08/03/2021 - 12:49

«قصائد الرصيف»: الإمساك بالحقائق الصغيرة للأشياء

«قصائد الرصيف»: الإمساك بالحقائق الصغيرة للأشياء

مريد البرغوثي (1944 - 2021)

 

شكّل صدور مجموعة «قصائد الرصيف» لمريد البرغوثي، في بداية الثمانينات، حدثًا أدبيًّا بين الشعراء الفلسطينيّين، وخاصّة الشباب منهم في تلك الفترة، الباحثين عن أساليب ومغامرات جديدة في الكتابة الشعريّة، والراغبين في التحرّر من السطوة الجماليّة لقصائد محمود درويش، ذات النفَس الجماعيّ الملحميّ حتّى في أكثرها شخصيّة وحميميّة، والباحثين عن طرق ومسارب سرّيّة للإفلات من سحر لغته واستعاراته ذات الطابع الغنائيّ، رغم هاجسها البنيويّ حتّى في أكثرها سرديّة. لذا؛ فقد أدخلتْ هذه المجموعة نغمة جديدة على الشعر الفلسطينيّ، كما يشير إلى ذلك الشاعر غسّان زقطان الّذي تأثّر بقصائد هذه المجموعة: "‘قصائد الرصيف‘ كانت أقرب إلى مغامرة في حينها، شيء من الخروج على الاتّفاق، نصوص هادئة تذهب إلى الهامش والعاديّات، والتفاصيل المتروكة خلف المطوّلات، والأفكار الكبيرة".

 

"أنا لا أغنّي، أنا أبني"

واستطاع البرغوثي تحقيق ذلك الاختراق الجماليّ في الشعر الفلسطينيّ، من خلال نمط جديد من «القصائد المشهديّة»، الّتي تتركّز حول حدث أو لقطة وتُمْعِنُ في تفاصيلها، بحيث يستطيع القارئ أن يشعر بالحياة تنبض في ثناياها؛ فهو وصف لمشهد ينمو، ويتجسّد من خلال الاستغراق في وصف تفاصيل بسيطة تعمّق إحساس القارئ به. وإذا كان الشاعر الفرنسيّ المعاصر فرنسيس بونج Francis Pong يرى أنّ الأشياء مهما تكون بسيطة فإنّها تحمل معنًى قيّمًا في ذاتها، مستغرقًا في قصائده بوصف شيء محدّد مثل «برتقالة» أو «سيجارة» موضوعًا رئيسيًّا في القصيدة؛ فإنّ البرغوثي كان يُعْنى أكثر برسم مشاهد كاملة كما يؤكّد ذلك راسم المدهون: "قصيدة مريد هي كما عرفناها تميل إلى رسم مشاهدها، فتجذب قارئ الشعر إلى حيويّة المشاركة في تخيّل مشاهده، بل في محاولة استعادتها والعيش معها وفيها".

دقّة التأمّل، والتحكّم بتوظيف المفردة ودلالاتها، ومهارة البناء الفنّيّ، هذه العناصر جميعًا هي أساس القدرة على التشكيل البصريّ الّذي يحقّقه البرغوثي شعريًّا، الّذي يقول: "أنا لا أغنّي، أنا أبني"...

دقّة التأمّل، والتحكّم بتوظيف المفردة ودلالاتها، ومهارة البناء الفنّيّ، هذه العناصر جميعًا هي أساس القدرة على التشكيل البصريّ الّذي يحقّقه البرغوثي شعريًّا، الّذي يقول: "أنا لا أغنّي، أنا أبني". فإذا كانت هذه التقنيّة في الكتابة المشهديّة تستفيد من فنون السينما، فإنّها تستفيد أيضًا من توجّهات الفنون التشكيليّة الحديثة، منذ لوحة «حذاء فان غوغ» الّذي كتب عنه المؤرّخ الفنّيّ ماير شابيرو Meyer Schapiro مقالة بعنوان «المشهد الحيّ كمسألة شخصيّة»، وناقشه هايدجر في كتابه «أصل العمل الفنّيّ»؛ فالحذاء المرسوم هنا يعبّر عن حياة إنسان كاملة، ويستطيع أن ينقل إلينا كلّ الأسى والشروخ، الّتي تملأ سيرته ببلاغة تعادل - وربّما تفوق - أكثر البورتريهات الكلاسيكيّة أسًى وبؤسًا.

ولتوضيح قولنا؛ نأخذ قصيدة «اشتهاء» مثالًا على هذه «القصائد المشهديّة» في مجموعته، فحين نقرأ هذه القصيدة، الّتي تصف غياب شخص، نستطيع فهم آليّة الأسر الوجدانيّ الّتي تعتمدها تجاه القارئ؛ إذ يتنقّل الشاعر في بداية القصيدة من وصف «الحزام المتروك»، ثمّ «الحذاء المركون» على الأرض، و«القمصان المعلّقة»، و«الأوراق المتناثرة» على الطاولة، حاصرًا مكان القصيدة في زاوية الغرفة الّتي تتجمّع فيها هذه الأشياء، الّتي هي الأقدر والأكثر صدقًا على رواية غياب صاحبها، الشخص المُفتقد. كأنّ ثمّة كاميرا بطيئة تدور على هذه الأشياء في ركن الغرفة، فتتحقّق بذلك وحدة ثلاثيّة: زمانيّة ومكانيّة وموضوعيّة؛ وهو ما يخلق لحظة شديدة من التركيز الوجوديّ والشعريّ.

 

إسقاط ضمير الجماعة

من جهة أخرى، هذا النمط من القصائد يُسقط ضمير الجماعة، غالبًا، ويعبّر عن صوت فرديّ، وزاوية نظر محدّدة، يقترحها الشاعر الّذي يقود الكاميرا ويختار زاوية التقاط المشهد، مضيئًا بعضًا من جوانبه بمفردات دقيقة، وتاركًا ظلالًا حوله بمفردات أخرى.

هذا النمط من القصائد يُسقط ضمير الجماعة، غالبًا، ويعبّر عن صوت فرديّ، وزاوية نظر محدّدة، يقترحها الشاعر الّذي يقود الكاميرا ويختار زاوية التقاط المشهد، مضيئًا بعضًا من جوانبه بمفردات دقيقة...

وهذا النوع من القصائد شكّل جزءًا من المجموعة؛ فهناك قصائد أخرى تنزع قليلًا إلى الغنائيّة - كقصيدته المُهداة إلى ابنه تميم - وقصائد أخرى تميل إلى السرديّة، ولها طابع وجدانيّ بارز، وإن ظلّ هاجسها البناء. لكن هناك قصائد مشهديّة ميّزت هذه المجموعة، ومنحتها تلك الروح التجديديّة في الشعر الفلسطينيّ. نأخذ مثالًا آخر عليها قصيدة «يقين»، الّتي يقول فيها:

بطيئة يد المساء وهو يغلق الأبواب

بطيئة يد الفتاة وهي تغلق النوافذ

وتسحب الستائر الثقيلة

 

حتّى تنتهي القصيدة بنهاية مفتوحة تظلّ تعمل في مخيّلة القارئ حتّى بعد الانتهاء من قراءتها، وكأنّها تواصل عملها في مخيّلته بالتشكّل وأخذ الاحتمالات:

وباردٌ هو المساء

وملمس الملاءة

تشدّ فوق جسمها الغطاء

وتترك الحجرات كلّها مضاءة

 

هنا لغة متقشّفة، تقول الأشياء من خلال وصف محدود، محسوب، لا يأخذ المعنى بعيدًا عن الشيء الموصوف، وعن موضوع القصيدة؛ فليس ثمّة تفجير عشوائيّ للمعنى، بل لحظة من التركيز الوجوديّ والشعريّ اللَّذَيْن لا يستطيع حتّى قارئ شارد الإفلات منهما؛ فلا يذهب الوصف إلى تفرّعات جانبيّة تبتعد عن محور القصيدة، وحركتها الّتي تنمو في اتّجاه محدّد يقودها إلى نهاية القصيدة. فحين يقول "تسحب الستائر الثقيلة" هنا لن يطيل في وصف الستائر، باستعارات إضافيّة أو فرعيّة، بل يكتفي بذكر أنّها ثقيلة، ويتابع قائلًا إنّ "يد المساء باردة"، و"ملمس الملاءة" كذلك. ثمّ يُكْمِلُ وصفه لأشياء أخرى حتّى ينتهي إلى آخر القصيدة. كأنّها قطع يركّبها واحدة بعد أخرى، لتكتمل اللوحة في النهاية، وتبزغ لنا الفكرة فجأة. أو كأنّها لقطات صغيرة تتوالى، من زوايا متعدّدة، وجوانب مختلفة، حتّى يكتمل أمامنا المشهد وتبزغ الرؤية.

 

تقشّف

في هذا النوع من القصائد المشهديّة لدى البرغوثي، يُوصَف الشيء كما هو تقريبًا، متجنّبًا أيّ استنزاف جماليّ أو أيّ مبالغة فنّيّة تبعدنا عن محور القصيدة. مثلما قال لنا مرّة في «لقاء الإثنين»، الّذي كنّا ننظّمه شعراءَ شبابًا في بيت الشعر الفلسطينيّ برام الله، للقاء الكتّاب العائدين في تلك الفترة من نهاية التسعينات: لا تتوقّعوا منّي أن أصف شيئًا بالقول: "آه يا بنفسجة الرؤى". البرغوثي يأخذ القارئ في طريق محدّد؛ لأنّه يريد أن يوصله دائمًا إلى فكرة أو حالة شعوريّة تنتهي في نهاية القصيدة. يتجنّب الطرق الفرعيّة المُغْرِيَة والاستعارات الفجائيّة، حتّى وإن كانت جميلة، ويَحْذَرُ من أيّ وصف جانبيّ قد يَحْرِفُ المعنى، حتّى لا يتشتّت القارئ عن الفكرة الرئيسيّة للقصيدة، ولا يضيع الخيط من يده، فلا تصبح الأشياء والموجودات هنا ذريعة لاستعارة إضافيّة، أو لانبعاث صورة شعريّة تتفرّع وتذهب بعيدًا. وفي ذلك توارد وتقاطع مع ما يقوله الشاعر باسم النبريص: "الاستعارة خسارة، والمجاز عجز". الاستعارة والصورة الشعريّة حاضرتان بالطبع في شعر البرغوثي، لكنّهما مضبوطتان ولا مجّانيّة فيهما.

والشيء في القصيدة ليس ذريعة للغناء، أو للتحليق بعيدًا، بل تقشّف شعريّ يحاول التحرّر من التاريخ الطويل والعريق للغنائيّة في الشعر العربيّ، حتّى لو كان الثمن فقدان القصيدة لبعض جماليّاتها المألوفة...

والشيء في القصيدة ليس ذريعة للغناء، أو للتحليق بعيدًا، بل تقشّف شعريّ يحاول التحرّر من التاريخ الطويل والعريق للغنائيّة في الشعر العربيّ، حتّى لو كان الثمن فقدان القصيدة لبعض جماليّاتها المألوفة، وحدوث مغامرة في التلقّي. وثراء هذه النصوص لا يأتي من قراءاتها المتعدّدة، واحتمالات التأويل، فهي نصوص القراءة الواحدة، بل يأتي ثراؤها من دقّة الوصف، وقدرتها في القبض على معنًى خفيّ، أو بعيد أو غامض، ومن قدرتها في التوغّل في عمق الحالة الشعوريّة، كأنّها كتابة تخطيطيّة تلتجئ إلى التشريح، وهمّها الإمساك بالحقائق الصغيرة للأشياء. بينما نهاياتها تأتي أحيانًا مفتوحة، وهذا ما يمنح القارئ هامش التخيّل واستخلاص الفكرة، كما في قصيدة «يقين» الّتي تنتهي بـ "غُرف مُضاءة". وأحيانًا أخرى تأتي نهاياتها مقفلة، صادمة، تخلق المفارقة الكلّيّة مع كلّ ما تقدّم سرده في القصيدة، أو حسب وصف البرغوثي نفسه: "قد تؤدّي إلى انقلاب كلّيّ في المعنى"، كما هو الحال في قصيدة «مسؤول»، الّتي يصف فيها البرغوثي الطقوس اليوميّة لمسؤول عربيّ، فتبدأ بـ "رغوة الصابون والعطر" وتنتهي بـ "مشنقة"! إنّ «القصائد المشهديّة» هنا هي نصوص القراءة الواحدة، لكنّها تملك أن تطبع المخيّلة، مثل وشم، بعد الانتهاء من القراءة.

 

 

أنس العيلة

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها "عناقات متأخّرة". ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.

 

 

 

التعليقات