28/09/2020 - 23:17

«سنيتشات»... مَنْ يصنع النجوم على الأجساد؟

«سنيتشات»... مَنْ يصنع النجوم على الأجساد؟

من قصّة «سنيتشات»

 

ماكينة تطبع وتمحو

يحكي د. سوس Dr. Seuss قصّة أرض «السنيتشات - Sneetches»، الحيوان المتخيَّل. يعيش في هذه الأرض مجموعة من السنيتشات المنقسمة مجموعتين: مجموعة مع نجمة واضحة على البطن، والمجموعة الثانية بدون نجمة على البطن. على مدى سنين طويلة تعاملت المجموعة صاحبة النجوم مع المجموعة الأخرى على أنّها أفضل منها، فلم تسمح لهم بالاشتراك معهم في الألعاب، ولم يُدْعَوا إلى الحفلات وتناول الطعام، وكانوا يعتقدون طوال الوقت أنّ النجوم المطبوعة على أجسادهم تجعلهم الطبقة العليا في هذا المجتمع.

يأتي شخص غريب باسم «سلفستر مكمنكي مكبين»، يملك آلة كبيرة وعجيبة، تستطيع هذه الآلة طباعة النجوم ومحوها، وفعل ما يحلو للآخرين بمقابل مادّيّ بسيط. تتقافز السنيتشات الّذين لا يملكون نجومًا فرحًا، ويهرعون إلى الآلة...

في أحد الأيّام يأتي شخص غريب باسم «سلفستر مكمنكي مكبين»، يملك آلة كبيرة وعجيبة، تستطيع هذه الآلة طباعة النجوم ومحوها، وفعل ما يحلو للآخرين بمقابل مادّيّ بسيط. تتقافز السنيتشات الّذين لا يملكون نجومًا فرحًا، ويهرعون إلى الآلة من أجل طباعة النجوم مقابل ثلاثة دولارات.

عند خروجهم من الآلة تستهجن المجموعة الأولى، صاحبة النجوم القديمة، حصول الآخرين على نجوم جديدة، فتُطالب سلفستر بإيجاد حلّ؛ ما يحدث بأنّه يطالب السنيتشات بعشرة دولارات «فقط»، من أجل محو النجوم القديمة، ويستمرّ الأمر هكذا النهار بطوله، تدخل مجموعة مع نجوم وتخرج أخرى بدون نجوم، حتّى تنفذ النقود بشكل نهائيّ من السنيتشات.

في النهاية يطوي سلفستر مكمنكي مكبين ماكنته، ويذهب ساخرًا من السنيتشات، واصفًا إيّاهم بالأغبياء، وبأنّهم لن يتعلّموا مطلقًا كيفيّة العيش معًا. ما يحدث هو عكس توقّعاته؛ فهذا الحدث السيّئ في تاريخ السنيتشات جعلهم يدركون قيمة البقاء معًا، والتآخي والمحبّة في ما بينهم، فكفّوا عن تصنيف أنفسهم حسب مَنْ يملك نجمة أو لا يملك نجمة.

 

الطبقيّة بين الأطفال والشباب

يطرق د. سوس قضيّة النبذ الاجتماعيّ في مجموعات الأطفال؛ إذ تعبّر النجوم عن الأطفال أصحاب الوضع المادّيّ والاجتماعيّ الأعلى من غيرهم. بصورة أو بأخرى، يُظْهِر د. سوس الطبقيّة في المجتمعات الحديثة، وبإمكاننا لمس ذلك بشكلٍ جليّ في المدارس؛ فينقسم الطلّاب إلى مجموعات حسب الوضع الاقتصاديّ للأهل، ونوعيّة الملابس الّتي يرتديها كلّ طالب، والفعاليّات اللامنهجيّة خارج المدرسة، هذا كلّه يحتاج إلى دخل إضافيّ لا شأن له بالمصاريف الأساسيّة لكلّ عائلة، عدا أنّ الأطفال تترسّخ لديهم فكرة أنّ مَنْ يملك النقود يملك السلطة؛ وبذا يتقرّبون من أصحاب المنصب الاجتماعيّ والمادّيّ الأعلى.

يُظْهِر د. سوس الطبقيّة في المجتمعات الحديثة، وبإمكاننا لمس ذلك بشكلٍ جليّ في المدارس؛ فينقسم الطلّاب إلى مجموعات حسب الوضع الاقتصاديّ للأهل، ونوعيّة الملابس الّتي يرتديها كلّ طالب، والفعاليّات اللامنهجيّة خارج المدرسة...

ولا يمكننا الحديث عن البُعد الاجتماعيّ دون التطرّق إلى فكرة التنمّر، الّتي شاعت وانتشرت مع تقدّم التكنولوجيا وتطوّرها؛ فيرفض الأطفال إشراك أطفال آخرين معهم في الألعاب، ودعوتهم إلى حفلات عيد الميلاد أو تناول الطعام معًا، وقد تسوء الأمور إلى درجة محاولة إيذاء هذه الفئة الأقلّ اجتماعيًّا ومادّيًّا.

ولا يقتصر موضوع التنمّر على الأطفال أو في المدارس؛ ففي التجربة الجامعيّة أنواع شتّى من الإيذاء النفسيّ الّذي يتعرّض له الطلّاب، لأنّ المؤسّسات الأكاديميّة تجمع أنواعًا مختلفة من الطبقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، فيحاول دومًا الطلّاب ذوو الوضع المادّيّ الصعب والمتوسّط إخفاء الأمر عن رفاقهم، ومجاراتهم في الخروج واللباس، حتّى لا ينطبع في الأذهان بأنّهم ذوو وضع اجتماعيّ أقلّ من الآخرين.

 

«المطابقة الاجتماعيّة»

تُظْهِر القصّة الجانب النفسيّ لفكرة التطابق الاجتماعيّ، ليس فقط لدى الأطفال، إنّما لدى الإنسان بشكلٍ عامّ، وذلك من خلال محاولة السنيتشات الّذين لا يملكون نجمة، الحصول على نجمة ليتشبّهوا بالآخرين؛ فمن خلال تجارب أُجْرِيَتْ على الناس في الأماكن العامّة، فإنّنا دومًا نميل إلى اتّباع رأي الأغلبيّة، تجنّبًا للسخرية أو الخطأ.

جونا برجر، الأستاذ في «جامعة بِنْسِلْفينيا»، يشرح ما يدور في أدمغتنا من سلوك داخليّ يُسمّى «المطابقة الاجتماعيّة»، حين نتعلّم في سنّ مبكّرة أن نتتبّع خطى مجموعتنا، ونشعر بالحاجة إلى الانضمام إليها حمايةً لنا من الاستبعاد، ولأنّ هذا يجعلنا نبدو اجتماعيّين ويعطينا شعورًا بالراحة. وتدفعنا الرغبة في التشابه مع المجموعة إلى التصرّف وفقًا لـ «نظريّة المطابقة»، رغم تأثيرها لاشعوريًّا في تفكيرنا؛ فنحن بشكل تلقائيّ نحاول التشبّه بالآخرين. مثال على ذلك تغيير لهجتنا عند خروجنا من الدائرة الاجتماعيّة الضيّقة في القرى، بما يتوافق ولهجة أهل المدن، في محاولة لمحاكاة اللهجات الأكثر شعبيّة والمقبولة اجتماعيًّا.

كان منطق التفوّق العرقيّ جليًّا؛ ثمّة مجموعة تتمتّع بجسدها، بشكل طبيعيّ وتلقائيّ، بنجمة، بينما الآخرون لا يتمتّعون بها. لقد رافقت هذه النجمة مراحل القصّة الثلاث...

وبذلك يحاول السنيتشات التشبّه بالمجموعة الأقوى اجتماعيًّا، من خلال طباعة نجوم على أجسادهم ليتوافقوا مع الفئة الأقوى اجتماعيًّا، بغضّ النظر أعَلى صواب كانوا أم على خطأ.

في المقابل، كان منطق التفوّق العرقيّ جليًّا؛ ثمّة مجموعة تتمتّع بجسدها، بشكل طبيعيّ وتلقائيّ، بنجمة، بينما الآخرون لا يتمتّعون بها. لقد رافقت هذه النجمة مراحل القصّة الثلاث: قبل قدوم سلفستر وعند حلوله وبعد ذهابه. في المرحلة الثالثة، كان على أصحاب النجمة أن يتسامحوا مع مَنْ لا يملكونها، ليس إلّا.

 

تسليع واحتكار

إنّ النظام الرأسماليّ الّذي يسيطر على العالم منذ عشرات السنين، لا يتحكّم في السياسة وأنظمة الدول، وآليّة انهيارها وإعادة بنائها، حتّى تسير «ضمن قطيعه» الرابح أكثر مع الدول الأقوى اجتماعيًّا واقتصاديًّا فحسب، بل إنّ أذرعه تمتدّ وتصل إلى الأدب والفنون، وفي طبيعة الحال لا يُسْتَثْنى أدب الأطفال من هذه السيطرة.

يظهر النظام الرأسماليّ في القصّة، من خلال شخصيّة غامضة وغريبة للطفل، شخصيّة سلفستر، هذه الشخصيّة المتطفّلة على عالم السنيتشات تأتي للوهلة الأولى بصورة المنقذ الّذي يحاول إيجاد الحلول لهاتين المجموعتين المختلفتين، لكن ما يخفيه أعظم.

هذه قصّة ممتازة للأطفال، من أجل تذويت العديد من القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في نفوسهم؛ فالقصّة الّتي تبدأ بمشاكل غيرة ونبذ بين مجموعات الأطفال، تنتهي بعِبَر اقتصاديّة وسياسيّة ونفسيّة من النادر التطرّق إليها في أدب الأطفال العربيّ...

تظهر فكرة السلعة، من خلال تسليع قدرات سلفستر بثلاثة دولارات فقط، وعند ارتفاع الطلب عليها، أي عند صدامها مع «المنافسين»، يرتفع سعرها، بينما يسود الاحتكار قيمةً. تسيطر العلاقة بين منتج القوّة ومستهلكها، وتمرّ عبر طباعة النجوم من أجل محو النجوم الأخرى للمجموعة الثانية.

بذا، في العادة تستغلّ المحلّات التجاريّة الرأسماليّة الزبون، بقولها إنّ غرضًا معيّنًا يساوي مبلغًا زهيدًا، وعندما يلاحظ أصحاب المحلّات إقبال الناس على المنتج فإنّهم يستغلّون هذا الإقبال من خلال رفع الأسعار، وإضافة كلمة «فقط» وراء السعر.

إنّ المجتمع الرأسماليّ يعتمد على احتكار السوق أو المال، بيد شخص واحد أو مجموعة من الأشخاص؛ فيكون صاحب السلطة هو صاحب المال. شخصيّة سلفستر مثال حيّ على هذا الاحتكار الاقتصاديّ.

 

خاتمة

هذه قصّة ممتازة للأطفال، من أجل تذويت العديد من القيم الأخلاقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة في نفوسهم؛ فالقصّة الّتي تبدأ بمشاكل غيرة ونبذ بين مجموعات الأطفال، تنتهي بعِبَر اقتصاديّة وسياسيّة ونفسيّة من النادر التطرّق إليها في أدب الأطفال العربيّ، وهنا لا أقول إنّ على الطفل أن يفهم كلّ هذه الأبعاد، بقدر ما يمكن البالغ أن يمرّر له هذه القيم بصورة غير مباشرة.

 

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ «طفولة تقرأ: مقالات في أدب الأطفال والفتيان»، وهو نتاج دورتين من إعداد وتقديم الباحث لؤي وتد، بالتعاون مع فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة.

 

 

ميساء منصور

 

 

 

كاتبة ومدرّسة للّغة عربيّة، تكتب في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.

 

 

 

التعليقات