14/12/2020 - 17:20

عكّا المراهقة

عكّا المراهقة

عكّا | Wallhere

 

قبل أكثر من عامين، طلب منّي زميل أن أكتب شيئًا ما عن رام الله، وعندما بدأت بالكتابة، أطلّت عكّا مبتسمة من بين السطور، مثل حبيبة شعرت بالغيرة، وأحسست بأنّني أخون حبيبة، وتكبّلت أصابعي، واكتشفت أنّني لا أستطيع الكتابة عن مدينة بصدق وحرارة إلّا عن عكّا.

قضيت ردحًا طويلًا من طفولتي، ومراهقتي وشبابي وكهولتي، في أسواقها وأزقّتها، وعلى شاطئها ورمالها وصخورها وأسوارها، وأنفاقها تحت الأرض وفوقها، مع أهلها والوافدين إليها، مع أصدقاء ورفاق، ووحيدًا في أكثر الأحيان، وما زلت أزورها مرّة أو مرّتين على الأقلّ في كلّ أسبوع.

خرجنا من البوّابة الشرقيّة، واقتربنا حتّى وصلنا رماله الناعمة الدافئة، سمعت همس أمواجه وهي تدنو وتتراجع، خلعت والدتي ملابسي عنّي، ثمّ دفعتني إلى الماء، صرت أُلَعْبِط مثل سمكة تحتفي بالحياة...

في يوم ما، أظنّ أنّني كنت في الخامسة من عمري، كان جسدي مليئًا بالقروح، كنت عاجزًا عن النوم أو الجلوس، والآلام تنهشني، وتنغّص عليّ نهاري وليلي، قرّرت والدتي أن تأخذني للعلاج إلى الدكتور خازن في عكّا، لم أكن أعرف مَنْ هو هذا الطبيب، ولكن لا أنسى الدرج الحجريّ ذا العتبات المالسة ونحن نصعد داخل عمارة قديمة من طوابق عدّة، إلى أن دخلنا إليه.

كان رجلًا في الخمسينات من عمره، هذا تقديري لسنّه الآن؛ فقد كان له صلعة واضحة وكان سمينًا، عاين جسدي، كان بين ساقيّ دُمَّل كبير، فجّره بالمقصّ، ثم أشار إلى والدتي بأن تأخذني إلى البحر، فمياهه المالحة تطهّر الجسد، وتشفي الجروح.

خرجنا من البوّابة الشرقيّة، واقتربنا حتّى وصلنا رماله الناعمة الدافئة، سمعت همس أمواجه وهي تدنو وتتراجع، خلعت والدتي ملابسي عنّي، ثمّ دفعتني إلى الماء، صرت أُلَعْبِط مثل سمكة تحتفي بالحياة، ومنذ ذلك اليوم صرت من أصدقاء عكّا ببحرها، ومحبّيها وعشّاقها.

أظنّ أنّني كنت في الثامنة من عمري عندما صرت أسافر إلى السوق في عكّا برفقة والدي، الّذي كان شريكًا في دكّان خضار مع قريب له.

كثيرًا ما كنت أجلس في زاوية الدكّان، مغمورًا برائحة الفاكهة من تفّاح وموز وتمور، أراقب الزبائن والعابرين في السوق، وأسمع أسماء العائلات من خلال مناداة بعضهم بعضًا، ولهجتهم المحلّيّة الخاصّة. في تلك الفترة المبكّرة، تعرّفت «جامع الجزّار» و«سبيل الطاسات» ومياهه العذبة، وقضاء الحاجة في الزاوية الشرقيّة الجنوبيّة من باحة الجامع.

تعرّفت ما كان يُسَمّى «شطّ العرب»، وهو الشاطئ القريب من البوّابة الشرقيّة الجنوبيّة، بينما كان في الجهة الأخرى وراء المدرسة البحريّة شاطئ «أرجمان»، حيث توجد أبراج مراقبة وحمّامات ومنقذون. أذكر من المنقذين عدنان حدرج الّذي كان بطلًا في رفع الأثقال، وعبد الرحمن أسدي من دير الأسد البطل في كمال الأجسام، وعلي وخليل أبو الحاجّ وكلاهما كانا لاعبَي كرة قدم، وغيرهم.

 

كنت أذهب وشقيقي الّذي يكبرني بعامين إلى شطّ العرب لنسبح، لكن قبل دخول البحر كنّا نذهب إلى عائلة من أقرباء والدتي تعيش في «الزاوية الشاذليّة» القريبة من «حمّام الباشا»، أحيانًا نحمل هديّة من والدتي...

كنت أذهب وشقيقي الّذي يكبرني بعامين إلى شطّ العرب لنسبح، لكن قبل دخول البحر كنّا نذهب إلى عائلة من أقرباء والدتي تعيش في «الزاوية الشاذليّة» القريبة من «حمّام الباشا»، أحيانًا نحمل هديّة من والدتي، بامية ولوبيا أو تينًا من القرية، نترك ملابسنا عندهم، ونرتدي ملابس البحر، نذهب إلى الشاطئ الّذي عادة ما يكون مكتظًّا بالناس، وبعض الخيل الّتي يحضرونها لغسلها؛ ولهذا أطلقت عليه بلديّة عكّا تسمية «شاطئ الخيول». هناك تعلّمت السباحة، ولكن في مرّات عدّة اندلعت طوشات بين أولاد العرب واليهود. كان يصل الشاطئ شبّان يهود بقيادة شابّ من إحدى العائلات المشهورة في عكّا، وهي من أصل مغربيّ، سرعان ما يتحوّل حضورهم إلى توتّر، ثمّ إلى اشتباك بالأيدي والعصيّ والجنازير، وعادة ما تتدخّل الشرطة منحازة إلى صالح اليهود، ولا سيّما بعد ظهور خليّة فدائيّة في عكّا عام 1968.

 كنّا بعد الاستحمام في البحر، نعود إلى «الزاوية الشاذليّة» لنستحمّ في المياه العذبة، ثمّ تقدّم لنا قريبتنا وجبة من الطعام، ونودّعها عائدين إلى مجد الكروم، أو نبيت حتّى اليوم التالي أو لبضعة أيّام في العطل المدرسيّة.

هكذا في سنّ مبكّرة تعرّفت أزقّة عكّا، وبدأت تربطني بها علاقة حميمة، وصرت آلف وجوه أهلها، وأعرف الطرق المختصرة، وأسماء حاراتها ومساجدها وكنائسها، والكثير من الشخصيّات المميّزة فيها، من بسطاء الناس وفقرائهم إلى ذوي الرتب الاجتماعيّة، رياضيّين وفنّانين وتجّارًا وباعة.

تعرّفت السور وأنفاقه وزواياه، و«سينما بستان» أو «البرج» في داخل السور، والسينما الّتي عُرِفَت بـ «سينما الأهلي»، وهي خارج الأسوار في «حيّ الرشاديّة»، وقد تبدّل اسمها ثمّ تحوّلت إلى قاعة.

مشيت شمالًا إلى «مقام عزّ الدين» على الشاطئ الغربيّ في الشتاء والصيف، وراقبت الصيّادين بصنانيرهم الّتي يُسَمّيها أهل عكّا «غابة». في ما بعد تعلّمت الصيد، ومارست هذه الهواية أعوامًا عدّة.

ندخل إلى «سينما بستان»، ونركب الحناطير الّتي تجوب شوارعها وأزقّتها، أو نستأجر الدرّاجات الهوائيّة. إلى جانب هذا، فإنّ المثلّجات «الأسكيمو» والبوظة الّتي كانت تُباع في قريتنا مصدرها عكّا...

 

عرفت الخانات، والمتحف، والقلعة الّتي اسْتُخْدِمَت في تلك السنين مستشفًى لذوي الأمراض النفسيّة، وعرفت أولئك الّذين يلعبون «الثلاث ورقات»، وهم عادة من اليهود المغاربة، يخدعون القرويّين ويوهمونهم بسهولة الربح، ويمنحونهم ربح مبلغ بسيط، ثمّ يستخدمون كلّ الوسائل لابتزازهم وأخذ كلّ ما في جيوبهم.   

في اليوم الأوّل من العيد نسافر إليها، لنصرف ما حصلنا عليه من معايدات من الأهل والأقارب، ولا يحلو دخول عكّا والخروج منها بلا وجبة فلافل؛ فقد اشتهرت عكّا بفلافلها وحمّصها وفولها المميّز حتّى يومنا.

ندخل إلى «سينما بستان»، ونركب الحناطير الّتي تجوب شوارعها وأزقّتها، أو نستأجر الدرّاجات الهوائيّة. إلى جانب هذا، فإنّ المثلّجات «الأسكيمو» والبوظة الّتي كانت تُباع في قريتنا مصدرها عكّا، حتّى الصور الشخصيّة الأولى تصوّرناها في عكّا.

كان سفر الوالد إلى عكّا يعني إحضار الهريسة من صناعة عكّا المحلّيّة، وكذلك الحلاوة الجوزيّة أو الراحة والفستقيّة والسمسميّة والمعمول، وما زالت هذه الصناعات المحلّيّة العكّيّة مميّزة، وجرت عليها تطويرات كثيرة.

عندما بدأت أعمل في المصانع وأكسب النقود، كنت أحيانًا أعرّج إلى عكّا بدلًا من السفر إلى العمل، أقتني جريدة، وأصعد إلى السور من الجهة الشرقيّة الشماليّة، أستلقي على العشب وأقرؤها على مهلي، وأتناول زوّادتي، وأقضي الساعات سائحًا، ثمّ أعود مع حلّة العمّال إلى البيت، متظاهرًا بأنّني كنت في العمل، فتستقبلني والدتي: "يعطيك العافية يمّا!"، فأردّ: "الله يعافيكِ يمّا!"، ثمّ تُعِدّ لي الطعام، "فأنا مرهق، وفي حاجة إلى الراحة".

دخلت المتحف في عكّا غير مرّة، وكان لي صديق عانى من مرض نفسيّ، كنت أزوره في القلعة الّتي اسْتُخْدِمَت غرف سجنها كمستشفى، وهو المكان الّذي فيه المشنقة، استخدمها الإنجليز لإعدام الثوّار العرب، ومنهم الشهداء محمّد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، لكنّها صارت متحفًا تحكي عن بطولات موشيه ديان الّذي سُجِنَ فيها وتمكّن من الهرب، وتتجاهل الشهداء العرب مقاومي الاستعمار والأطماع الصهيونيّة.  

ازدادت العلاقة الوثيقة بعكّا، بانضمام عدد من لاعبي كرة القدم العكّيّين إلى فريق «النادي الأهلي» في مجد الكروم، أذكر منهم المرحوم رجب الّذي كان مشهورًا بركلاته بقدمه اليسرى، وخليل أبو حمام الّذي قلت إنّه عمل منقذًا على شاطئ «أرجمان»...

ازدادت العلاقة الوثيقة بعكّا، بانضمام عدد من لاعبي كرة القدم العكّيّين إلى فريق «النادي الأهلي» في مجد الكروم، أذكر منهم المرحوم رجب الّذي كان مشهورًا بركلاته بقدمه اليسرى، وخليل أبو حمام الّذي قلت إنّه عمل منقذًا على شاطئ «أرجمان» حتّى قبل أعوام قليلة، وكان قلب هجوم خطيرًا، وأبو علي الجمل، وأبو الرزق، وعبد، وغيرهم.

في المراهقة كنّا نقضي النهار في محاولات اصطياد السائحات الأجنبيّات، لم نحقّق نجاحات معتبرة، سوى أحد الأصحاب، كان متمكّنًا بشكل مدهش من الإنجليزيّة، وكان يحفظ بعض أغاني «البيتلز»، الفرقة الأشهر في تلك الحقبة، وكان يدهشنا في سرعة إقناعهنّ بمرافقته. مضت سنوات، وسافر إلى أمريكا، ثمّ عاد بعد عقدين أو أكثر ليسكن في عكّا، وصار يعمل مترجمًا ومرشدًا سياحيًّا في «جامع الجزّار».

عشت في عكّا غير قصّة حبّ واحدة، مع فتيات من عكّا نفسها، ومع قرويّات زائرات لعكّا، فسورها وبحرها وأزقّتها كانت حضنًا دافئًا لعشّاق المنطقة كلّها.

في أواخر السبعينات، تعرّفت على الأخ يعقوب حجازي وعلى شقيقه عصام، اللذين أسّسا «دار الأسوار للطباعة والنشر»، ومن هناك اقتنيت الكثير من الكتب، من أدب الشتات الفلسطينيّ والضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، ومختارات من الأدب العربيّ الحديث التقدّميّ.    

هذه العلاقة استمرّت، حتّى يومنا هذا، مع «مؤسّسة الأسوار» الّتي أصدرت لي مجموعتي القصصيّة الأولى «المبارزة» عام 1991، ثمّ روايتي الأولى «عصيّ الدمع» عام 1997، وغيرها من مؤلَّفاتي للكبار وللأطفال والفتيان في ما بعد.

عكّا مسقط رأس كثير من المبدعين والفنّانين، وحاضنة لعدد كبير من الشعراء والكتّاب والفرق المسرحيّة والغنائيّة والرسّامين والنحّاتين. لا أريد تفصيل الأسماء لأنّها أكثر من أن تُحْصى، وأخشى أن أغفل أحدًا.

كثيرًا ما أتّكِئ برأسي على موجة، وأنظر من بعيد إلى المدينة المسوّرة، وتخطر ببالي الأمم الكثيرة الّتي استحمّت في هذه المياه واستراحت على شواطئها، والجيوش الّتي مرّت بها وقصفتها أو حاصرتها ووقفت على أسوارها...

كثيرًا ما أتّكِئ برأسي على موجة، وأنظر من بعيد إلى المدينة المسوّرة، وتخطر ببالي الأمم الكثيرة الّتي استحمّت في هذه المياه واستراحت على شواطئها، والجيوش الّتي مرّت بها وقصفتها أو حاصرتها ووقفت على أسوارها، من أوروبّيّين وآسيويّين، من شعوب قديمة وحديثة، من عرب ويهود، من سائحين وناقهين.

عكّا صورة لتاريخ البشر، للجمال والحبّ، للفنون كلّها، للعشرة الجميلة، للحروب والغضب، لتقلّب مزاج التاريخ كما الأمواج، عكّا ليست فلسطينيّة فقط، إنّها مدينة الإنسانيّة كلّها، فتاريخها مرتبط بكثير من الأمم، عكّا صبيّة عاشقة مراهقة لا تشيخ أبدًا.

 

 

تُنْشَر هذه المادّة ضمن ملفّ «الساحل الفلسطينيّ»، بالتعاون بين جمعيّة الثقافة العربيّة وفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ورمّان الثقافيّة، في إطار «مهرجان المدينة للثقافة والفنون» 2020.

 

 

 

سهيل كيوان

 

 

كاتب صحافيّ وروائيّ من فلسطين. عمل محرّرًا أدبيًّا في صحيفة "كلّ العرب" بين عامي 1998 و2014، ويكتب منذ سنوات في صحيفة "القدس العربي" وموقع "عرب 48". له مؤلّفات عديدة في القصّة القصيرة، والرواية، وأدب الأطفال، والمسرحيّات، بالإضافة إلى دراستين أكاديميّتين. حاصل على جائزة مؤسّسة توفيق زيّاد للثقافة الوطنيّة عام 2002، عن دراسة نقديّة في أدب غسّان كنفاني.

 

 

التعليقات