28/08/2020 - 14:31

جاك بريفير... بلاغة التلقائيّ ورتابة المألوف

جاك بريفير... بلاغة التلقائيّ ورتابة المألوف

جاك بريفير Jacques Prévert

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

جاك بريفير Jacques Prévert، شاعر وكاتب فرنسيّ معروف (1900-1977)، ارتبطتْ كتاباته بمدينة باريس، حيث وُلد ونشأ في حواريها وحدائقها الكثيرة الّتي لا يكاد يخلو حيّ منها، وتنقّل بين مسارحها ومقاهيها وساحاتها، وقد عاصر فيها وتقاطع مع أكبر فنّاني وكتّاب القرن العشرين، من بيكاسو إلى أندريه بروتون وغيرهم. وهو كاتب سيناريو وفنّان كولاج (collage) أيضًا [لفظ فرنسيّ يعني اللصق].

البساطة الّتي تتميّز بها أشعار بريفير، كانت السبب في تلحين العديد منها من قبل موسيقيّين ومغنّين فرنسيّين، وهي الّتي جعلت منه الشاعر المقروء الأوّل في الشعر الفرنسيّ...

بريفير شاعر ملتزم من جهة، انتقدتْ أشعاره النظام المدرسيّ والكنيسة والعائلة بقيمها وتقاليدها الكلاسيكيّة، ومن جهة أخرى فنّان فكاهيّ ساخر، يظهر هذا في الكثير من قصائده الّتي تميّزت ببساطة لغتها ووضوح معانيها، وجعلت منه شاعرًا شعبيًّا معروفًا لدى عامّة الناس في فرنسا. وإذا أردنا أن نبحث عن معادل عربيّ له، فلا شكّ أنّ الأقرب إليه سيكون الشاعر نزار قبّاني.

الدارسون والمتخصّصون في أدب بريفير ينقسمون بين مَنْ يرى في مجمل أعماله، ولا سيّما مجموعته الشعريّة الأشهر، "كلمات - Paroles"، كتابًا لا يستحقّ الاحتفاء به، على الرغم من أنّه "لا يخلو من التسلية، وتتخلّله أحيانًا بعض المقاطع الجذّابة"، كما وصفه أحد الدارسين، كريستوف ميرسييه، في مقاله الّذي جاء بعنوان "بلياد: أوسكار وايلد وجاك بريفير"، معتبرًا أنّ مجموعته الشعريّة هذه محدودة القيمة، مستهجنًا فكرة نشر أعماله في "لا بلياد - La Pléiade"، وهي اسم لمجموعة عريقة من المنشورات تتضمّن، عادةً، كلاسيكيّات الأدب الفرنسيّ والعالميّ. وثمّة مَنْ رأى أنّ قصائد بريفير تبدو لنا بسيطة، لكنّها ترتكز إلى عمل كثيف ومعقّد في بنائها ودقّتها وغنائها بالمعاني، وأنّه يعتمد البساطة والذكاء في اختيار مفرداته، ما يجعلنا نستطيع وصفها بما يُتعارف بأنّه السهل الممتنع.

لم يكن الأمر سهلًا عندما باشرتُ باختيار قصائد من مجموعته للترجمة؛ فكان بعضها بسيطًا إلى الحدّ الّذي يجعل ترجمتها إلى العربيّة مخاطرة قد تسفر عن عبارات باهتة ومعاني عاديّة مألوفة لا جديد فيها، فما يحمل النصّ عند الترجمة هما المعنى والفكرة، وهامش من البلاغة الّتي قد يقترحها المترجم ليقارب النصّ مع مستواه الأصليّ. ومن الصعب الحفاظ على هذا المستوى إذا كانت القيمة الجماليّة لبعض القصائد تعتمد بالأساس على إيقاع المفردات وتكرارها واستخدام القافية المتواترة. كأنّ الترجمة تعرية للنصّ واختبار لقيمته وعمقه. لذا اخترتُ نصوصًا تستطيع أن تصمد من جهة أمام عمليّة الترجمة، ومن جهة أخرى تعبّر عن الثيمات الأساسيّة الّتي تتكرّر في شعره وتشكّل عالمه الفكريّ والجماليّ.

لم يكن الأمر سهلًا عندما باشرتُ باختيار قصائد من مجموعته للترجمة؛ فكان بعضها بسيطًا إلى الحدّ الّذي يجعل ترجمتها إلى العربيّة مخاطرة قد تسفر عن عبارات باهتة...

إنّ البساطة الّتي تتميّز بها أشعار بريفير، كانت السبب في تلحين العديد منها من قبل موسيقيّين ومغنّين فرنسيّين، وهي الّتي جعلت منه الشاعر المقروء الأوّل في الشعر الفرنسيّ؛ فقد تجاوز حجم المبيعات لكتابه "كلمات" مليونيّ نسخة. وعلى مستوى الشكل الفنّيّ، فإنّ الديوان يتراوح بين قصائد لحنيّة وقصائد شعر حرّ، ويظهر فيها بعض التأثّر بالمدرسة السورياليّة الّتي عاصر ريفير فنّانيها في باريس، من خلال صور جديدة وغرائبيّة مثل "عجوز من ذَهَب في ساعةٍ من حِداد"، في قصيدته "موكب".

وإذا كان بريفير ينتقد الدين والبرجوازيّة والعنف الّذي شهده في الحرب العالميّة الثانية، حاملًا رسالة اجتماعيّة وسياسيّة في شعره، فهو يحشد قصائده بأجواء رومانسيّة ويتغنّى بالمرأة والطفولة والطبيعة. وبالنسبة لبريفير، فإنّ الشعر كما قال في إحدى قصائده "شيء بسيط، وجميل ومفيد"، ما يبدو أنّه تعريف لهويّته الشعريّة.

 

المرآة المهشّمة

Le miroir brisé

الرجل الصغير الّذي يغنّي بلا انقطاع

الرجل الصغير الّذي يرقص في رأسي

الرجل الصغير من أيّام الشباب

بَتَرَ رباط حذائه

وانهدمت كلّ أكواخ الاحتفال فجأةً

وفي صمت هذا الاحتفال

وفي صحراء هذا الاحتفال

سمعتُ صوتكِ الفرِح

صوتكِ الممزّق الهشّ

الطفوليّ الآسِف 

يأتي من بعيدٍ ويناديني

ووضعتُ يدي على قلبي

حيث تتحرّك

مضرجّةً بلونها

القطع الثلجيّة السبع لضحكتكِ المرصّعة بالنجوم!

 

 

تركيبة فرنسيّة

Composition française

نابليون في شبابه المبكّر كان نحيفًا

وموظّفًا في سلاح المدفعيّة

لاحقًا سيصبح إمبراطورًا

لذا حصل على كرشٍ وبلادٍ كثيرة

وفي اليوم الّذي مات فيه

كان مازال لديه بطنٌ كبيرٌ

لكنّه أضحى إنسانًا ضئيلًا!

 

 

الحديقة

Le jardin

آلاف وآلاف السنين

لن تكون كافية

للتعبير عن تلك الثانية الصغيرة من الأبديّة

عندما قبّلتني

وعندما قبّلتك

صباحًا تحت ضوء الشتاء

في حديقة مونتسوري في باريس

فوق الأرض

الأرض الّتي هي كوكب!

 

 

باريس في الليل

Paris at night

ثلاثة أعواد كبريت تشتعل واحدةً تلو الأخرى في الليل

العود الأوّل كي أرى وجهكِ كلّه

والثاني كي أرى عينيكِ

والأخير كي أرى فمكِ

والعتمة كلّها كي تذكّرني بهذا كلّه

حين أضمّكِ بين ذراعيّ!

 

 

الغبيّ

Le cancre

يقول "لا" برأسه

لكنّه يقول "نعم" بقلبه

يقول "نعم" لما يحبّ

ويقول "لا" للمدرّس

إنّه واقفٌ الآن

نقوم باستجوابه

طارحين عليه كلّ المشاكل

فجأةً تأخذه ضحكةٌ مجنونة

فيمسح كلّ شيء

الأرقام والكلمات

التواريخ والأسماء

الجمل والمكائد

ورغم تحذيرات المعلّم

المصحوبة باستهجانات الأطفال النابغين

بطباشير من كلّ الألوان

يرسم وجه السعادة

فوق اللوح الأسود للتعاسة!

 

 

أنس العيلة

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.

 

 

 

التعليقات