06/09/2017 - 04:29

مأساة الرجل الآليّ!

مأساة الرجل الآليّ!

أحد أيّام شهر آب من عام 2300 للميلاد.

 ينتظر الأخصّائيّ النفسيّ رامز، بطفر شديد، ما تبقّى له من وقت لانتهاء الدوام. لم يزره في عيادته منذ الصباح سوى مريضين بشريّين. يسير عمله منذ شهور بهذه الوتيرة البطيئة، فالبطالة المتفشّية بين البشر حرمت آلاف المرضى القدرة على دفع ثمن العلاجات النفسيّة. يفكّر رامز في أنّه لن يستطيع على الأغلب دفع أجرة العيادة للشهر الثالث على التوالي، وسيمسي في الشارع بلا عمل قريبًا.

مشاهد الرجال الآليّين يغزون معظم الوظائف لا تفارق مخيّلته. لقد خرج مصير الآليّين عن سيطرة البشر، ولم يعد بمقدور إنسان الوقوف في طريقهم. يتخيّل رامز نفسه على ناصية الشارع يتسوّل من هؤلاء الدخلاء المحشوّة جيوبهم بالمال، فيبتسم لسخرية الأقدار ابتسامة مرّة، ولا تستبعد نفسه وقوع هذا الاحتمال قريبًا.

نصف ساعة قبل انتهاء الدوام، يطرق باب العيادة رجل آليّ يعطي لونه المكفهرّ انطباعًا بالتعاسة. يستقبله رامز بمشاعر متناقضة، فها هو زبون جديد يدرّ عليه دخلًا إضافيًّا اليوم، لكنّه زبون من تلك الفئة التي يمقتها؛ الآليّون الذين يزاحمون البشر في رزقهم. يجلس الآليّ أمام رامز بأكتاف متهدّلة، يشفط سيجارة إلكترونيّة بشراهة، ما يلبث أن يعرّف عن نفسه بأنّه خرّيج علم نفس في طريقه إلى فتح عيادته الخاصّة.

خفقة قلب كطرقة الشاكوش تضرب صدر رامز، لكنّه يتمالك نفسه أمام الآليّ فلا يظهر ردّة فعله المتوتّرة. كان يعتقد أنّ وظيفة الأخصّائيّ النفسيّ ما زالت من الوظائف القليلة البعيدة عن متناول الآليّين، لكن يبدو أنّ قدرات هذه الآلات تتطوّر بتسارع رهيب لم يتوقّعه. يكتم انفعاله وغيظه المتنامي في صدره، ويسأل الآليّ بمكر: آها، وهل أصبحتم تزاولون الطبّ النفسيّ؟

فيردّ الآليّ: نحن أوّل دفعة خرّيجين آليّين في هذا المجال.

يتعرّق جبين رامز، يسأله: وما هي مشكلتك؟

تزداد كتفا الآلي تهدّلًا وانحناءً على صدره حتّى تُسمع قرقعة قطعه الداخليّة، يقول ببؤس: أنا الأوّل على دفعتي. أمس استبقت زملائي وتقدّمت إلى امتحان مزاولة المهنة، لكنّني فشلت فيه.

هل يفتح الأخصّائيّ رامز في هذه اللحظة شبّاك عيادته في الطابق التاسع ويحلّق كفراشة في سماء فردوسيّة، أم يغزّ رأسه في الأرض احتفاءً بهذا الخبر؟ أم تراه يقفز إلى سطح البناية ويظلّ هناك وحيدًا يشمت في مريضه الآليّ حتّى يتورّم قلبه؟ كلّ الاحتمالات واردة أمام شخص مفجوع لمثل هذه الفرحة، كما هو الآن. للمرّة الأولى في حياته يمرّ عليه آليّ فشل في امتحان ما، يا بشائر العهد الجديد!

يصطنع رامز التفكّر والقلق، ويسأل الآليّ: وما هي برأيك الأسباب التي أدّت إلى هذا الفشل؟

يبالغ الآليّ في انحنائه، ويتشنّج حتّى ينطلق إنذار جهاز الضبط لديه، ثمّ يقول بحسرة: هل تعرف ذلك الشعور بأنّك تريد أن تخنق أحدهم بيديك الاثنتين؟

يبتسم رامز ابتسامة صفراء ويشعر أنّ عضلة قلبه تحرّكت: بالتأكيد...

الشعور بأنّك تريد أن تشرب دم أحدهم؟

آه! الأطباء أكثر مَنْ يشعرون بهذا يا عزيزي، لا تقلق.

يركع الآليّ عن الكرسيّ أرضًا، منحنيًا على نفسه انحناءة تكاد تسحق أجهزته، غير عابئ بإنذارات جهاز الضبط، يصيح بحرقة وبراءة: أنا لا أعرف هذه المشاعر كلّها! ولن يكون في قدرتي على الإطلاق علاجها لدى المرضى طالما أنّني لم أختبرها في حياتي. إنّني لا أعرف أصلًا كيف هو الخنق! وكيف هو مذاق الدم! أو كيف هي الرغبة فيهما!

يبادر رامز بالربت عل كتف الرجل الآليّ ومساعدته في النهوض، ومصطنعًا القلق عليه، يشرع في مواساته والتخفيف عنه. ثمّ بعد أن يقنعه بضرورة مواصلة دراساته العليا في أيّ مجال آخر، يوصله إلى باب العيادة ويدعو له بالتوفيق. وفي الوقت الذي يجرّ الرجل الآليّ نفسه خارج العيادة بانهيار ومواجع مفتوحة، يستسلم رامز إلى حالة من الانتشاء الذي لا يُقاوم، بعد أن صار على يقين من أنّه يستحيل على الآليّين احتلال الوظائف البشريّة كافّة.

 

ميس داغر



كاتبة قصّة قصيرة تقيم في بير زيت. لها مجموعة قصصيّة بعنوان 'معطف السيّدة' (2017)، صدرت عن الأهليّة للنشر والتوزيع، وهي حاصلة على جائزة الكاتب الشابّ من مؤسّسة عبد المحسن القطّان لعام 2015.

التعليقات