04/11/2018 - 05:48

ثلاث دودات في مشرحة: أنيس غنيمة (2/ 3)

ثلاث دودات في مشرحة: أنيس غنيمة (2/ 3)

أنيس غنيمة

 

منذ فترة ليست قريبة، يعيش الكتّاب الشباب في غزّة ظروفًا قاسية، في ظلّ حالة التجاهل والتهميش، وانعدام الفرص والنوافذ، وشحّ الموارد والإمكانات، والحصار الثقافيّ والمعرفيّ المفروض، عدا المنظومة المجتمعيّة الّتي تحيط خاصرة الطاقات الأدبيّة الشابّة بحزام التقاليد والموروث، وحيّز اليقين، والرفض المطلق لأيّ إرادات تفكير جديدة وحداثيّة. ربّما هي حالة مذهلة من الخراب الروحيّ والفكريّ والمعرفيّ، الّتي تأخذ بالشعراء والفنّانين بشكل أكثر خصوصيّة؛ لأنّهم الأكثر انكسارًا على مدار سنين مضت؛ لهذا بدت الحاجة ملحّة لديهم للتمسّك بإرادة الرفض، ليس المكانيّ منه فحسب، بل الواقعيّ أيضًا.

وإن كان انعدام الخيارات بالنسبة إليهم يمثّل إعدامًا للأفق الظاهر وغير الظاهر، بل إنّه يُعَدّ تمسّكًا غير محسوب بخيار "انعدام الخيار" نفسه، فالشعر كان دومًا المكان الأرحب، الّذي يستوعب بمعناه الواسع طاقات الرفض والتمرّد لديهم، بوصفها واحدة من سمات الخطاب الشعريّ الحيّ والمعاصر، تتحكّم في عمليّة إنتاج الدلالة النصّيّة في قصائدهم، ما داموا يملكون القدرة على رؤية العالم رؤيةً فاحصة واعية من بعيد.

وقد آثرنا أن نختار ثلاثة شعراء غزّيّين، برؤًى وتطلّعات متباينة، رغم تجاورهم في أماكن إقامتهم، وكانوا قد حازوا على جوائز ثقافيّة وإبداعيّة في حقل الشعر، من "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"؛ لإجراء حوارات خاصّة معهم، ستُنشر على التوالي في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، هم: نضال الفقعاوي، وأنيس غنيمة، وحامد عاشور.

 

*****

 

الشاعر أنيس غنيمة (26 عامًا)، الفائز بـ "جائزة الكاتب الشابّ"، الصادرة عن "مؤسّسة عبد المحسن القطّان" لعام 2017، عن مجموعته "جنازة لاعب خفّة"، الّتي تتناول كلّ ما يتقاطع معها بطريقة جماليّة، مهما كان بسيطًا أو عابرًا. قال عنها محكّمو اللجنة إنّها تقدّم خطابًا شعريًّا ناضجًا ومتمكّنًا، واستعارات وصورًا مدهشة، وزخمًا شعريًّا يتدفّق في نصوصٍ، مُنسابة عن القسوة والحزن، عبر شعريّة تتميّز بالذاتيّة والتجريب والإبداع.

 

فُسْحَة: "جنازة لاعب خفّة" عنوان رشيق على مستوى التقنيّة والدلالة، رغم اكتنافه بطقس تراجيديّ ضخم، وإحالات مبطّنة، تفتح الجرح على الحزن الإنسانيّ الكبير... هلّا تحدّثنا عن جنازة لاعب الخفّة هذا.

أنيس: بالنسبة إليّ، العناوين أشبه بدالّة غامضة، تأخذ حيّزها بأهليّة القصيدة، أمّا عناويني أنا فهي قاصرة؛ ربّما لأنّ قصائد المجموعة مسكونة بغائبين كُثُر، وربّما أنا بينهم.

 

أنيس غنيمة، من اليمين، مشاركًا في إحدى ندوات معرض كتّاب غزّة 2018

 

كُتبت نصوص هذه المجموعة، في الفترة بين 2013 حتّى نهاية آب (أغسطس) 2014، إذ حظيت بأصوات انفجارات، كان لا بدّ من تطويعها لسدّ الفوّهة، الّتي علت سقف المشقّة والموت، أمّا ما حدث فيما بعد، حتّى حصولها على جائزة الشعر في "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، فهو أشبه بهواية جمع الطلقات الناريّة الفارغة وتلوينها.

"جنازة لاعب خفّة"، غوص أوّليّ في أشكال شعريّة، أخذتْ على عاتقها تفويض اللغة للتحدّث باسمها. إنّها أشبه بصلاة صامتة، لأفواه تتأرجح فوق حبال السيرك. لا يمكن تفويت التجربة، وهي عنوان أبرز لهذا الكتاب، وأكثر جدارة، إنّما يمكن محوه فيما بعد.

أجراسُ آثامي تدقّها يدُ الليل القدّوس

وتجرُّني ترتيلةُ السأمِ والغبارِ

آهٍ، أيُّها المجدُ الطالعُ

يا سفينةَ الصحراءِ في نهرٍ آسنٍ

يا خشبَ المسرّةِ بأسرهِ

ويا مزاميرَ وجودي في كلِّ حين

هأنذا بما أحملُهُ ويَحملُني

مولودٌ في الّذي وُلِدَ لي

 

فُسْحَة: عندما يهبط الليل - هذا الهدوء المفخَّخ بالإشكاليّات - على غرفتك، تشعر كأنّك تقبض على ذاتك، تمسكها بيديك، وتدلّلها مثل قطّة مستسلمة، بعدما تحوّلها إلى لغة، إلى نوع من كائن لغويّ؛ لتبدأ في محاصرته ورصده وتفكيك مغاليقه. يأخذني الفضول لأعرف كيف يناديك الشعر في هذا كلّه، من أيّ فخّ ينبعث صوته؟

أنيس: إنّني أتّفق مع القول، الّذي يدّعي أنّ القصيدة لا تبدأ في العزلة، بل في نطاق من العلاقات "العالم والإنسان". تجربة العزلة في غرفتك وحيدًا بانتظار الشعر، تكتسب أهمّيّتها في بداية التجربة، وهي اتّكاليّة ضروريّة إلى حدّ ما، أمّا مسألة الركون إلى الانتظار، فهي فكرة قاتلة للشعر، ليس ذلك الصوت العاجز للإنسان، الغارق في ذاته، ولا يمكن تصويره شيئًا يشبه الاختراع الآليّ، وهو ما أقابله غالبًا، عندما أقرأ غير ديوان واحد لشاعر واحد، التكرار المريب المكشوف على فراغ، إنّني أرفض هذا الآن؛ لأنّ الشاعر ليس هو ذلك المخترع للأشياء، إنّما صيّادها. لا يمكنني الانتظار كلّ ليلة، حتّى تنبلج الأشياء، بل أقابلها في المنتصف... هذه رؤيتي للشعر؛ أنّه ليس صدًى صوتيًّا لتجارب أخرى، حتّى تجربتي، وهو ليس الخضوع والركون بكلّ تأكيد، إنّه عند حافّة العالم، حيث تقف قدمان باستغراب.

 

اقرأ أيضًا - ثلاث دودات في مشرحة: نضال الفقعاوي (1/ 3)

اقرأ أيضًا - جنازة لاعب خفّة: نصوص من المجموعة الفائزة بجائزة القطّان

 

فُسْحَة: تستخدم في أغلب قصائدك، عناصر متباعدة ظاهريًّا، وتؤلّف بينها بخيالٍ سرياليّ مخمور، خلع العالم عن فروة رأسه، وذهب في رحلته الطويلة؛ من أجل إحداث هزّات جماليّة في لاوَعْيه، في لاوعي القارئ، وفي لاوعي العالم... هل توافقني الرأي، في أنّك لا تودّ البحث عن أكثر من بُعْد اللغة التزيينيّ، داخل المفارقات الجماليّة؟

أنيس: بالطبع تهمّني اللغة، وأعتقد أنّني أنتبه لها، أكثر من أيّ أجزاء القصيدة الأخرى، لكنّها ليست مجرّد محاولات لتزيين النصّ بكلّ تأكيد، بل هي لبّ وأساس. يبدأ الشاعر باكتشاف الشعر ثمّ يسعى إلى خلق القصيدة. إنّه عمليًّا يشبه البناء، من هناك تبدأ المفردة، من قاعدة اللغة وقاعها، وهي طريق التغيير الأوّل، الّذي يتطلّبه الشعر، حيث تقف ذاتك، في تحدّ مع مشارب مختلفة، بعيدًا عن الرفاهية والاستسهال المكرور؛ لأنّه، وعند كتابة الشعر، ثمّة مفردات وتعابير قديمة، لا بدّ من نبذها، وإدخال مفردات جديدة؛ أي الغوص في متاهات لغويّة أخرى، وهي الطريق لخلق التعبير الجديد كما أرى، وإحدى غايات هذا الأمر، غاية رؤية العالم وتعقيداته، ذلك التعقيد الّذي ينجح أغلبنا في تجاهله، إذ إنّه من هناك يمكن معرفة الأثر الّذي ترغب في إحداثه. تستطيع رمي هذا القالب في بهو التجربة إن لم توافقني، وهو حدث لا بدّ من أن يمرّ به الشاعر، الّذي يقف مواجهًا العالم.

 

في أحد لقاءات نادي القراءة - غزّة

 

فُسْحَة: أشار الصربيّ تشارلز سيميك، في رائعته "أرقّ الفنادق"، إلى أنّ كتابة قصيدة نثر، كمحاولة الإمساك بذبابة في غرفة معتمة، ورغم ذلك، لِمَ تحاول؟ ما فتنة مهمّة كهذه، تبدو خرقاء في الظاهر؟

أنيس: إنّني أتّفق معك، حول كونها فتنة، وأنا مفتون بها حتّى آخري، ربّما هذا هو السبب الأكبر. أمّا ما يشير إليه الشاعر سيميك، وما يثيره سؤالك، فقد أختلف معكم به في جانبين؛ لأنّني أوّلًا لا أجد هذه الفكرة تنطبق على قصيدة النثر فحسب، باعتبارها صنعة صعبة، إنّما على الأشكال الأدبيّة كافّة، أمّا ثانيًا فما متعة الكتابة إن لم تكن الإخفاق والمحو وتمزيق الورق؟ إنّ الكتابة حالات النزق الشديد، وما ينتج عنها، وهي متعة تُبرز الاشتغال والجدّ، وهو ما يبقى، وتمحو الفتات والهذر إلى زوال. أستطيع القول لك إنّني وسط هذه الغرفة المعتمة، لم أجد أقرب إليّ من قصيدة النثر، إنّها التعبير الأمثل إليّ، وقد يكون الآن فقط، أمّا بعامّة، فإنّ ما يعطيه النثر، هو أكبر كثيرًا من الأشكال الأخرى، وهذا رأيي الخاصّ.

 

فُسْحَة: فكرة الجوائز الأدبيّة، صديق غادِر أم عدوّ جيّد، بالنسبة إلى شاعر يكتب، من أجل الشعر وحده؟

أنيس: لا يمكن شاعرًا حقيقيًّا أن يقبل بامتنان غبطة الجائزة مهما كانت، بل عليه أن يتجاوز باستمرار محدوديّة مسيرتها؛ لأنّ ثمّة دائمًا ما هو أعلى قيمة وأكثر شأنًا؛ إنّه الجزء الخاصّ بأصالة كلّ كاتب، مهما كتب ولأيّ سبب، وهو بالنسبة إليّ محدّد أساسيّ لعلاقة الكاتب بالكتابة، والعكس. إنّ صوت الشاعر مرهون لعالم مغاير، عن صخب مشاع، أو حدث عامّ... إنّه بالتأكيد ليس صوتًا للركض واللهاث نحو الظهور، وهو أكثر ثيمات الجائزة الأدبيّة، بل هو الاختفاء خجلًا، لست أعني أنّي ضدّ وجود مثل هذه الجوائز، ولا أعني أنّي أنبذ الحاصلين على جوائز وأنتقدهم؛ فهي تشكّل جزءًا مهمًّا، من عمل ثقافيّ فعليّ.

 

في أمسية من تنظيم "مركز غزّة للثقافة والفنون"

 

أودّ الإشارة إليه، انتباهة الشاعر، بعد حصوله على جائزة أدبيّة ما؛ لأنّ ابتسامة خافتة لا يمكن البناء عليها، وهي مزيّفة وباطلة عند الشعر.

 

فُسْحَة: أين تضع غزّة كمدينة المتناقضات – إن صحّ الوصف - في سياق تجربتك الشعريّة؟

أنيس: ربّما لم أكتب عن غزّة الكثير، لكنّها حاضرة في كلّ كلمة بائسة قلتها، وفي كلّ رجاءٍ تألف، وفي كلّ خيبة أمل، أقول: "إنّها مثل لعنة لا يمكن شطبها، ومع ذلك هي أشبه بقصّة حبّ لا تُمحى، لا يمكنني التنكّر لها، إنّني عالق بهالتها، وأستطيع القول إنّني - حتّى الآن - ابنها العاقّ، لكنّه الّذي يضمّها بذراعيه، رغمًا عن ذلك.

إنّها للأسف مدينة المأساة، وهي ضحيّة كلّ وقت، وثمّة مَنْ يظنّ أنّها مادّة دسمة للشعر، بافتراض المقولة الشائعة، حول أنّ الإبداع ابن المعاناة، إنّ المحدّثين بها مخطئون في رأيي؛ إنّ الإبداع وليد الحرّيّة فقط، عندما يجد الشاعر نفسه حرًّا، يستطيع الوصول إلى أقصى طاقة خلّاقة، ويمكنه عندئذٍ أن يفكّ قيود التبعيّة؛ تبعيّته لذاته وللعالم، وأن يتبع صوت الشعر فقط، في أعلاه وجوهره.

 

 

هشام أبو عساكر

 

 

شاعر فلسطينيّ يقيم في تركيا.

 

 

 

 

 

التعليقات