18/05/2022 - 22:08

هبّة أيّار: الدخول في الأمل

هبّة أيّار: الدخول في الأمل

منتفضون فلسطينيّون خلال هبّة أيّار 2021 | Getty

 

قادتني الطريق إلى رشديّة بعد 10 سنوات، لأخبرها بما كان يقوله في تلك اللّحظة الداكنة، بين وجوده في حياتها وإخراجه منها قَسْرًا.

"شو كان يقول؟"، سألت بهدوءٍ شغوف.

"كانْ يْنادي عليكِ: يَمّا، حبيبتي يَمّا".

يومَها، عند تلك اللحظة الداكنة من الأيّام الأولى لانتفاضة القدس والأقصى، في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2000، جاء عمّي جمال بسيّارته، وجدني عند «الشبرة»، الاسم الّذي نطلقه على المدخل الجنوبيّ للبلد، حيث الشارع الرئيسيّ يصعد التلّة نحو قرية جتّ، وحيث كان عشرات الجنود الإسرائيليّين وعناصر الشرطة قد انتشروا من أجل تأكيد احتلالنا من جديد. كانت معهم يومها دبّابة واحدة لفرض الهيبة، ستصير خلال أيّام دبّابات ومجنزرات وجيبات وطائرات هيليكوبتر وإف 16، تمرّ عبر شوارع قريتي وسمائها إلى قرى ومدن الضفّة الغربيّة المتاخمة، الّتي سيفصلها عنّا بعد قليل جدار الفصل العنصريّ.

عند ذلك الباب الخلفيّ وقفت، كان هو في حضن أحدهم، تُخْرِجُهُ أيدي الشباب والممرّضين، يتدفّق الدم من أعلى عينه اليسار، حيث الثقب الداكن، تتلوّن فانيلّته البيضاء وبنطاله الجينز بالأحمر...

أجبرني صراخ عمّي على ركوب سيّارته ليعيدني إلى البيت: "بعدك صغير، مِلْحِقْ على هالخرّاف، تعال اركب بسرعة"، حاولت أن أتملّص، لكنّني في النهاية فعلت... فجأةً، بانفعال، استدار بسيّارته، وأسرع، يلحق بسوبارو، دماءٌ تسيل مِنْ بابها الخلفيّ جهة اليمين.

وصلتْ السوبارو إلى «مركز وئام الطبّيّ»، توقّفتْ عند مدخله، وأوقف عمّي سيّارته، نزل بسرعة، لحقت به. عند ذلك الباب الخلفيّ وقفت، كان هو في حضن أحدهم، تُخْرِجُهُ أيدي الشباب والممرّضين، يتدفّق الدم من أعلى عينه اليسار، حيث الثقب الداكن، تتلوّن فانيلّته البيضاء وبنطاله الجينز بالأحمر، تتدلّى من رقبته سلسلة ذهبيّة، فيها يَدٌ تقبض على حجر.

سأعرف لاحقًا أنّ اسمه رامي غرّة، واحد من قرابة 5000 شهيد قتلتهم إسرائيل خلال سنوات الانتفاضة الخمس، وسأرى عيون أمّه وأبيه عدّة مرّات في فعاليّات إحياء ذكرى الانتفاضة السنويّة.

بعد 10 سنوات، قادتني الطريق إلى بيته، صحافيًّا يريد أن يستكمل القصّة، ربّما لأغلق واحدة من الدوائر الكثيرة المفتوحة؛ تسمع أمّه كلماته، ينادي عليها، عبر فمي.

***

بعدها، ظللت أركض 20 عامًا أنا وأبناء جيلي في الشوارع والأزقّة والحارات والجامعات والكلّيّات، وسهول القرى وتلالها حيث تُصادَرُ الأراضي وتُهْدَمُ البيوت، تستنزفنا إسرائيل ونستنزفها، تلاحقنا ونلاحقها، كلّما أغلقت بابًا فتحنا شبّاكًا، كلّما هدمت شرفةً حفرنا نفقًا، تمامًا مثلما فعلت جدّاتنا وأجدادنا، آمّهاتنا وآباؤنا، على مدار 100 عام من محاولة سرقة بلادنا. 20 عامًا؛ أربعة حروب على غزّة، أسرى إداريّون، إضرابات عن الطعام، مصادرة أراضٍ، هدم للبيوت، مجزرة على الشريط الاحتلاليّ في «مسيرات العودة الكبرى»، اقتحامات متكرّرة للمسجد الأقصى، تغيير للوضع القائم فيه، إحراق للطفل محمّد أبو خضير، وأيضًا لعائلة الدوابشة، اجتياح للضفّة الغربيّة، محاصرة ياسر عرفات وتسميمه، ثورات الربيع العربيّ، تدمير مخيّم اليرموك، حظر الحركة الإسلاميّة الشماليّة بقيادة رائد صلاح وإعلانها منظّمة خارجة عن القانون، سلسلة محاكمات عزمي بشارة وصولًا إلى مغادرته البلاد، استهداف التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، الحزب الّذي كنت عضوًا فيه، واعتقال العشرات من أعضائه، احتجاز جثامين الشهداء، صناعة ظاهرة العنف والجريمة المنظّمة عبر ضخّ 400 ألف قطعة سلاح من مخازن الجيش إلى تجمّعات الفقر والبطالة والاكتظاظ، هبّة عكّا المحلّيّة، والمغار، وبيت دجن، بناء جدار الفصل العنصريّ، شقّ «أوتوستراد رابين» ليعبر من أراضي قرى المثلثّ، استهداف أسطول الحرّيّة، مواجهة «خطّة برافر» لمصادرة 800 ألف دونم من بدو النقب وترحيل قرابة 40 ألفًا من القرى منزوعة الاعتراف، قتل المربّي يعقوب أبو القيعان، الحرب على لبنان... ولا يمكن للقائمة أن تنتهي.

***

غادرت البلاد عام 2019، في جولة دراسة وتطوّع وكتابة، متعبًا ومحبطًا وخائب الأمل من القوى السياسيّة الفلسطينيّة المتصارعة على «الزعامة السياسيّة» والفتات، غاضبًا من النخب الأكاديميّة الّتي يفضّل كثير منها الصمت، أو الاكتفاء بالنقد الناعم الّذي يُبْقيها في مناطقها الآمنة ضمن مؤسّسات إسرائيل الأكاديميّة، أو مؤسّسات السلطة الفلسطينيّة، نائيًا بنفسي، وكثيرون فعلوا مثلي، عن أجواء الصراعات والإيجوهات والروح الشلليّة الّتي سيطرت على الناشطين والسياسيّين الشباب، وأتلفت نقاء روحهم الثوريّة... غادرت محمّلًا بعبء نزاعاتنا الداخليّة، وهزيمة «الربيع العربيّ» على يد الدكتاتوريّات وجيوشها المدعومة من القوى العالميّة، وضعف تنظيم مؤسّساتنا الأهليّة.

فهمت خلال إقاماتي في جنوب إفريقيا، واليونان، وعدد من المدن اليوغوسلافيّة، مِنْ جروح تلك البلاد الّتي لا تزال مفتوحة (...) أنّ المعضلة أكبر من خريطة بلادي...

فهمت خلال إقاماتي في جنوب إفريقيا، واليونان، وعدد من المدن اليوغوسلافيّة، مِنْ جروح تلك البلاد الّتي لا تزال مفتوحة، من قصص اللّاجئين والمهاجرين على طريق البلقان، من ساكني أحياء الفقر حول جوهاسنبورغ وكيب تاون، من الوجوه المنهكة، القلوب الحالمة، الأحلام المصرّة، النفوس المنكسرة، الأغاني المقاتلة، فهمت أنّ المعضلة أكبر من خريطة بلادي، وأنّ بشاعة النظام العالميّ أوسع من ألم شعبي، وأنّ مواجهة القهر وغياب العدالة ومنطق الامتيازات الّذي يفضّل شعبًا على شعب، إنسانًا على إنسان، بحاجة إلى ثورة معاني، تؤسّس منظومة قيميّة ومفاهيميّة جديدة، وتوجّه الصفعات ضدّ الاستبداد والفوقيّة والاستغلال والطبقيّة في كلّ اتّجاهٍ ممكن.

***

عُدْتُ إلى فلسطين بعد مدّةٍ طويلةٍ منهكًا أكثر، بمزيدٍ من خيبة الأمل والغضب، لأجد نفسي مباشرةً في قلب «هبّة القدس» أو «هبّة أيّار» أو «هبّة الكرامة والأمل» أو «معركة سيف القدس» أو «هبّة الشيخ جرّاح»و هب، الّتي امتدّت من نيسان (أبريل) حتّى حزيران (يونيو) 2021. كنت قلقًا، متوتّرًا، خائفًا من هستيريا الجماعة القوميّة اليهوديّة، على شكل جيش وشرطة وإعلام وعصابات قوميّة متطرّفة تبحث عن فرائس عربيّة في شوارع مدن الساحل، حيفا، وعكّا، واللدّ.

كنت بلا طاقة لعمل أيّ شيء، مع شعور بالعجز وعدم الاستعداد.

ثمّ جاءتني دعوة للمشاركة في ندوة تنظّمها مجموعات شبابيّة وطلّابيّة من باقة الغربيّة والقرى القريبة منها، يطلبون منّي تقديم قراءة ثقافيّة في الهبّة، وقد تردّدت لظنّي أنّ فعل ذلك خلال حدوث الحدث قد يبعد أيّ قراءة عن الموضوعيّة، ويدخلها في باب الانطباع العاطفيّ. قرّرت أن أتحدّى نفسي وأذهب لأتحدّث عن الطريق الّتي أوصلتنا إلى الهبّة ومكامن قوّة الفلسطينيّين؛ وإذ بمئات الفتيات والفتيان، من مواليد نهاية عقد التسعينات وبداية عقد الألفين، ومَنْ هم أصغر من ذلك، يتواجدون هناك، في قاعة «المركز الجماهيريّ»، نفس المكان الّذي منعت إسرائيل قبل مدّة قصيرة تنظيم أمسية أدبيّة فيه، لتوقيع رواية للفتيان من كتابة الأسير وليد دقّة، ابن باقة الغربيّة، رغم مرور عقدين على سَجْنِ

في باقة الغربيّة، الّتي كانت مركزًا للفعل الاحتجاجيّ لمجموعة من القرى المحيطة بها، كانت التظاهرات المسائيّة بالقرب من «محطّة الشرطة»، زاخرة بالنساء، وسرعان ما تتحوّل إلى مواجهات وكرّ وفرّ...

كان الغضب في عيون هؤلاء الصغار برّاقًا، يصغون ويتحدّثون بشغف، لديهم خطاب رفض ومقاومة، يمتلئون حماسًا وكبرياء.

في باقة الغربيّة، الّتي كانت مركزًا للفعل الاحتجاجيّ لمجموعة من القرى المحيطة بها، كانت التظاهرات المسائيّة بالقرب من «محطّة الشرطة»، زاخرة بالنساء، وسرعان ما تتحوّل إلى مواجهات وكرّ وفرّ بين شباب ملثّمين وقوّات إسرائيل.

في إحدى التظاهرات، وفي إحدى ساحات البلدة، كان هؤلاء الصغار يهتفون لحقّ العودة، والوحدة الوطنيّة، ورفض الاستعمار، ضدّ الأبرتهايد، والعملاء، والتخاذل العربيّ، والصمت العالميّ، من أجل غزّة والشيخ جرّاح والأقصى واللدّ... كان من بينهم طلّاب علّمتهم في المدرسة قبل سنوات...

تساءلت، جميعنا تساءل: كيف تعلّم هؤلاء الصغار هذه المصطلحات؟ من أين حصّلوا هذه اللغة والمفاهيم؟ خاصّة بعد استهداف الحركات السياسيّة ’المزعجة‘ وقياداتها وناشطيها، وملاحقة المجتمع المدنيّ والتضييق عليه؟

كيف يستطيع هذا الجيل المتّهم بأنّه يقيم في «إنستغرام» و«تيك توك» فعل كلّ هذا؟

إنّ الإحساس بالقهر والظلم معلّم محترف [فيريري]، والتعلّم بالتجربة والمجاورة [فاشة] أمر يصعب السيطرة عليه، تمامًا مثل المقاومة بالحيلة [جيمس سكوت]، وإن صادرت منّا إسرائيل الحقّ في تعلّم تاريخنا وجغرافيا بلادنا وهويّتنا الثقافيّة في المدارس، ومنعت التدريس بالعربيّة في الكلّيّات والجامعات.

***

شاركت أصدقاء من غير العرب، كانوا يرسلون إليّ للاطمئنان عليّ، فيديو مع التعليق الآتي:

"كنت هنا، فوق شاحنة، مع العشرات فوقها وحولها، وصوّرت هذا الفيديو، من جنازة شابّ عمره 17 عامًا، اسمه محمّد كيوان، من أمّ الفحم، كان رئيسًا لمجلس الطلّاب في مدرسته، أطلقوا عليه رصاصة وهو جالس في سيّارته فأصابت رأسه، قرب عينه، بلدته قربا بلدتنا. نحن نسمّي مَنْ تقتله الشرطة أو الجيش ‘شهيدًا‘، هذه جنازة ’شهيد‘".

لم أنتبه إلى أنّ الفيديو المصوّر من الأعلى، حيث يظهر الآلاف تشييعًا للشهيد، سيستدعي لدى بعضهم سؤالًا من نوع: "لكنّهم يغنّون ويهتفون ويصفّقون، لماذا هذه الموسيقى في جنازة؟".

لم أنتبه إلى أنّ الفيديو المصوّر من الأعلى، حيث يظهر الآلاف تشييعًا للشهيد، سيستدعي لدى بعضهم سؤالًا من نوع: "لكنّهم يغنّون ويهتفون ويصفّقون، لماذا هذه الموسيقى في جنازة؟".

استجمعت جوابًا ما بالإنجليزيّة وأرسلته: "نحن هكذا عندما يُقْتَلُ واحد منّا، هكذا قرّرنا جماعيًّا دون أن نعرف لماذا، وكيف، ومتى بدأ ذلك، ودون تخطيط من جهة ما. يقتلوننا فنرقص ونغنّي ونزغرد ونهتف ونلقي شعرًا، كما أنّنا ننوح ونلطم ونقرأ النصوص المقدّسة. نفعل كلّ شيء معًا، ولا أعرف أيّ شرح منطقيّ لذلك، ولا حاجة لي به. هو الانتصار لحياة نرفض أن تُسْلَبَ منّا ظلمًا، حزن بلون الفرح المقتول".

 


 

علي مواسي

 

 

شاعر وباحث. يعمل محرّرًا لمجلّة فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بالإضافة إلى تحرير إصدارات مؤسّساتيّة وخاصّة، وتدريب مجموعات، وتدريس العربيّة، والاستشارة ثقافيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "لولا أنّ التفّاحة"، وكتاب من تحريره بعنوان "الثقافة الفلسطينيّة في أراضي 48"، ومشاركات في مشاريع كتابيّة وإصدارات جماعيّة عديدة.

 

 

التعليقات