24/04/2019 - 15:41

البرد

البرد

إلياس نيقولا - مؤدّي هذا النصّ في عرض "قصص من الحزن العامّ"

 

"قوم نزِّل الدفّاي عن السدّة." بتقوليلي...

بلاط البيت بلمع. ولا ذرّة غبرة. مرّات بمدّ أصابعي ألمس البُرداي بسّ عشان اتأكّد إنها بعدها بتقدر تتحرّك. مرّات بحضنها، بمدّ إيدي من وراها، طراف أصابعي بتلمس القماش وبتمشي على تموّجاته، بتطلع وبتفوت في قلب طيّات البرداي. مرّات الشرايين الزرقا الطالعة على ظهر إيدي بتلمس قزاز الشبّاك إلّي ورا البرداي. بنقز.

"قوم نزِّل الدفّاي عن السدّة." عم بتقول.

مرّات بشتاق أمشي بالبيت حافي. بشتاق أمشي للحمّام بَلا مَ يطلع مع كلّ خطوة فحيح الحفّاي ع الأرض مثل اللّي جارر عُمُر طويل وثقيل وعنيد. مرّات بفيق من النوم، بمشي للمطبخ، بمسك إيد البرّاد، وبخاف. بطّل في على البرّاد إشي غير مغناطيسات المواسرجيّة ودكاترة الاسنان ومحلّات البيتسا اللّي سكّرت. الاولاد أخذوا رسماتهن يورجوها لَوْلادهن. أخذوا منّي صُوَري، أحسن مَ يِشتاقولي. حتّى المغنطيسات اللّي جابوهن ذكرى من روما وباريس وبلجيكا ورودوس – أخذوهن ذكرى من البيت.

صار في صوت للبيت. زمان كان صوتك. كان صوتي. كان صوت الأخبار. كان صوت التلفون. كان صوت الفناجين اللّي جبناهن من نابلس يتكسّروا بالجلي. كنت أسمع صوت الدُشّ من برّا الحمّام وانت جوّا، وأوقّف جنب الباب. كنت أسمع شو لولاد بسمعوا بغرفتهن وأسأل لمين طالعين. كنت أسمع الأسئلة اللّي بتسأليني ايّاها، وأسمع جواب واحد بفلت من تمّي، جواب واحد بسّ من بين خمسين جواب عم بسمعهن براسي بَلا مَ وَلا مرّة أقدر أجاوبك ايّاهن. كانت تهرب منّي الأجوبة اللّي مأقدرش أخمدها. جوابي كان دايمًا عدوّي. كنت أسمع صوتي غريب لما أجاوب. أتعاطف مع سؤالك، أكرهني. قوم نزِّل الدفّاي. صار في صوت للبيت.

صار في صوت للمكتبة. صوت لمنديل أبيض مطرّز بألوان علقان بين سْكَمْلِة خشب مُملّة وتلفون خطّ. تلفون بيت. صار في صوت لساعة الحيط. في صوت للبرواز. في صوت لغلن الزيت اللّي قرّب يصير أعجز من الشجرة. في صوت للبرّاد – صوت وحش بتجشّأ فراغ الثلج. ومضلّش من اللّي راح غير أصوات الأجوبة براسي. حتّى أسئلتك بطّلت أقدر أسمعها بذاكرتي. بسّ الأجوبة؟

الأجوبة اللّي ضلّت براسي كلّ الوقت بسمعها. بعدها بتضرب بنفس السرعة وبنفس العاصفة وولا مرّة خفّت، كأنها كلّ لحظة عم تزعق نفسها الأوّل. الأجوبة اللّي قلتها بصوت عالي لأ. الأجوبة اللّي انتِ سمعتيها، راحت معِكْ. نسيت شو كانت، بعرفش شو صارت. بسّ بعدني عم بسمع كلشي مقدرتش أقوله.

"قوم نزِّل الدفاي عن السدّة"؟ بدّيش، بخاف!

بخاف من العتمة اللّي فوق. بخاف من العتمة عمومًا. بخلّي ضوّ الحمّام باللّيل مضوي. بعرفش شو بدّه يساعدني الضوّ لمّا يصير عليّ إشي بسّ بضويه. علأقل متكونش آخر لحظة بشوفها قبل مَ أغرق بعتمة – عتمة. بخاف أطلع ع محلّ صغير ومعتّم ومسكّر، بخاف من ريحة الزمن لمعبّقة فوق. بدّيش أطلع ع السدّة. بدّيش أشوف كلّ الأشياء اللّي فكّرنا إنّه راح نرجع نستعملها. كلّ الأشياء اللّي استخسرنا نزتّها وقلنا "خلّيها... بكرا منحتاجها"، وولا مرّة أجا بكرا. بخاف من كمّامات الحرب اللّي رُحنا عن بالها. بخاف من كوام كوابل الكهربا المشربكة اللّي ولا مرّة بذكر إنّي بحبشت فيها ولاقيت اللّي بدّي ايّاه. بخاف أمسك كابل من الكوابل وأشدّه من الطرفين؛ أشدّه وأفكّر إذا ممكن يحمل جسمي وأنا معلّق.

بخاف من صندوق العدّة اللّي كنت أضلّ أجرّب أستعمله مكابرة، قبل مَ تقوليلي: "خلص، اتّصل بالصنايعي". بخاف من الاوراق المرميّة من أيّام الجامعة. بخاف من الكراتين اللّي كلّ واحد منّا جابها من شقّته أوّل مَ سكنّا مع بعض. كراتين ولا مرّة استرجينا نفتحها. بخاف تلبسني الأواعي اللّي بطّلت ألوانها تيجي ع قدّي. وبخاف من الدفّاي. يمكن عالقة فيها فتافيت خبز بعدها متحمّصتش؟ قشر كستنا بعده منحرقش؟ بخاف أضويها وتفحّ بالبيت ريحة آخر فتافيت الماضي وهي عم تحترق. بخاف أمدّ إيديي فوق قضبان كهربا مولّعة. بخاف من ورا البرداي الساكنة، تتغطّى الشبابيك بطبقة بخار. بخاف يِدفى البيت. بخاف أرجع أشلح الحفّاي. بخاف أرجع أفتح الأخبار. أشتري بردقان. أدوّر بالرفوف ع كتاب لبودلير.

بخاف ترجعي تفتحي باب غرفة النوم بنصّ الليل، اتطلّي عليّ وانا قاعد بعتمة المطبخ، وتسأليني سؤال. بخاف بعد كلّ هالطريق، يرجع سؤال واحد، يفجّر كلّ الأجوبة اللّي حبستها براسي عنّك. بخاف أتذكّر الليلة اللّي كانوا في ثلاث قضبان الدفّاي عَمْ يضوو وجهي بنصّ عتمة المطبخ، لمّا قمتِ وسألتيني بكلّ صراحة ووضوح، السؤال اللّي ولا مرّة قدرتِ تسأليني ايّاه. السؤال اللّي أنا، ولا مرّة، قدرت أجاوب عليه.

قوم نزِّل الدفّاي؟ بخاف. وبدل الخوف الحامي العنيف، صرت لمّا أقوم بنصّ الليل وأقعد عَ طاولة المطبخ. صرت أفتح البرّاد. ويطلع من قلبه ضوّ يضوّي وجهي. ضوّ مثلّج، بتدفّق زيّ ميّة نهر نازلة من جبل الشيخ. بغمّض. بوسّعله جفوني يهدّي عليهن. وبضلّ مغمّض، على باب قبر أبيض واقف محلّه... من قبل مَ نسكن، بهذا البيت.

 

** هذا النصّ جزء من عرض أدبيّ بصريّ بعنوان: "قصص من الحزن العامّ"، من إنتاج "مسرح خشبة"، تنفرد فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة بنشره.

 

 

مجد كيّال

 

 

صحافيّ وروائيّ. وُلد في حيفا عام 1990 لعائلة مهجّرة من قرية البروة. صدرت له رواية "مأساة السيّد مطر" عن الدار الأهليّة، ودراسة "كيف يتغيّر النظام الصهيونيّ؟" عن مركز "مسارات".

 

 

 

 

التعليقات