10/04/2020 - 17:03

علاء حليحل: الأطفال قرّاء خطيرون، وأدبهم صنعة منهكة

علاء حليحل: الأطفال قرّاء خطيرون، وأدبهم صنعة منهكة

علاء حليحل، مدير "دفيئة حكايا"

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

كشفت لي تجربتي في بيع الكتب أنّ كتب الأطفال رائجة أضعاف رواج كتب الكبار؛ يُتابع الأهل آخر الإصدارات، وينزعجون لنفاد نسخ هذا الكتاب أو ذاك. قد يبدو ذلك بَدَهيًّا حين يفكّر الآباء والأمّهات في أنّهم يريدون الأفضل لأطفالهم، يريدون تثقيفهم وتربيتهم على وجه ربّما هو أفضل من ذاك الّذي مرّوا به، بينما تذهب بهم الحياة إلى حيث الانشغال والكدّ، وضيق الوقت الّذي يمنع عن معظمهم ممارسة القراءة فعلًا يوميًّا.

"دفيئة حكايا" دار نشر تنشط في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، تنشغل في أدب الأطفال والفتيان وثقافتهم، أطلقت الشهر الماضي متجرًا إلكترونيًّا يوفّر إصداراتها أمام هاتين الشريحتين. لا تأتي مساعي هذه الدار من أجل سدّ الهوّة الضخمة في صناعة الكتاب من ألفها إلى يائها، إنّما من أجل محاربة آفة التزوير أيضًا. بالنسبة إلى القائمين على المشروع، قد لا يعني هذا الرواج آنف الذكر أنّ الطفل سيستمرّ على هذا الدرب، درب القراءة. هل سيصمد في وجه الإغراءات البصريّة والصوتيّة الإلكترونيّة حين يصير فتًى؟ هل سيستمرّ بالقراءة حين لن يرى "مَثَله الأعلى"، أمّه أو أباه، يقرآن؟ وكيف يمكن المداميك الّتي تضعها "دفيئة حكايا" وغيرها من المشاريع، أن تؤسّس لعمران قرائيّ متين في زمن الاستهلاك؟ ولا سيّما أنّ "الدفيئة" تطمع في تعزيز القراءة عند الأطفال والفتيان، لا في توفير الكتاب فحسب.

من أجل الإجابة عن بعض هذه الأسئلة، وتعرُّف متجر "حكايا"، حاورنا في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مدير "دفيئة حكايا"، الكاتب علاء حليحل.

 

فُسْحَة: كيف جاءت فكرة إقامة متجر "دفيئة حكايا"؟ وكيف يسير التفاعل معه حتّى الآن؟

علاء: جاءت الفكرة من جهتين؛ الأولى وضعيّة سوق بيع الكتب في أراضي 48، وانعدام وجود شبكات متاجر منظّمة وفاعلة كما يجب. وفي المقابل، الغالبيّة العظمى من الناس تشتري الكثير من الأغراض والاحتياجات عبر الإنترنت، ورأينا أنّ توفير إمكانيّة شراء كتب "الدفيئة" عن طريق متجر إنترنت، يمكن أن يلائم الكثير من الأهالي الّذين يبحثون عن كتب نوعيّة لا تتوفّر بشكل مُرْضٍ في أرجاء البلد. نحن نلقى إقبالًا ممتازًا، خفّ في الأيّام الأخيرة للأسف بسبب أزمة الكورونا، لكنّنا سنستمرّ بالمشروع قُدُمًا وسنطوّره، ولا سيّما أنّنا مؤسّسة غير ربحيّة، والهدف توفير الكتب بسعر رخيص جدًّا لمَنْ يرغب.

 

"القراءة والأطفال في العصر الرقميّ"، ورشة من تنظيم الدفيئة

 

فُسْحَة: تعمل "دفيئة حكايا" على إنتاج أدب الأطفال لا على بيعه فحسب؛ كيف تُقيّم جودة الإنتاج ومستواه حتّى الآن؟ وأين تضعه في خريطة ما يُنْتَج عربيًّا وعالميًّا؟

علاء: نحن لا نحبّ أن نحكم على عملنا بأنفسنا. الردود على الكتب الّتي نُصدرها ممتازة ومشجّعة للغاية، من الأهالي ومن أهل الاختصاص وأطقم التدريس والتربية، وأعتقد أنّ الناس القارئة عمومًا ذكيّة ودقيقة الملاحظة، ويمكنها تمييز الكتب النوعيّة حتّى في غياب معرفة بالمعايير المهنيّة الصارمة. قياسًا بالعالم العربيّ، نحن في وضعيّة جيّدة في رأيي، وطموحنا أن نستمرّ بمرافقة الخرّيجات والخرّيجين في ورشات الكتابة والرسم، الّتي ننظّمها لدعم تطوّرهم أكثر وأكثر. هذا العام مثلًا، سنعزّز عمل طلّابنا وخرّيجينا ضمن مسارات دراسة متقدّمة، ولن نجنّد أفواج طلّاب جددًا، كي يتسنّى لنا تخصيص كلّ الموارد اللازمة لمرافقتهم في المشاريع الّتي يعملون عليها.

 

فُسْحَة: كيف تُختار النصوص العربيّة أو المترجمة؟ هل ثمّة دراسة سابقة للثيمات المطلوبة؟ إلامَ تميل ذائقتكم؟ وماذا ترفض؟

علاء: كلّ عامَين، لدينا لجنة كتب جديدة، وأعضاؤها متنوّعون؛ بعضهم أكاديميّون، وبعضهم عاملون في الحقل، وبعضهم كتّاب ورسّامون. نحن لا نفرض ثيمات أو مواضيع، ونستقبل كلّ المخطوطات المخصّصة للأطفال من جيل 4 سنوات حتّى أدب الفتيان. تهمّنا في النهاية جودة النصّ وتميّزه وقدرته على إقامة تواصل حسّيّ ومعرفيّ مع الأطفال، ونفضّل كثيرًا النصوص الّتي تحمل المتعة والفائدة من دون نهج تربويّ أو تلقينيّ. نحن نؤمن بأنّ الكتاب الجيّد للطفل يكون تربويًّا إذا حقّق المتعة وخاطب الطفل "على مستوى النظر"، لا من زاوية التلقين والتعليم والتهذيب.

 

فُسْحَة: من خلال مشاهداتنا، ومن خلال تجربتي في بيع الكتب، نلحظ رواجًا لكتب الأطفال أكثر من كتب الكبار؛ فهل يمكن القول إنّ ذلك يعود إلى رغبة الآباء والأمّهات في إعطاء أولادهم هذه الثقافة/ المتعة، وسرعان ما تتبدّد هذه الرغبة ليصير الطفل فتًى لا يقرأ؟

علاء: صحيح جدًّا. أنا دائمًا أقول، بخليط من المزاح والجدّ، إنّ الأهل ينقسمون إلى نوعين: الأهل القارئون الّذين يريدون أن يصبح أولادهم قرّاءً أيضًا، وهؤلاء القلّة، أمّا الأغلبيّة فهم أناس تركوا القراءة جزئيًّا أو كلّيًّا، ويريدون أن يزرعوا هذه العادة في أطفالهم تعويضًا عن ذلك. قد يكون الشعور بالذنب لدى الأهالي، لأنّهم منغمسون في هواتفهم طيلة الوقت، قد يكون المحرّك الأبرز من وراء كمّيّات كتب الأطفال الهائلة الّتي تُباع. وطبعًا، ثمّة نسبة من الأهالي تحبّ الكتب حقًّا، ويرون فيها وسيلة تواصل وحوار مع أطفالهم.

 

فُسْحَة: تعزيز أهمّيّة القراءة لدى الأطفال أحد أهداف مشروعكم؛ كيف يُحقَّق هذا الهدف؟

علاء: نحاول من خلال موقع "حكايا"، أن نوفّر للأهل وأصحاب الاختصاص أدوات القراءة والتحليل لأدب الأطفال وثقافتهم. نحن نؤمن بأنّ تفتيح عيون الأهل على جوانب معيّنة من كتابٍ ما، يمنحهم القدرة على تحبيب الطفل بالكتاب، والتعامل معه بصفته عالمًا غنيًّا يمكن أن يوفّر للطفل - ولأهله أيضًا - فرصة ذهبيّة لفهم العالم أكثر. نحن نؤمن حقًّا بأنّ توفير كتب نوعيّة، كُتبت ورُسمت بعناية فائقة، سيزيد من حبّ الأطفال للكتب ومن ثَمّ للقراءة. الطفل كائن شديد الذكاء وشديد الصراحة؛ يمكن البالغين أن يُجْبِروا أنفسهم على قراءة رواية أو مشاهدة فيلم لا يحبّونه كثيرًا، لكنّ الطفل لن يطلب قراءة كتاب مرّة أخرى لو لم يعجبه؛ ولذلك فهُم جمهور حازم وخطير. وللأسف، الكثير من الناشطين في هذا المجال لا يهتمّون بهذه النقطة كما يجب.

المشاركون في اختتام برنامج الدفيئة لعام 2018 - القدس

 

فُسْحَة: أذكر أنّ الكثير من الأمّهات والآباء يجفلون من نصوص تتطرّق إلى مواضيع قد تثير "الخوف" عند الأطفال، كالحرب أو الغول أو أمور أخرى... بينما يتعرّض الطفل لمضامين قاسية عبر الإنترنت والتلفاز؛ كيف ترى هذه المسألة؟ وكيف من الممكن توعية الطفل حول ما يدور حوله وحمايته في آن؟

علاء: في هذا السياق، أتذكّر اقتباسًا لموريس سينداك، الّذي ألّف أحد أشهر كتب الأطفال في القرن العشرين، "بلاد الكائنات المتوحّشة - Where The Wild Things Are". سألوه لماذا يكتب ويرسم كتبًا فيها عناصر خوف ووحوش وما شابه؛ فأجاب: "الأطفال يعرفون كلّ شيء عن الخوف والأمور المخيفة، لكنّهم لا يخبروننا بذلك خوفًا علينا من الخوف". حتّى لو كان هذا الاقتباس مبالغًا فيه بعض الشيء، إلّا أنّه يحمل نواة لحقيقة كبيرة يجب أن نتذكّرها: الأطفال أذكياء وحسّاسون، وهم يُدركون إلى حدّ بعيد ما يدور من حولهم؛ لذلك علينا ألّا نخاف من طرح مواضيع قد تخيفهم أو تزعزع شعورهم بالأمان، مثل الموت والفراق وانفصال الأهل، والتحرّشات الجنسيّة، وغيرها. يظلّ السؤال الأهمّ: كيف نفعل ذلك؟ والحقيقة أنّ الأمثلة الجيّدة على معالجة مواضيع مخيفة كهذه في كتب للأطفال ليست كثيرة؛ أذكر هنا مثلًا كتاب "أرنوبيّة"، تأليف ورسومات جو إمبسون، الّذي صدر مترجمًا إلى العربيّة لدى مشروع "مكتبة الفانوس"، وهو أحد أفضل الكتب على الإطلاق، في التحدّث عن الموت من دون ذكر الموت. ثمّ كتاب "الثعلب أبو البطّات"، تأليف يوليا فريزة ورسومات كريستان دورا، الّذي يحكي قصّة ثعلب جائع يرغب في التهام البطّ، لكنّه يجد نفسه نهاية الكتاب قد صار جَدًّا لسرب كبير من البطّ، الّذي يرى فيه أبًا وجَدًّا. وعن "الفانوس" صدر أيضًا كتاب "الحقيبة"، نصّ ورسوم كريس نيلور بَليسْتِروس، الّذي يطرح مسألة اللجوء بشكل ذكيّ وحسّاس. مرّة أخرى، ليست المواضيع نفسها ما يخيف في هذا السياق، بل طريقة طرحها والتعامل معها.

 

فُسْحَة: لا يزال أدب الفتيان يواجه صعوبة في الوصول إلى الشريحة العمريّة المستهدَفة؛ لِمَ في رأيك؟

علاء: أعتقد شخصيًّا - وهذا تخمين منّي - أنّ هذا الوضع له ضلعان؛ الضلع الأوّل العرض الشحيح في السوق لهذه الفئة العمريّة، والضلع الثاني اليوم، لجوء الفتيان إلى الشاشات بصفتها عالمًا "حقيقيًّا" بالنسبة إليهم، يعفيهم من قراءة الكتب كما في السابق. كلّ صنعة أدب الأطفال والفتيان صعبة للغاية ومنهِكة، وهذه أيضًا نقطة حاسمة؛ لأنّ فتاة في الحادية عشرة من عمرها في وقتنا الراهن، تحمل نضجًا وإدراكًا، وتجربة تختلف عن مضامين الكتب لهذه الشريحة الّتي كُتبت قبل ثلاثين عامًا مثلًا. من هنا، فإنّ على دور النشر أن تلتفت إلى هذه المسألة، وأن تحاول إنتاج كتب في وسعها إقامة حوار فعّال وذكيّ وحسّاس مع هذه الفئة. قبل سنوات، وبعد نجاح سلسلة "هاري بوتر"، بدأ الكثير من الناشرين العرب بالبحث، "بسراج وفتيلة"، عن نصوص لهذه الشريحة، لكن للأسف ظلّ هذا البحث مقتصرًا على جمع ما تصل إليه اليد، ونشره من دون خطّة استثمار واضحة في النصوص، وشكل الكتب، وطريقة تناولها للمواضيع الأزليّة بنظرة عصريّة كما يجب.

 

فُسْحَة: هل تفكّر "الدفيئة، في ظلّ شبه غياب متاجر فيزيائيّة وإلكترونيّة في أراضي 48، في أن تكون منصّة لبيع كتب من إصدار دور نشر فلسطينيّة وعربيّة؟

علاء: نعم، طبعًا. نحن سننتقل بعد شهور لبيع كتب أطفال، من إصدار محلّيّ لدينا في أراضي 48 ومن الضفّة الغربيّة، وحتّى نهاية العام نأمل أن نصل إلى تعاقد مع موزّع مركزيّ في عمّان، لتزويدنا بشكل جارٍ بالعناوين الجديدة لبيعها بأسعار رخيصة عبر موقعنا. نأمل أن ننجح في هاتين الخطوتين حتّى نهاية العام؛ وهكذا سنكون قادرين على تأسيس منصّة شاملة ومهنيّة، لبيع أفضل الكتب من فلسطين ومن العالم العربيّ، بأسعار مريحة جدًّا، وبنسخ أصليّة غير مزوّرة؛ وهو ما يمنح الأهالي فرصة الحصول على الإصدارات النوعيّة والتمتّع بها، وما يمكن أن يشكّل سندًا لدور النشر والتوزيع في معركة البقاء الاقتصاديّة، في وجه الكمّيّات الهائلة من الكتب المزوّرة الّتي يزوّرها لصوص كتب، عبر مراكز طباعة ونسخ، أكبرها في أمّ الفحم وجنين ورام الله، ويبيعها الجميع للأسف، بمَنْ فيهم مَنْ يُعتبَرون "ناشرين مركزيّين ومحترَمين" عندنا في أراضي 48.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.

 

 

التعليقات