19/11/2018 - 09:31

تيشاني دوشي: العقد الموقّع مع الشعر أبديّ، وغير قابل للتفاوض

تيشاني دوشي: العقد الموقّع مع الشعر أبديّ، وغير قابل للتفاوض

تيشاني دوشي | لوكا بيروزي

 

على الرغم من الهدوء الّذي يحيط بيتها، الساحليّ المعزول الواقع بين قريتَي صيّادين، في تامل نادو جنوب الهند، يَضِجّ شعرها!

تيشاني دوشي، الشاعرة الحائزة على عدد من الجوائز، مثل "مسابقة الهند للشعر"، و"جائزة إريك غريغوري" للشعر، ثمّ الراقصة الّتي حالفها الحظّ فتتلمذت على يد أسطورة الرقص الهنديّة Chandralekha، تكتب من قلق لا يتوقّف.

نرى ذلك في خياراتها الفنّيّة والجماليّة في شكل القصيدة، وفي إيقاعاتها ومناخاتها المتبدّلة، ثمّ في الذهاب إلى السرد، نراه في المواضيع الّتي تشغلها. هي لا توفّر على القارئ شيئًا، فسواء أصفعته أم فضحته أم حاورته أم جارته؛ فسيكون ذلك من خلال قنوات مباشرة ودون مواربات في المعنى، ربّما في اللغة! فتكون من خلال هذا الفعل مع القارئ، قد شكّلت لغة نحو جمهور أوسع، قد يكون البشريّة وقد يكون هي، فتكتب عن الذاكرة والحبّ والعنف والألم.

 

 

في القصيدة الّتي تستهلّ بها مجموعتها الشعريّة الأخيرة "الفتيات يخرجن من الغابات Girls are coming out of the woods"، والّتي تحمل عنوان "عقد"، تقول: "عزيزي القارئ، أوافق على قلب جلديّ، على اختراع الكلمات المفقودة من جديد، على السرقة، على أيّ شيء يتوجّب عليّ فعله؛ من أجل أن أحرق رئتيك". يبدو هذا الاستهلال صراحة معلنة بأنّ الشعر لا يجمّل شيئًا، وبأنّه خُلق ليذكّرنا كم أنّنا لسنا "إنسانيّين" كما نظنّ؛ ولا سيّما في بلد مثل الهند؛ حيث يُعَدّ البلد الأكثر خطورة على النساء في العالم.

أجرت فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة هذا الحوار مع الشاعرة.

 

فُسْحَة: تطرّقت مجموعتك الأخيرة إلى موضوع العنف ضدّ النساء؛ بأيّ أدوات أو سُبل، يستطيع الشعر أن يتناول ثيمة تُعَدّ عامّة أو سياسيّة، في الوقت الّذي يبحث الشعر فيها عن الصوت الشخصيّ للشاعر؟ بمعنًى آخر، هل تشعرين بأنّ قضيّة العنف ضدّ النساء مسألة شخصيّة؟

تيشاني: بلا أدنى شكّ، أعدّها ثيمة شخصيّة؛ كيف لا تكون شخصيّة إن كنتِ امرأة تعيش في الهند؟ حسب إحصاءات قامت بها "جمعيّة توماس رويترز"؛ فقد أُدرجت الهند الدولة الأكثر خطورة على النساء في العالم، حتّى لو وضعتِ هذا الإحصاء جانبًا؛ فالاغتصاب، وقذف مادّة الأسيد على الأجساد، وقتل النساء بعد التنكيل بهنّ أو اغتصابهنّ، والاتّجار بهنّ! يكفي أن نتذكّر أنّنا نعاني عدم توازن بين عدد النساء والرجال في المجتمع؛ فالمجتمع يحتفل بالمولود الذكر، ويجهض الجنين الأنثى؛ بهذه الطريقة أخفينا ملايين الفتيات؛ وهذا يعني أنّ فرصة الولادة معدومة منذ البداية. أن تعيش هنا يعني أن تفهم الانفصام العظيم في الهند؛ فمن جهة، ثمّة اعتقاد عميق في مكانة الأنثى؛ فكلّ شيء حيّ خرج منها، ثمّ توجد عبادة الآلهة "يوني" والآلهة الأخرى، واعتبارهنّ أساس الحياة وفوق كلّ شيء، ومن جهة أخرى، يجثم الواقع في الشوارع والبيوت؛ يكفي أن تمشي هنا حتّى تشعر بهذا التناقض، إنّه أمر غريب ومرعب! وأعتقد أنّه يشكّل محرّكًا للكثير من كتاباتي.

 

غلاف كتاب "الفتيات يخرجن من الغابات"

 

كان لديّ صديقة قُتلت في شقّتها، أسمع يوميًّا أخبارًا عن عنف فظيع ضدّ النساء، من المستحيل ألّا أفكّر في هذا الموضوع. عندما تمشين في الشارع، تلاحظين أنّك تتفقّدين أو تحسبين الحالة؛ أيّ مخاطر محدقة! إنّه أمر في غاية الشخصيّة، ويصير بصورة طبيعيّة شأنًا سياسيًّا أيضًا.

 

فُسْحَة: هل واجهتِ أيّ صراعات تتعلّق بالشكل الأدبيّ، عند كتابة "الفتيات يخرجن من الغابات"؟ هل فكّرتِ برواية مثلًا؟ فأنت روائيّة أيضًا، ومن السهل عليك أن تنجذبي إلى السرد.

تيشاني: روايتي "ليال ونهارات صغيرة"، الّتي ستُنشر في "بلومزبيري" في ربيع 2019، تتناول موضوع العنف ضدّ النساء أيضًا. إنّها قصّة امرأة تشقّ طريقها في الحياة وحيدة، في منطقة ريفيّة في الهند، وتتفاوض مع مخاوفها الحقيقيّة والخياليّة. حتمًا يختلف التوجّه عند كتابة السرد، لكن للمفارقة؛ لم أبدأ كتابة هذه الرواية تحت هذه الثيمة بالذات، بل بدأ كتابًا يطرح أسئلة عن الحرّيّة مقابل الالتزام.

تحكي الرواية قصّة امرأة تكتشف، فقط بعد موت والدتها، أنّ لديها أختًا في مشفى الأمراض العقليّة، ثمّ تحاول أن تجد طريقًا للتعامل مع الأمر. احتاجت عمليّة الكتابة منّي إلى صناعة بعض القرارات؛ فقرّرتُ مثلًا أن تدور القصّة في المنطقة الجغرافيّة الّتي أعيش فيها، وهي قرية ساحليّة جميلة جدًّا في تامل نادو، لكنّها هي الأخرى ذات خلفيّة تاريخيّة خطيرة. فوجدت أنّني قد أكتب قصّة جيّدة. 

 

فُسْحَة: الكثير من قصائدك يمهّد لنا طرقًا مباشرة تفضي إلى الألم والوحدة والمعاناة؛ هل تعتقدين أنّ عليك -  كونك شاعرة - أن تعيشي هذا الألم بصورة عميقة حتّى تتمكّني من الكتابة عنه؟

تيشاني: أعتقد أنّ الكتّاب أشخاص حسّاسون للغاية؛ نحن نجعل دواخلنا مكشوفة لكلّ شيء؛ كلّ ما نرى وما نقرأ وما نسمع. ما يحدث - في رأيي - في عمليّة كتابة الشعر، هو ترجمة كلّ هذا الألم والوحدة والمعاناة وغيرها من المشاعر المتطرّفة، والقصف الّذي تصوّبه الحياة نحونا، إلى شيء بإمكاننا أن نمسك به. لا أرى أنّ الكتابة عن المعاناة ستجعلها تصبح خارج الجسد؛ وعلى ذاك فالكتابة ليست علاجيّة، لكنّها تتيح المجال لإحداث فعل، وللتعامل مع جميع هذه المشاعر، وهذا شيء كبير.  

 

 

فُسْحَة: ماذا يمنح الرقص والشعر بعضهما بعضًا؟

تيشاني: الرقص منح الشعر الإحساس بالوقت والإيقاع والتأنّي، منحه شعورًا بالانضباط، وبأنّ عليك أن تستيقظ كلّ يوم لتعمل، سواء أردت أو لم ترد. الرقص علّمني الشجاعة؛ فأن تخطو على مسرح معتم، وأن تضع بطنك فوق أرضيّة خشبيّة؛ لتؤدّي عرضك أمام غرباء تحت الأضواء، ليس هذا بالأمر السهل، وليس من السهل أن تقول قصيدة كذلك؛ فهي أيضًا تتطلّب الجسارة والضعف. أمّا ما يمنحه الشعر للرقص فهو أعصى على الوصف؛ فهو يسكن الجسد كما يفعل الرقص، لكن كيف لي أن أشرح ذلك؟ إنّه يمكّنني من الرؤية، وهذه الرؤية تشكّل الحركة، وأن ترى - وأنت شاعر - يعني أن تمتلك رؤية محدّدة، أقصد بالتأكيد الرؤية بمفهومها الكونيّ، وليس من خلال العينين، هذه الرؤية تجد طريقها إلى الجسد، ثمّ الحركة.

 

فُسْحَة: الهند حاضرة بقوّة في قصائدك؛ من أيّ نواحٍ تنشغلين بها؟ حضارةً؟ وجغرافيا؟ وتاريخًا؟ وتاريخًا شخصيًّا؟

تيشاني: الهند في الكتابة هديّة وضرورة في الوقت نفسه، هي حيث أكون الغريبة الدائمة. أشعر بأنّي أخطو فيها بصورة غريبة؛ قدم في الداخل وأخرى في الخارج. إنّ تجربتي الشخصيّة - وكلّ ما يتعلّق بتاريخ العائلة وذاكرتها - كانت خارج الصورة النمطيّة بسبب تراثي المختلط، وهذا ما يجعلني أعاني قليلًا ارتباكًا تجاه الأصلانيّة، سواء أدينيّة كانت أم لغويّة أم تقليديّة. كلّ هذه المفاهيم لم تكن جزءًا من الأرضيّة الّتي نشأت فيها، لكن عندما كبرت، صنعت اكتشافاتي الشخصيّة.

إنّ أحد الأمور العظيمة في كونك كاتبًا، أن تصنع "أصلك" الشخصيّ، فبينما تشكّل الهند إليّ مركزًا لحياتي؛ والجغرافيا الّتي قضيت فيها الجزء الأكبر من حياتي، إلّا أنّني أشعر بانفتاح على أصوات وثقافات أخرى، وبالنسبة إلى الهنود، ليس لديّ تعريف محدّد. أنا أسعى إلى أن أجد حياتي هناك، أن أكون مقبولة هناك، لكن ما دمت شخصًا يشاهد الأحداث من الخارج على الدوام؛ فأنا أعي الأبواب الّتي تقودني من هنا؛ يصير المكان عندئذٍ مكانًا للعودة، إنّه الأمر الثابت الوحيد الّذي أستطيع قوله عن الهند. في الحالات الّتي أبتعد فيها عن الهند فترة زمنيّة طويلة، أشعر بنوع من المرض المرتبط بالبيت والشوق.

 

فُسْحَة: عندما تبدئين كتابة مجموعة جديدة؛ ما الأسئلة الّتي تشغل بالك؟ أسئلة الشكل؟ أسئلة المحتوى؟ الإيقاع؟ وهل تسعين - ولو بطريقة لاشعوريّة - إلى الوصول إلى نتائج جديدة عبر تغيير طقوس الكتابة، طرائق فيها، وتيرة الإنتاج؟

تيشاني: نادرًا ما أفكّر في مجموعة جديدة، تحت موضوع أو ثيمة شاملة. عادةً تأتي القصائد فرادى، وبعد عدد من السنوات، أكون قد أدركت أنّ هذه الثيمة أو تلك تشغلني فعلًا، إنّ أكثر الأشياء الّتي تصنع تحدّيًا عند الشاعر أن يجد صوته.

 

 

عند إنجاز أيّ مجموعة؛ أشعر بأنّ ثمّة نوعًا من فقدان الجلد، أمر يشبه تجدّد خلايا أجسادنا كلّ بضعة أعوام. تمنحك عمليّة السلخ هذه صوتًا أقرب إلى ذاتك. هكذا، أبحث في القصائد الّتي ستشكّل لاحقًا مجموعة كاملة، أبحث عن وحدة لهذا الصوت. 

 

فُسْحَة: لقد وقّعت، في إحدى قصائدك، عقدًا مع القارئ، وضعتِ فيه أمامه مفاتيح أو نصائح يتبنّاها عند قراءة شعرك؛ هل لديك عقد مع الشعر أيضًا، سواء أثابتًا كان أم متحوّلًا؟

تيشاني: العقد الّذي نوقّعه مع الشعر دائم التقلّب، وهو خارج الزمن كذلك. بالنسبة إلى هؤلاء الملتزمين تجاه الشعر، ثمّة مطلب يصنعونه ويتقبّلونه كما هو؛ وهو هذا الشيء الخارق القوّة، الّذي يستنزفك ويجعل حياتك غاية في الصعوبة، هو نفسه الشيء الّذي يقدّم لك إيمانًا، بأنّك تصنع ما تحبّ، وقوّةً ليس بإمكان أحد تخيّلها؛ ذلك لأنّك قادر على الإبداع، وعلى خلق الموسيقى والحركة للكلمات.

مؤكّد ثمّة شعراء يهجرون الشعر، مثل رامبو، لكنّهم قلائل؛ فعادةً، عندما نتورّط في الشعر، يكون الأمر أبديًّا، وهذا العقد غير قابل للتفاوض.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها مجموعتان شعريّتان، "ليوا" (2010)، الحاصلة على جائزة الكاتب الشابّ - حقل الشعر، من مؤسّسة عبد المحسن القطّان، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة، مثل الإنجليزيّة والألمانيّة والفارسيّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. كما تعمل كاتبة مقالات ومديرة فنّيّة لمتجر فتّوش للكتب والفنون، وبار وجاليري فتّوش. 

 

 

التعليقات