27/09/2020 - 19:25

«التمساح الصغير يبحث عن صديق»... كيف تكون القصّة علاجًا؟

«التمساح الصغير يبحث عن صديق»... كيف تكون القصّة علاجًا؟

من قصّة «التمساح الصغير يبحث عن صديق»

 

الإصغاء إلى الداخليّ

من خلال تناولي قصّة «التمساح الصغير يبحث عن صديق»، أحاول أن أجيب عن التساؤل: ما الفرق بين القصّة في الغرفة التدريسيّة والقصّة في الغرفة العلاجيّة؟ وهل وضْع القصّة في «كبسولة دواء» يجعل السفر في طيّاتها أقلّ متعة وجمالًا؟

إنّ القصّة أعمق من أنّها نصّ أدبيّ ذو مضامين تعليميّة وتربويّة تمثّل القواعد النحويّة والقوانين المجتمعيّة، الّتي تحدّد الصحيح والخطأ والمتعارَف عليه والمستهجَن منه، وهي أعمق من أنّها قطعة فهم مقروء، من المطلوب الإجابة عن الأسئلة بشكل صحيح بعد إنهاء قراءتها.

لا بدّ من النظر إلى القصّة نظرة مختلفة، ليس فقط بثوبها التعليميّ الوعظيّ، إنّما بثوبها العاطفيّ أيضًا، خارج حدود الواقع وخارج حدود دفّتي كتاب؛ فالقصّة فضاء شاسع بين الواقع الداخليّ والواقع الخارجيّ، وآن لنا أن نصغي إلى الصحيح الداخليّ الخاصّ، من خلال صوت ثالث مستقلّ بأبطاله وأحداثه، صوت يتخطّى القارئ والمستمع، في دعوة إلى التحليق في فضاء جديد، قد يصنع منّا أبطالًا جددًا في واقع أقلّ إحباطًا!

 

 

العلاج بالقراءة والكتابة (Bibliotherapy)، أو العلاج بالنصّ والقصّة، واحد من اختصاصات العلاج بالفنون، مثل العلاج بالموسيقى والرسم والحركة، والنصّ العلاجيّ قد يكون أدبًا صامتًا برسومات فقط، وقد يكون صورة أو رسمة أو غرضًا له قصّة يرويها صاحبها، وفي المقابل قد يكون النصّ العلاجيّ قصّة وأغنية ورواية وشعرًا وأدب أطفال.

القصّة أداة تعبيريّة، تحفّز على مشاركة المشاعر المكبوتة أو غير المريحة، والحديث عن الضائقة النفسيّة أو الصعوبات بسلاسة أكبر وبأقلّ تهديد داخليّ، من خلال إسقاط عالمنا الداخليّ على شخصيّات القصّة؛ فالغول في القصّة هو مَنْ يقول هذا الكلام وليس أنا!

 

مصابون بالخيبات

"منذ أيّام والتمساح الصغير قلق

أحيانًا يشعر بالبرد

وأحيانًا يشعر بالحرّ

وأحيانًا يشعر بالتعب وبالملل

وأحيانًا كان يتخيّل نفسه يحتضن العالم كلّه

الحالة واضحة: التمساح يشعر بالوحدة".

هكذا بدأت قصّة «التمساح الصغير يبحث عن صديق»، النصّ والرسوم للألمانيّة دنيلا كوت Daniela Kulot الّتي كتبت سلسلة قصص بطلاها هما التمساح والزرافة. القصّة مترجمة إلى العربيّة والإنجليزيّة، وهي من القصص الرائعة والهادفة الصادرة في أراضي 48 عن «مكتبة الفانوس».

"التمساح يشعر بالوحدة"، هكذا تُرجِمت جملة "التمساح يشعر بالحبّ، وعندما نحبّ لا بدّ من أن تواجهنا مشكلة صغيرة"، الّتي وردت في النسخة الأصليّة للقصّة. هذا المعنى الجميل والمهمّ، في نظري، غير حاضر في الترجمة العربيّة للأسف، وهو ما يُغَيِّب مشاعر وأفكارًا من المهمّ مناقشتها والتطرّق إليها، في مفهوم الحبّ لدى القارئ/ المتعالج، عدا أنّ عنوان القصّة الأصليّ هو «تمساح صغير شعوره كبير».

القصّة أداة تعبيريّة، تحفّز على مشاركة المشاعر المكبوتة أو غير المريحة، والحديث عن الضائقة النفسيّة أو الصعوبات بسلاسة أكبر وبأقلّ تهديد داخليّ، من خلال إسقاط عالمنا الداخليّ على شخصيّات القصّة...

القصّة تتحدّث عن التمساح الّذي يظهر في دور المحبّ والمبدع والمبادر، بهدف التقرّب من الزرافة. صحيح أنّ رقبتها طويلة جدًّا، لكن هذا لم يزعج التمساح بل أراد أن تصبح صديقة له، من خلال محاولات جدّيّة وجاهدة عدّة لترى أجمل ابتساماته، لكن كلّ محاولات التمساح تبوء بالفشل، حتّى يقرّر أن يتعامل مع الزرافة بالقوّة والإجبار ليلفت انتباهها، حين يلقي بحبله ليحني عنقها الطويل علّها ترى أخيرًا ابتسامته الجميلة، فتفزع الزرافة ملقيةً إيّاه بعيدًا، الأمر الّذي يأتي بنتائج سيّئة وغير مرضية للطرفين؛ فيصيب التمساح بالحزن والإحباط، ويُقْعِدُه بقدم مكسورة على سرير المستشفى المليء بالجرحى المصابين بإصابة مختلفة، فالقطّ مصاب في عينه والأفعى في ذيلها!

كلّنا مصابون بخيبات وصدمات مختلفة، قد تُوْصِلُنا إلى المستشفى وطلب العلاج!

تمضي الأيّام، ويلتقي التمساح والزرافة مصادفة في الطريق، فيصطدم أحدهما بالآخر ويقعان أرضًا وقد حلّقت النجوم فوق رأسيهما، "وحين رأيا حالتهما، ضحكا بصوت عالٍ حتّى ملأ الدفء قلبيهما"، فكان وليد هذا الاصطدام والألم أن رأت الزرافة أجمل ابتسامات التمساح أخيرًا. تنتهي القصّة بعناق و...

يا لحسن حظّي أنّكِ لم تريني!

"صحيح" ردّت الزرافة، وإلّا ما كنت رأيت ابتسامتك الجميلة!

 

أسئلة العلاقات الاجتماعيّة

أوظّف هذه القصّة في العلاج بالقراءة والكتابة (Bibliotherapy)، مع متعالجين من فئات مختلفة في السنّ؛ فالقصّة وسيط بين الشخص وعالمه الداخليّ، هي أداة تعبيريّة تعطي شرعيّة للتعبير عن المشاعر الموجعة والمكبوتة غير المريحة، وتتيح مشاركة المخاوف والإحباطات والخيبات والتجارب الصعبة بسلاسة أكبر، ومع أقلّ تهديد داخليّ؛ إذ يستطيع المتعالج أن يُسْقِطَ على أبطال هذه القصّة وأحداثها، كلّ مشاعر الوحدة والرفض والملل والقلق، والمحاولات المتكرّرة الفاشلة، والإحباط وفقدان الأمل، مقابل البحث عن الحبّ وتكوين الصداقات، والمبادرة، والامتنان، والتسامح، والرضا، والصبر، والانتظار، والفرح الداخليّ.

تستفزّ القصّة لدى «الكبار» أيضًا مشاعر القبول والرفض في العلاقات؛ إذ تعكس القصّة العديد من المشاعر والتجارب، الّتي قد يمرّ بها الشخص في محطّات عدّة في حياته لبناء علاقات مختلفة، علاقات عاطفيّة كانت أو زوجيّة، أو عائليّة، أو والديّة، أو مهنيّة، أو تكوين صداقات...

في الغرفة العلاجيّة مع الطفل، لا يهمّني في الأساس إن كان الطفل يفرّق بأنّ التمساح والزرافة من الحيوانات الأليفة أو المفترسة، لا يهمّني أن يعدّد لي الطفل ما يعرف من حيوانات: أصواتها وأسماء مساكنها أو ماذا تأكل! لست مهتمّة بأن يقرأ لي الطفل القصّة بنفسه لأختبر مدى تمكّنه من القراءة بدقّة وسلاسة، فأنا أقرأ القصّة للطفل بنفسي؛ كي يتفرّغ هو للإبحار بأمان ومتعة وحرّيّة في عالم الخيال، مع التمساح والزرافة الظريفين، وليشاركني من خلالهما قصّته الداخليّة وتجاربه في الواقع، والتعبير عن مشاعره - مخاوفه وإحباطاته - في علاقاته المختلفة في الأطر العديدة الّتي يرتادها، أفي المدرسة كان أو في البيت أو في الحارة، في دائرة الشعور بالانتماء وبأنّه محبوب ومرغوب فيه، والخوف من النبذ والإقصاء الاجتماعيّ بين أقرانه أو في محيطه القريب، وعن تقبّل الآخر الّذي لا يشبهنا، وتكوين صداقة مع شخص مختلف عنّا.

في المقابل، تستفزّ القصّة لدى «الكبار» أيضًا مشاعر القبول والرفض في العلاقات؛ إذ تعكس القصّة العديد من المشاعر والتجارب، الّتي قد يمرّ بها الشخص في محطّات عدّة في حياته لبناء علاقات مختلفة، علاقات عاطفيّة كانت أو زوجيّة، أو عائليّة، أو والديّة، أو مهنيّة، أو تكوين صداقات. إضافة إلى الاختلافات في علاقتنا العاطفيّة، وكم في مقدورنا ملاءمة أنفسنا لواقع أو لشخص مختلف عنّا، ومدى قدرتنا على جسر الخلافات واحتواء الاختلاف، أو استعدادنا للمبادرات والمحاولات، بهدف التقرّب والتقريب. فالاختلاف لم يزعج التمساح، فهل كان يزعجنا؟ وكم نملك من أدوات لمرونة أكثر وحوار أعمق لنملك الحظّ، لنرى أجمل ابتسامات الآخر المختلف عنّا؟

 

معرفة النفس بالمتعة

من خلال هذه القصّة، أقمت لقاء علاجيًّا لشابّة عزباء، متألّقة مهنيًّا واجتماعيًّا، في أواخر العشرينات من عمرها، حول تجاربها العاطفيّة ومحاولاتها بناء علاقات جدّيّة انتهت جميعها نهايات غير مرضية. تلخّص الشابّة هذا اللقاء بقولها: "بعد اللقاء، عرفت حالي أكثر بطريقة ممتعة، من خلال تمساح وزرافة! القصّة ساعدتني على أن أكون منفتحة، ولا أستحي من تجاربي الشخصيّة، ورجعت إلى البيت بتساؤلات عدّة حول المبادرة، واستعدادي للدخول في علاقات من باب جديد. تقمّص شخصيّة قصصيّة ساعدني كثير رغم إنو مش إشي سهل، بسّ إشي جريء ونابض".

قصّتك الداخليّة هي الّتي تصنع قصّة حياتك؛ فواقعك الخارجيّ مرتبط ومتأثّر بواقعك الداخليّ، وقصّة الآلاف الّذين تعرفهم ليست قصّتك.

وختامًا، قصّتك الداخليّة هي الّتي تصنع قصّة حياتك؛ فواقعك الخارجيّ مرتبط ومتأثّر بواقعك الداخليّ، وقصّة الآلاف الّذين تعرفهم ليست قصّتك. افتح عينك أكثر وقلبك أكثر فأكثر، واصنع مفاهيم وأفكارًا وأحاسيس جديدة؛ ففي العلاج العاطفيّ بالقصّة ستقرأ قصّة حياتك قراءة أخرى، وربّما تتعلّم لغة جديدة، ربّما تضيف أو تمحو فصولًا، تحيي أو تقتل شخصيّات. المهمّ أنّك أنت بطل القصّة الفاعل لا الخامل، تصنع أحداثها وتختار نهاية تليق بك.

 

 

تهاني عاصلة

 

 

معالجة بالأدب ومحاضرة. حاصلة على بكالوريوس التربية للأطفال الصمّ، وماجستير العلاج بالأدب.

 

 

 

التعليقات