمل المنظومة التفكيريّة والتعبيريّة.

وما أودّ قوله، لا يُفْهَم في سياق التمسّك بمعرفة اللغة العربيّة دون غيرها؛ إذ تعلُّم اللغات شيء بالغ الأهمّيّة، ومتعدّد من حيث زوايا الإفادة، بل يساهم في سعة الفهم والإدراك للأشياء والثقافات من حولنا، ونموّ ذواتنا؛ ما يساعدنا على التعامل بشكل أكثر مرونة وسعة مع أنفسنا ومع الآخر. لكن، ما يحدث وما وصفناه، هو تمايز عن اللغة العربيّة؛ ما يترتّب عليه دونيّة بحقّها أو حقّ ناطقها، بل هو تمايز أعمى للحضارة الغربيّة في كلّ شيء، دون إمعان حقيقيّ في هيمنتها الإمبرياليّة، الّتي قتلت واستعبدت ونهبت الكثير، في دول وشعوب أخرى، ولا سيّما المنطقة العربيّة والإفريقيّة.

ومن المؤكّد أنّ التعليم الحكوميّ/ العربيّ، ليس تعليمًا يوتوبيًّا للغة العربيّة وأدواتها، بل تتضمّنه إشكاليّات كثيرة من حيث وسائل التربية والمنهج التعليميّ، المدجّن بالقهر منذ نشأته أيّام محمّد علي إلى وقتنا الحاليّ[8]، وهذا ما حثّ الكثيرين من الطبقات الوسطى على الهروب منه، والتضحية بما لديهم من أموال ودفعها في التعليم الخاصّ/ الأجنبيّ بدلًا من الحكوميّ غير المرجوّ.

 

هندسة القيم

فضاءات كثيرة غير العمران الحديث والفخم، والاجتماع الأسريّ، والمدرسة، استسلمت لاحتلال الرمز اللسانيّ الأجنبيّ وطغيانه على اللسان العربيّ، تجدها في وسائل المواصلات؛ جلسات التعارف الجديدة، مقابلات العمل، مواقع التواصل الاجتماعيّ، هي أيضًا فضاءات للتمايز اللسانيّ، ومَنْ يتمسّك بعربيّته ويتحدّث بها علنًا – ولا سيّما إن كانت فصيحة - يتعجّب الناس من أمره، إمّا أن يظنّوه أنّه أجنبيّ/ آسيويّ يدرس بالجامعات المصريّة، خاصّة «جامعة الأزهر»، وإمّا أنّه ينتمي إلى عالم آخر، عالم يثير الضحك والسخرية من أنّ زمن قريش قد انتهى؛ استحضارًا ذهنيًّا للأعمال السينمائيّة الّتي جسّدت حياة الرسول وبيئته، أو شيء آخر قد يجلب المتاعب والاشتباه، أنّ المتحدّث ينتمي إلى الجماعات الإسلاميّة الّتي تحرّم كلّ شيء، وتعيش منعزلة بلغتها وسط المجتمع المصريّ العصريّ، كما في مخيال الكثيرين المشبّع بالتأثير الفنّيّ المصريّ في تجسيد هؤلاء.

يؤكّد الأكاديميّ الفلسطينيّ الأصل وائل حلّاق بشأن خصوصيّة الذات الثقافيّة، أنّه يجب على الأمّة، كلّ أمّة، ولا سيّما العربيّة والإسلاميّة، أن تعيد هندسة مفاهيمها الأخلاقيّة الّتي تناسبها...

وعن ذلك يقول – ضمنًا - الباحث المغربيّ إدريس مقبول في أطروحته عن تشابكات الإنسان والعمران واللسان[9]، "يتبع العمران بناء ثقافة، وتتبع الثقافة بناء عمران"، وهكذا تُبْنى الأخلاق/ القيم أو تُهَنْدَس من جديد إن كانت نشأتها تائهة متأثّرة بالثقافة الطاغية، أو ثقافة الغالب، حدّ تعبير مؤسّس علم العمران (الاجتماع) ابن خلدون[10]. كذلك، في أطروحته النقديّة للدولة الحديثة[11]، يؤكّد الأكاديميّ الفلسطينيّ الأصل وائل حلّاق بشأن خصوصيّة الذات الثقافيّة، أنّه يجب على الأمّة، كلّ أمّة، ولا سيّما العربيّة والإسلاميّة، أن تعيد هندسة مفاهيمها الأخلاقيّة الّتي تناسبها، لا أن تقتبس الأخلاق الغربيّة الّتي صُوِّرَتْ على أنّها الأحقّ في الممارسة والتقليد، وما دونها يستحقّ أن يُمْحى أو يُسْتَبْدَل؛ لأنّه أصبح محلّ عار ودنوّ على أجساد مريديه وألسنتهم.

 


إحالات

[1] رفعت الجادرجي، في سببيّة وجدليّة العمارة، ط1 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة 2006) ص 169.

[2] مارتن هيدغر، أصل العمل الفنّيّ، ترجمة أبو العيد دودو، ط1 (بيروت: منشورات الجمل 2003) ص 103.

[3] للمزيد حول المرئيّ واللامرئيّ، انظر، أكسل هونيث، الصراع من أجل الاعتراف: القواعد الأخلاقيّة للمآزم الاجتماعيّة، ترجمة جورج كتورة، ط1 (بيروت: المكتبة الشرقيّة، 2015).

[4] «عقدة الخواجة» تعبير شعبيّ يعبّر عن حالة وعي عامّة لشعوب المنطقة العربيّة، تعبّر هذه الحالة في نفوس أصحابها عن حبّهم لكلّ ما هو غربيّ، ورفضهم لكلّ ما هو عربيّ. هنا كلمة «حبّ» تعني الإعجاب والاعتقاد والقناعة، وتصديق واعتماد كلّ ما هو غربيّ، واستبدال العربيّ بالغربيّ، ويتجلّى ذلك في تمظهرات كثيرة أهمّها وأوضحها اللغة.

[5] مي عامر، ليس تامر أمين وحده: عن نظرة ابن المدينة إلى الريف في خطاب الدولة الرسميّ، المنصّة، 08/03/2021، شوهد في 10/01/2021، في: https://bit.ly/3GZWhvk

[6] يان سبورك، أيّ مستقبل لعلم الاجتماع: في سبيل البحث عن معنى وفهم العالم الاجتماعيّ، ترجمة حسن منصور الحاج، ط1 (بيروت: المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، 2009) ص 34.

[7] «إنتربرايز تحاور ‘بَالانسيد‘»، Enterprise،و28/02/2021، شوهِدَ في 10/01/2022، في: https://bit.ly/3f629ax

[8] عبد الرحمن عادل، أحمد عبد الحليم، تعليم الاستبداد: إخضاع وتدجين، جدليّة، 26/08/2021، شوهِدَ في 10/01/2022، في: https://bit.ly/33JZErM

[9] إدريس مقبول، الإنسان والعمران واللسان: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربيّة، ط1 (قطر: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2020)، ص 47. 

[10] ابن خلدون، مقدّمة ابن خلدون، المجلّد الأوّل، الفصل الثالث والعشرون من الباب الثاني ط1 (القاهرة: دار الجيل للطباعة والنشر والتوزيع، 2005)، ص 61.

[11] وائل حلّاق، الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقيّ، ترجمة عمرو عثمان، ط1 (الدوحة: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2015)، ص 207، 208.

 


 

أحمد عبد الحليم

 

 

 

كاتب وباحث مصريّ في قضايا الاجتماع، له العديد من المقالات والدراسات المنشورة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة في عدد من المؤسّسات البحثيّة والمنابر العربيّة. مؤلّف كتابي «الحارة العربيّة» و«أجساد راقصة».

 

 

التعليقات