12/05/2022 - 20:49

ريحة الحبايب: العيد في السجون الإسرائيليّة

ريحة الحبايب: العيد في السجون الإسرائيليّة

piqsels

 

لطالما شكّل الأسرى، عبر قصصهم الّتي لا تنتهي، مدوّنات مدهشة لقدرتهم على التكيّف المقاوم في مواجهة سجون الاستعمار الإسرائيليّ، كمنظومة وبنية مستمرّة. لقد حوّل الأسرى اليوميّ داخل تلك السجون، إلى مناهض أو نقيض لتلك البنية، عبر ترجمة التفاصيل الحياتيّة الدقيقة إلى أمور مرتبطة بالهمّ الجمعيّ، بموضعتها ضمن سياق أكبر يسعى إلى إعطاب بنية السجون الاستعماريّة، الّتي تستهدف الجسد والروح لدى الأسير، وتحاول أن تنزع عنه فاعليّته السياسيّة بالمراقبة والضبط، وجعل الأسير مسلوب الإرادة ومفعولًا به. هي إجراءات تقع ضمن سياسات أكبر من الضبط والإخضاع، الّتي تمارسها إسرائيل على الشعب الفلسطينيّ في أحيازه الجغرافيّة المسجونة المختلفة، أي ’السجن الكبير‘.

 

ملابس منقوعة بالعطر

يحاول الأسرى في الأعياد أن يخلقوا من إمكانيّاتهم المحدودة بهجة خاصّة، تشعرهم بأنّهم قادرون على الفرحة ضمن هذا الكمّ الهائل من البؤس، الّذي تحاول أن تفرضه «مصلحة السجون»، وفق التعبير الإسرائيليّ. طبعًا من نافلة القول أنّ هذه المصلحة، هي أن يبقى الأسير، رهين لحظة السجن؛ بمعنى أن يتحوّل إلى عاجز حتّى على صعيد المشاعر والآمال، عاجز عن توليد الفرح والمباهج، أن يظلّ أسير اللون الرماديّ، والموغل بالموت لتلك الأسوار.

عمد الأسرى إلى تقنيّة جديدة كنت أسمّيها آنذاك ’ريحة الحبايب‘؛ يُدْخِل الأهل الملابس، بعدما تُنَقَّع بالعطور الفاخرة، يعصرها الأسرى جيّدًا بعد إدخالها، ويستخرجون منها العطور برائحتها الفوّاحة...

في «سجن إيشِل الصحراويّ» (سجن السبع المركزيّ)، الواقع في ديار بئر السبع، كانت الغرفة تستعدّ لصلاة العيد، الأسرى منهمكون بالتحضيرات للأناقة؛ فالأسير في هذا اليوم يجب أن يكون بكامل أناقته، هناك مَنْ يخرج عطر ’الأفتر شيف‘ المستخدم للحلاقة، ويعطّر نفسه ببخّات من هذا العطر المتوفّر في ’الكانتين‘، وآخر يلبس جرابات أدخلها الأهل تفوح منها رائحة الخارج.

عمد الأسرى إلى تقنيّة جديدة كنت أسمّيها آنذاك ’ريحة الحبايب‘؛ يُدْخِل الأهل الملابس، بعدما تُنَقَّع بالعطور الفاخرة، يعصرها الأسرى جيّدًا بعد إدخالها، ويستخرجون منها العطور برائحتها الفوّاحة، ومع كلّ شمّة عطر تشعر بأنّ الخارج بكلّ تفاصيله يتغلغل في ثنايا الذاكرة والروح.

الملابس المنقوعة بالعطر ليست فقط تقنيّة نضاليّة هدفها مقاومة إرادة السجّان، ومواجهة ماكينة الموت تلك بماكينة الحياة الّتي أتقنها الأسرى جيّدًا، إنّما تتعدّى ذلك إلى شيء أقرب إلى الميتافيزيقيا ودلالات الوجود، تشكّل لحظة اتّحاد زمانيّين ومكانيّين من الناحية الفيزيائيّة للوقت. مع كلّ بخّة عطر، تنساب الذاكرة، وتتفتّح بداخلك روائح كنت قد خزّنتها في تلابيب الروح، وهي الآن تخرج على شكل رذاذ من عطور.

أقوى أشكال التذكّر هو الآتي على شكل روائح، تشعر بأنّك لا تتذكّر فقط، بل تعيش الشعور والمحسوس واللحظة المتدفّقة، أو بتعبير آخر أنّك لا تتذكّر بل تشمّ؛ تشمّ الذاكرة، شيء لا تسعفك اللغة الدارجة على وصفه، تحتاج إلى قاموس من نوع آخر؛ قاموس سماويّ ومتجاوِز إن أردت، مع تلك الأحاسيس المتدفّقة تشعر بعجز قواميس الأرض وقصورها؛ ففي زمن الأسرى تحتاج إلى لغة تتقن القبض على خلجات النفس وتدفّق الروح، إلى لغة موازية، تحوّل ’الفوق حسّيّ‘ إلى إشارات مكثّفة لا تنفتح إلّا لمَنْ أتى الأسرى بقلب سليم، وتستغلق أمام مَنْ استبدل روحه وأجّرها للشيطان، فلا يفهم فتوحات ابن عربيّ إلّا مَنْ تمرّست روحه على الانتباه؛ الانتباه الّذي ما زال يذكّرنا أنّ الزمن الفلسطينيّ ما زال معتقلًا، وإن كان الأسرى منتبهين إلى سجنهم الصغير، ويمارسون لحظات التحدّي عبر التفاصيل الدقيقة، فإنّ الفلسطينيّ في السجن الكبير، عمومًا، يغرق في خدره الكبير، وتتنمّل أطرافه وتتيبّس ذاكرته، فتتحوّل روحه إلى حطبة.

 

ليس لمَنْ لبس الجديد

كان الأسرى يتأنّقون للعيد، كأنّهم يتأنّقون للخروج ومغادرة السجن إلى الأبد، يلبسون أجمل ما عندهم، كان ’الخداج‘ منهم؛ أي الأسرى الجدد، يحتفظون بملابسهم الّتي ما زالت ’ريحة برّة عليها‘، على تعبير أحدهم، يخرجونها للغسيل والكوي في مغسلة القسم.

هناك مَنْ يحاول إدخال ملابس جديدة من الخارج، رغم المعيقات الّتي تمارسها إدارات السجون على الأسرى، الّتي تتفنّن بتوليد منغّصات عيشهم، حتّى تحوّل حياتهم إلى جحيم، ومن ضمن تلك المنغّصات منع إدخال الملابس، الّتي كان يُفْرَضْ عليها شروط لا تنتهي حتّى يستطيع الأهل إدخالها، والكثير منها كان يعود مع الأهل دون التمكّن من إدخالها.

كان تصوّرهم النضاليّ يقوم على أنّه يجب أن تتحمّل إدارة السجون تكاليف سجني، والتخفيف قدر الإمكان من إثقال كاهل الأهل من الطلبات المادّيّة للأسير، في ظلّ خصخصة السجون وتحويلها إلى استثمارات تطلب الربح...

كان الأسرى يُدْخِلون الملابس ويصرّون عليها بعد محاولات عديدة. في كثير من حملات التفتيش والقمع والنقل المتواصل، كانت مقتنيات الأسرى تُصادَر، ومن ضمنها الملابس، وجزء كان يوزّعه الأسرى على مَنْ لا يملكون ثيابًا، من المعتقلين الجدد أو القادمين من مراكز التحقيق.

أمّا قدماء الأسرى، وهم شهود الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وتحوّلاتها، وشهود زمن الحركة الأسيرة ومخزن ذاكرتها، فكنت تراهم دائمًا بملابس «الشاباص» [لفظ عبريّ، שב"ס، ويعني مصلحة السجون الإسرائيليّة] البنّيّة اللون، سواء أيّام الأعياد أو أثناء الخروج إلى الفورة [ساحة السجن في معجم الأسرى، وهي موقع استراحاتهم ومركز فعاليّاتهم]، حتّى في ساعات الرياضة الصباحيّة؛ فكان تصوّرهم النضاليّ يقوم على أنّه يجب أن تتحمّل إدارة السجون تكاليف سجني، والتخفيف قدر الإمكان من إثقال كاهل الأهل من الطلبات المادّيّة للأسير، في ظلّ خصخصة السجون وتحويلها إلى استثمارات تطلب الربح، ومراكمة المال عن طريق إغراق الأسرى بالسلع الّتي تُباع عبر ’كانتين‘ السجن، بمعنًى آخر؛ أن يدفع الأسير ثمن أسره وتكاليف اعتقاله. كنّا نتندّر على تلك السياسة، أنّه بقي على الأسير أن يدفع أرضيّة سجنه.

 

"آخر الأعياد هون"

في أحد الأعياد بعد صفقة تحرير الأسرى عام 2012، خطب محمود شريتح، ابن بلدة يطّا وابن «جامعة بير زيت» وحركتها الطلّابيّة، المحكوم مدى الحياة ثلاث مرّات، في الأسرى الباقين على الأمل، بعد صفقة التحرير، وفي منتصف الخطبة، قال: "العيد فرحة..."، ثمّ سكت منتظرًا أمرًا ما، كان متّفقًا مع أحدهم على أن يردّ عليه: "وأجمل فرحة، هي هي هي"، كما تقول أغنية الأطفال المشهورة لصفاء أبو السعود، لكنّ الأخير تراجع خجلًا.

كان العيد آنذاك مختلفًا عمّا سبقه من أعياد؛ شعور معقّد ومختلط ما بين حزن اللقاء وأمل الخروج الّذي أصبح أقرب؛ إذ خرج حينذاك من «سجن إيشِلْ الصحراويّ» عشرات الأسرى من المحكوميّات العالية.

لقد كانت معايدة الأسرى مختلفة عن المعايدات في الخارج، يبدأ يومهم في الصباح الباكر بالخروج إلى صلاة العيد، ثمّ التجمّع والمعايدة في الفورة، وكانت الكلمة الحاضرة على لسان كلّ أسير ليست تهنئة "كلّ عام وأنت بخير"، تلك تصلح للأهل والأقرباء في الخارج، أمّا ما يصلح لظروف السجن فكانت مقولات تحمل شحنة أمل على غرار "السنة الجاي عند أهلك"، أو "العيد الجاي في حضن إمّك"، و"آخر الأعياد هون".

بعد الانتهاء من شعائر صلاة العيد، الّتي تأخذ بعدًا وطنيًّا داخل السجون، وتشارك فيها كلّ الفصائل بكلّ الأطياف، يُتَبادَل ما يُعْرَف بـ ’زيارات الغرف‘، حيث يتبادل الأسرى الزيارات تعويضًا عن صلة الأرحام، وزيارة الأقارب الّتي تتكثّف في أيّام العيد، الّتي حُرم منها الأسرى على طول سنوات اعتقالهم، هي صلة أرحام وطنيّة إن أردتم، يتبادل الأسرى المعايدة، فكانت تحضّر أطباق الحلويات والعصائر، وما توفّر من البقلاوة الّتي يدخلها «الصليب الأحمر» إلى الأسرى في كلّ عيد، مع ما يصنع الأسرى من حلويات محلّيّة الصنع، مثل كنافة الأسرى، الّتي تشبه كنافة الخارج بالاسم، أمّا الطعم فحدّث ولا حرج. قال امرؤ القيس ذات مرّة "وكلّ غريب للغريب نسيب"، أمّا الأسرى بعد أن تناءت ديارهم، وتراكمت غربتهم في الزمن الفلسطينيّ المترهّل، أصبح الأسير للأسير نسيب.

 

الخلاص المحسوس

الأسرى محكومون بالأمل، ليس من باب الاستعارات الكبيرة الّتي أتقنها الفلسطينيّ في ترحاله المحموم والطويل، إنّما من باب تحويل الاستعارة إلى وجود. ما نفع الاستعارات إن لم يولد معها الخلاص؟ الخلاص الّذي تعيشه وتتنفّسه وتكبر معه ويكبر معك؛ الخلاص المعيش في اللحظة العاجلة، بعيدًا عن استيهامات الخلاص المؤجّل، الّتي تتحوّل إلى حالات مرضيّة ترافق الشعوب في حالة عجزها، عندما تنتظر مخلّصها القادم من الغيب.

هي صلة أرحام وطنيّة إن أردتم، يتبادل الأسرى المعايدة، فكانت تحضّر أطباق الحلويات والعصائر، وما توفّر من البقلاوة الّتي يدخلها «الصليب الأحمر» إلى الأسرى في كلّ عيد...

 

الأسرى في حالة فلسطين حوّلوا الخلاص إلى ملموس ومحسوس عبر تفاصيلهم الدقيقة والكثيرة، وحفروا في باطن الموت نفقًا يطلّ على الشمس ككناية كبرى عن ثالوثهم الأقدس: الحرّيّة والتحرّر والتحرير؛ إذ تشابكت كلّ الجغرافيّات مع بعضها بعضًا في لحظة فلسطينيّة بامتياز، تعود فيها الجغرافيا المنسيّة، جغرافيا الأسر، إلى قلب الجغرافيّات الفلسطينيّة وتعيد لملمتها؛ تلك اللحظة المتفجّرة في الوعي الفلسطينيّ والمتوالدة فيه، لن تكفّ عن ميلادها، وستتواصل لحظات ’الزمن الموازي‘، وفق وليد دقّة، في تفجير لحظاتنا الراكدة وخلخلتها، من إضرابات الأسرى الممتدّة، وليس آخرها إضرابي عامي 2012 و2017، مرورًا بتوالد النطف المحرّرة، إلى لحظة النفق الأخيرة، نفق الحرّيّة؛ تلك اللحظات الّتي استطالت في الوعي الفلسطينيّ، وحفرت فيه عميقًا.

لقد استطاع الأسرى تحويل لحظاتهم إلى أزمنة مغايرة يواجهون فيها ’لحظاتنا المريضة‘، عبر مراكمة التيقّظ في مواجهة سياسات البلاهة والخدر. والطريق تصنعها الخطى كما قيل، والعيد لحظة، وأجمل لحظة، في سياق التحرّر والخلاص.

 


 

عديّ البرغوثي

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، حاصل على البكالوريوس في التاريخ والآثار، والماجستير في الدراسات العربيّة المعاصرة من جامعة بيرزيت. يعمل مدرّسًا في رام الله.

 

 

 

التعليقات